السيمر / الأربعاء 03 . 02 . 2016
د. عبد الحي زلوم / فلسطين
مهما تقدم الاقتصاد في أي بلد كما حصل في تركيا اليوم والمكسيك وكوريا أو اندونسيا بالأمس يبقى ذلك الاقتصاد رهينة في أيادي قليلة من أصحاب النظام الرأسمالي العالمي القابعين في وول ستريت. ومنذ أن حولوا المال إلى نبضات إلكترونية، أصبح بمقدورهم أن يهاجموا بكمبيوتراتهم فقط هذا البلد أو ذاك فيتحول اقتصاده إلى خراب يقومون بعد ذلك بشراء مؤسساته وبنوكه بأسعار محروقة بل ويملوا شروطاً إقتصادية وسياسية مجحفة. هذا النظام الطفيلي يفترس ثمار اقتصادات دول الأطراف بإختلاق الأزمات متى يشاء كما سنبين في حالة المكسيك ودول جنوب شرق اسيا. والاقتصاد التركي ليس محصناً عن مثل هذه الهزات متى أراد أصحاب المال العالمي سواء نتيجة لحسابات الربح والخسارة أو لاسباب سياسية أو أخرى . فهو من دول الأطراف وسيبتلع المركز الأمريكي ثمار اقتصاده إن أجلاً أو عاجلاً. ومن خصائص هذه العولمة اغراق الدول النامية بالديون بحيث يصبحُ اقتصادها يعمل لخدمة الديون وفوائدها لا لخدمة مواطنيها !
حققت الولايات المتحدة بوسائل الاموال المضاربة والعولمة ما عجزت عن تحقيقه باستعمال القوة الغاشمة . وكانت الشركات النفطية الامريكية في المكسيك قد أُمِمَت في العام 1939 وأصبحت شركة النفط المكسيكية بيمكس PEMEX المالكة والقائمة على ادارة صناعة النفط والغاز منذ ذلك الحين . وبالمقابل ، فقد فرضت حقيبة الانقاذ التي حاكت تفاصيلها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي عام 1995 شرطاً تلتزم المكسيك بموجبه برهن كافة الايرادات النفطية وايداعها كضمان لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك . ورفض مسؤولو وزارة الخزانة الامريكية كفاية توقيع وزير المالية المكسيكي على صك الرهن ، فطلبوا توقيع شركة بيمكس ايضاً . وكان جزء من “الوصفات العلاجية” التي حفلت بها حقيبة الانقاذ آنفة الذكر ان تقوم المكسيك ببيع مرافق القطاع العام المكسيكي ومنها مجمعات صناعة البتروكيماويات والغاز. وهكذا استطاع الاستعمار الجديد وبأدوات العولمة التي تم وضعها لهذا الغرض بعد الحرب العالمية الثانية ان يحقق بواسطة صندوق النقد الدولي في حالة المكسيك ما كان يحققه الاستعمار القديم من سلب للثروات . دعنا نبين بعض التفاصيل:
لما كانت معدلات الفائدة في الولايات المتحدة متدنية وفي المكسيك مرتفعة ، فقد كان في ذلك فرصة ذهبية لمدراء صناديق الاموال الامريكيين للقيام بأعمال المراجحة حيث يقترضون الاموال في الولايات المتحدة ويستثمرونها في المكسيك. وما هو من الاهمية بمكان في هذا المقام ان المكسيك كانت قد اصبحت عندئذ “دولة صالحة Reformed” وهذا يعني بلغة الحقيقة ان الممولين اصبحوا يستطيعون اقتحام السوق المكسيكية والخروج بأموالهم منها في الوقت الذي يشاؤون . وهكذا بدأ تدفق الاموال منهمراً الى المكسيك وأوجد الممولون الامريكيون ومدراء صناديق الاستثمار الفقاعة الكبرى ، وكان من ثمار هذا الهجوم على السوق المكسيكية ان تضاعفت اسعار الاسهم هناك اربع مرات في غضون 2-3 سنوات وقد سيطر مستثمرو الأوفشور Offshore Investors على حوالي 50 % من سوق الاوراق المالية المكسيكية وحوالي 25 % من الدين الحكومي قصير الاجل قبل ان يقرروا ان يخرجوا من المكسيك بأموالهم ويدمروا اقتصادها تاركينه كجثة هامدة . لقد نفخ الممولون الدوليون الفقاعة حتى تضخمت ، وها هم يفجرونها .. ولم يكن لديهم من ثأر ضد المكسيك ولكن اسعار الفائدة قد اخذت تنتعش في الولايات المتحدة ولاح بريق فرص استثمارية – او بالاصح فرص لجمع الاموال – اكثر اغراء في امكنة اخرى من العالم . وكان ما استخدموه في الاقتصاد الحقيقي المنتج في المكسيك يعادل 25 % فقط من كل الاموال الاستثمارية اما النسبة الباقية وهي 75 % فقد سخرت للمضاربات وفي عمليات الاسواق المالية . وحتى الـ25% التي استثمرت في الاقتصاد المنتج فقد كانت محصورة في الغالب في الشركات متعددة الجنسيات والتي كانت معنية بالتداول بين الشركات في معزل عن الاقتصاد المكسيكي برمته .
وعندما ارتفعت اسعار الفائدة في الولايات المتحدة بدءاً من مطلع عام 1994 كان لدى المكسيك قدر معقول من الاحتياطيات الاجنبية يبلغ 25 مليار دولار . ولكن الهجرة المستمرة لرؤوس الاموال المضاربة العائدة للممولين الدوليين استنـزفت الاحتياطيات آنفة الذكر ولم تدع لها بحلول نهاية عام 1994 سوى النـزر اليسير فيما خسرت العملة الوطنية المكسيكية حوالي 50 % من قيمتها في غضون اسابيع قليلة . ونتج عن ذلك ذوبان اقتصادي أكل الاخضر واليابس .
وحتى قبل ان تكشر الازمة عن انيابها ، كان لدى المكسيك ، على الصعيد العملي اقتصادان ، احدهما حقيقي منتج ، والاخر اقتصاد مالي امتصاصي . وقد تمت خصخصة وإعادة تكوين الاقتصاد الحقيقي ليكابد المعاناة ردحاً طويلاً من الزمن لاسترضاء الممولين العالميين ولتحصل المكسيك منهم على شهادة حسن السلوك ، فقد تم فتح هذا الاقتصاد على مصراعيه بعد تحريره من القوانين التي تحمي الصناعة الوطنية ، ونتج عن ذلك ان خسرت صناعة الملبوسات امام المنافسين الآسيويين ، ودمرت صناعة الورق والسكاكر امام المنافسين من الولايات المتحدة . وهكذا دواليك، حيث ان هذه الصناعات لم يجر إعدادها لمتطلبات المنافسة الدولية قبل ان تفتح الحدود امام المنافسة العالمية . ولما تصاعدت الازمة وبلغت ذروتها نهايات عام 1994 كان احد خيارات المكسيك ان تتوقف عن الدفع ، وكتب الكثيرون بمن فيهم اقتصاديون امريكيون بارزون ومنهم أستاذ الاقتصاد في جامعة MIT المشهوره البروفسور لستر ثورو ان ذلك كان خياراً جيداً قابلاً للتطبيق وربما كان الخيار الافضل من ذلك الخيار الذي تبنته المكسيك أو أجبرت عليه ألا وهو طلب المساعدة من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي .
وكان الممولون الدوليون هم المستفيدون الفعليون لأية حقيبة انقاذ لانها ستسمح لهم بأن يسحبوا ما تبقى من اموالهم من المكسيك. وكانوا يدفعون برجالاتهم في واشنطن وفي امكنة اخرى في العالم للتوصل الى خطة انقاذ وبسرعة . كما كانوا يخشون من وقوع كارثة عالمية نظراً للنتائج الخطيرة والجسيمة على الاسواق المالية والممولين الدوليين.
سار الفلاحون في مواكب احتجاجية ومسيرات جماهيرية اعترضتهم قوات البوليس والجيش واطلقت عليهم الذخائر الحية لتفريقهم مما نجم عن ذلك مقتل العديد من المتظاهرين . وجاء في التقديرات ان الحاجة ماسة لمبلغ 50 مليار دولار تقريباً لوقف الهبوط المريع للبيزو – العملة المكسيكية – واستعادة النظام الاقتصادي .
ولكن ما هي الشروط التي رافقت حقيبة الانقاذ هذه ؟
•يجب على المكسيك ان تخضع سياساتها المتعلقة بالعرض النقدي ، الانفاق المالي ، الاقتراض الاجنبي في المستقبل والائتمان المحلي الى الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة والتي تم املاؤها كجزء من خطة الانقاذ تلك .
•يجب على المكسيك ان تبيع افضل ما لديها من موجودات مثل الموانئ ، السكك الحديدية ، البتروكيماويات ، الاتصالات …الخ ، لجمع مبلغ 12 مليار دولار . ويجب ان تبدأ عملية البيع على الفور بصرف النظر عما اذا كانت الاسعار قد اصبحت في الحضيض ومتدنية للغاية جراء الازمة التي مرت بها البلاد .
•ينبغي على المكسيك ان تفتح الابواب لتملك الاجانب في بنوكها والتي لم يكن يسمح للاجانب بالتملك بها .
•على المكسيك ان تودع كافة ايراداتها النفطية لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك .
اما النتائج التي تلت توقيع هذه الاتفاقية عام 1995 فكانت :
•تقلص الاقتصاد المكسيكي بواقع 7 % .
•زيدت ضريبة القيمة المضافة Value Added Tax (VAT) الى 15 %
•تم تخفيض الدخل الحقيقي بواقع 33 % فيما قفز التضخم لتلك السنة الى 40 % بينما حدد سقف الزيادات بواقع 7 % كحد اقصى .
•ارتفعت اسعار الفائدة في غضون عدة اشهر من 15 % إلى 130 % .
•أصبحت نسبة 30 % تقريباً من كافة القروض في البلاد غير منجزة – لا تسدد في مواعيدها .
•آل الى الانهيار ثمانية من أصل اضخم ثمانية عشر مصرفاً رئيسياً في البلاد واصبحت الحاجة ماسة لانقاذ الباقي على يد الحكومة .
•اعلنت بعض الشركات الكبرى افلاسها وبلغ مجموع الشركات التي انهارت ما يزيد عن 8000 شركة .
•سجلت اسعار الوقود زيادة بنسبة 48.5 % .
•زيدت اسعار الطاقة الكهربائية بنسبة 32 % .
•اصبحت الدولة التي كانت مكونة من صغار المزارعين وكانت من بين الدول التي تصدر المواد الغذائية عندما كان المزارعون يتلقون الدعم الحكومي ، اصبحت الان دولة مستوردة للغذاء معتمدة عليه من جارتها الشمالية الولايات المتحدة .
•أقدمت عائلة احد المزارعين الذي توفي عندما استولى البنك على ارضه جراء اخفاقه في تسديد القرض ، على احضار جثته الى البنك احتجاجاً ، قائلة انه يمكنهم اخذ جثته تسديداً للدين .
•سجلت الجريمة تصاعداً كبيراً في معدلاتها
•وجد بنك بنكومر Bancomer انه بحاجة الى موقف سيارات يتسع لحوالي 75 ألف سيارة مرهونة لو استولى البنك على السيارات التي توقف اصحابها عن دفع اقساطها .
•وتم دفع 10 % من اجمالي الناتج القومي للمكسيك كفوائد على الديون .
وماذا عن أزمة جنوب شرق اسيا؟
الازمة التي بدأت صغيرة في تايلاند بقيت تتفاعل وتنمو خلال سنة 1998. وتقلصت الطبقة الوسطى بشكل كبير، وانخفضت القوة الشرائية للأكثرية العظمى من الشعوب، فانخفضت (بمقياس الدولار) بـ 82% في اندونيسيا و 43% في تايلاند، و 34% في ماليزيا.
بالنسبة للاندونيسيين الذين يشكلون اكبر كثافة سكانية مسلمة في الدولة و عندما تلكأ سوهارتو في قبول وصفات صندوق النقد الدولي هاتفة الرئيس الأمريكي كلينتون قائلاً أن عليه أن يقبل تلك الوصفات كانها قادمة من عند الله! . ان هذه هي يد الممولين الدوليين المجردين من المشاعر، وصندوق النقد الدولي الذي يتولى ضمان اموالهم والدفاع عن مصالحهم .
أفلست 260 شركة من أصل 280 شركة في بورصة جاكرتا، وبهبوط العملة المحلية إلى أكثر من النصف وحيث أن ديون اندونسيا كانت بالدولار أصبح عبء الدين ضعف ما كان عليه قبل الأزمة بالعملة المحلية!!!.
هذا السيناريو يمكن أن يتكرر مع تركيا أو أي دولة تخضع تحت الوصاية العسكرية والأحلاف ( مثل ناتو) وتتبع نظام العولمة الاقتصادية الأمريكية فهي عرضة لمثل هذه الكوارث متى شاء ذلك أصحاب النظام العالمي الرأسمالي
) المعلومات الاقتصادية والاحصائيات عن كتابي نذر العولمة -الطبعة الثانية 1999- ونشرته 7 صحف عربية انذاك.(
مستشار ومؤلف وباحث
رأي اليوم