المركز الخبري لجريدة السيمر الإخبارية / الثلاثاء 23 . 02 . 2016 — طورات متسارعة ومفاجئة تشهدها الفلوجة في محافظة الأنبار التي توارت عن الواجهة خلال الأشهر القليلة الماضية بفعل قرار سياسي أرجأ الحسم في «العاصمة الحيوية لدولة الخلافة الإسلامية». فالمدينة الواقعة غربي العاصمة بغداد والمطوقة من قبل فصائل في الحشد الشعبي تبعث على نحو متزايد بإشارات إلى «تمرد على تنظيم داعش».
وعلى الرغم من حرص السلطات المحلية والوجوه العشائرية في الفلوجة على تصوير التطورات الأخيرة بوصفها ثورة على التنظيم الذي «يصعد ممارساته الوحشية بحق الأهالي»، إلا أن تلك الرواية تبدو مفتوقة من نواحٍ عديدة ومعزولة من مجمل السياق الحاكم لجديد الأوضاع في بلاد الرافدين.
تبرر التشكيك في رواية رئيس مجلس عشائر الفلوجة عبد الرحمن الزوبعي وعضو اللجنة الأمنية في مجلس الأنبار راجح العيساوي وقادة حشد الأنبار العشائري، جملة معطيات تتصل بالآونة الفائتة والوضع الراهن. طوال الفترة التي تلت سيطرة «داعش» على الفلوجة في أوائل عام 2014 لم تعل من المدينة إلا أصوات الوجوه القبلية والعشائرية الحاضة على مبايعة التنظيم والركون إليه بديلاً من الدولة. أشهر هذه الوقائع سجلت في شهرَي أيار وحزيران من عام 2015. في 5 أيار 2015 انضم عدد من شيوخ الفلوجة إلى مشائخ آخرين في ما سمي «المؤتمر الأول لعشائر الأنبار». حينها، أصدر هؤلاء بياناً أعربوا فيه عن اعتقادهم «بأن الدولة الإسلامية ما جاءت إلا لإظهار الحق ورفع الظلم والحيف والقهر عن أبناء الأنبار خاصة وعن أهل السنة عامة، مرتضين بمن يمثلنا على الأرض من أبنائنا وإخواننا رجال الدولة الإسلامية طوعاً لا كرهاً».
بعد أسابيع قليلة فقط، انعقد «المؤتمر الثاني لعشائر الأنبار» بمشاركة مشائخ من الفلوجة، في ذلك المؤتمر الذي حمل اسم «في سفينة واحدة» اصطف المشائخ خلف المتحدث باسمهم الذي أعلن «من مدينة الرمادي قاهرة الصليبيين والرافضة مباركة الشيوخ والوجهاء وأبناء العشائر لأهالي عاصمة الأنبار النصر العزيز والمبين على أرجاس الردة وأدران الشرك». وأضاف تالي البيان «أن مصيرنا واحد وموقفنا واحد وسيفنا مع جنود الدولة الإسلامية موجه صوب عدو واحد. فنحن ركاب سفينة واحدة، إما أن ننجو جميعا وإما أن نهلك. لذا لن نسمح لأحد بخرق سفينتا أياً كان اسمه ونسبه وانتماؤه».
تلك المواقف أعقبها بأيام معدودات انعقاد اجتماع موسع تحت شعار «عشائر الفلوجة شوكة في عيون الأعداء». استهل الاجتماع بجرجرة الجندي العراقي سمير مراد إلى وسط ساحة عامة حيث أُعدم بالرصاص. وقبيل تنفيذ الحكم، ألقى الناطق بلسان المجتمعين بياناً أدان فيه «الحملة التي يشنها التحالف الصفوي على أهل السنة والجماعة»، واصفاً مقاتلي العشائر الذين اصطفوا إلى جانب الجيش والحشد الشعبي بالخونة. وأعلن الناطق «تضامن مجلس شيوخ عشائر الفلوجة والكرمة والأنبار مع الدولة الإسلامية ومع أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي ونقول له بأننا نقف معكم لقتال أعداء الدين والملة من الكفار والمرتدين والرافضة الحاقدين».
بناءً على ما تقدم وغيره الكثير يبدو سؤال: «فما عدا مما بدا؟» في هذا المقام منطقياً إلى حد بعيد. فالوجوه نفسها التي كانت إلى وقت قريب تقدم فروض الطاعة والولاء لتنظيم الدولة الإسلامية «بوصفه المخلص من هضم المركز»، بدأت تحثّ على محاربة التنظيم ومهاجمة مقاره وسحب البساط من تحت قدميه. يسوق هؤلاء في تبريرهم للثورة المباغتة على داعش روايات حول سياسة تجويع وتعذيب ينتهجها التنظيم بحق أهالي المدينة. غير أن المتتبع لطريقة داعش في إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته غربي العراق يتثبت من أن تلك الروايات تقارب كونها تزخيماً متعمداً أكثر مما هي تسييل تلقائي. تكفي العودة إلى تقارير الوكالات العالمية الأخيرة بهذا الشأن (تقرير «رويترز» في كانون الأول 2015 نموذجاً) للتحقق من أن التنظيم لم يتورع في وقت من الأوقات عن تسييد الجاسوسية والأخذ على الشبهات والقتل على الظنة. أما تردي الأوضاع المعيشية ونقص المواد الغذائية، فلا يبدو إلا نتيجة طبيعية لحالة الحرب والتطويق التي يشهدها محيط المدينة، والعائد اشتدادها إلى منتصف عام 2015.
معطى أكثر وضوحاً يضاعف الشبهات حول طبيعة الديناميات التي تدور في الفلوجة. لم تكد تمر ساعات على الاشتباكات التي اندلعت في غربي المدينة ووسطها وجنوبها، حتى نشر موقع إلكتروني مقرب من حركة حماس العراق التابعة لوزير المالية الأسبق رافع العيساوي شريط فيديو «يظهر جانباً من المعارك التي خاضها مقاتلو الحركة ضد داعش في الحي العسكري». كذلك نشر الموقع بياناً للحركة تتبنى فيه إحراق 4 مقار تابعة لداعش وتتوعده بالمزيد من الهجمات.
خطورة الإعلان المشار إليه تستبين من خلال العودة إلى سيرة العيساوي وهوية حماس العراق. فالعيساوي مطلوب للقضاء العراقي بتهمة الاشتراك في أعمال إرهابية، وهو المتهم الرئيس في التحشيد لخيم الاعتصام الشهيرة بمدينة الرمادي إثر اعتراف عناصر حمايته بارتكاب جرائم بناءً على أوامر شخصية منه. يضاف إلى ذلك، أن الرجل ومعه نائب رئيس الجمهورية الأسبق طارق الهاشمي، كانا الفاعلين الرئيسين في تنشيط عمل «تنظيم القاعدة» و»الجيش العراقي الحر» غربي العراق. كذلك كان لهما الدور الأبرز في التشجيع على دخول مسلحي «الدولة الإسلامية» إلى الأنبار ونينوى وتدعيم عملياتهم هناك. حتى أن البعض لم يتردد في مخاطبة وزير المالية الأسبق بالقول: «إن كل قطرة دماء تسيل في الأنبار برقبتك يا رافع». يشار أيضاً إلى أن الأخير (الاختصاصي في جراحة العظام والكسور والمتخرج من جامعة البصرة) عمل في فترة من الفترات طبيباً خاصاً لأبي مصعب الزرقاوي القيادي الشهير في القاعدة، وعقب مقتل الزرقاوي أرسل العيساوي وفداً خاصاً محمَّلاً بالأموال إلى مدينة الزرقاء الأردنية لتقديم واجب العزاء والوقوف على طبيعة الإجراءات القاعدية الداخلية التي ستعقب تصفية أحمد الخلايلة (الزرقاوي).
الأهم في سيرة العيساوي أنه كان قائداً لوحدات الفلوجة وعامرية الفلوجة في مجالس الصحوات التي شكلها الأميركيون في أواخر عام 2006. حينها، كانت خطة الولايات المتحدة تقتضي تسكين «القيادات السنية» المتخوفة من «الخطر الإيراني» والسائرة في «أهل السنة والجماعة» بتخويفهم «من مد شيعي يتهددهم وجودياً»، وإقناعها بتحويل البندقية إلى صدور «دولة العراق الإسلامية» مقابل وعد «بضرب إيران بعد التخلص من الإرهاب».
وذاك ما كان، تشكلت مجالس الإسناد أو الصحوات من الأحزاب السنية الرئيسية وفي مقدمها الحزب الإسلامي، وكان لكتائب «حماس العراق» التابعة للأخير والمرتبطة بالعيساوي والهاشمي باع طويل في عمليات الصحوات التي لم تخل، وفقاً لما يتهمها به خصومها، من تجاوزات وانتهاكات بلغت حد إعدام المعارضين لها والإلقاء بهم في مقابر جماعية.
اليوم، يبدو أن السيناريو نفسه يتكرر وإن بخلفيات أشد خطورة مما اكتنفته أحداث العامين 2006 و2007. ارتفاع راية الخروج على «داعش» في الفلوجة معطوفاً على إشراك عشائر الأنبار في تحرير الرمادي، مضافاً إلى تصدير الحشد الوطني في الموصل تشي جميعها بمشروع أميركي قديم جديد لإنتاج نسخة ثانية من الصحوات تأخذ على عاتقها محاربة مسلحي «الدولة الإسلامية» نظير تعهدات بحكم ذاتي يماثل الصيغة القائمة في كردستان إن لم يكن يتخطاها ويطورها وأخواتها نحو «كانتونات استقلالية» أوضح معالماً. من هنا، يمكن فهم التشديد الأميركي المتكرر على ضرورة «إشراك العرب السنّة» في الحرب على داعش والذي تجلت آخر أبرز فصوله في تصريح لوزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر قال فيه: «يجب أن يكون السنة في اللعبة». هذا الحرص غير البريء يرافقه ضغط متصاعد باتجاه استبعاد فصائل الحشد الشعبي من معركتي الفلوجة والموصل بعد استبعادها من معركة الرمادي، فضلاً عن انخراط مباشر وبالمجاهرة في هندسة الخريطة الميدانية في نينوى على نحو يلائم مصالح واشنطن ويرضي حليفتها أنقرة.
كأن الولايات المتحدة تقول: «إن عدة التشطير والتقسيم أصبحت جاهزة ولم يبق إلا التنفيذ وتوزيع الغنائم». الأخطر في المشهد المرتسم على نحو دراماتيكي في العراق أن السلطات تظهر مائلة للتسليم بالأمر الواقع وإن كانت قد أرسلت قبل يومين إشارات تطمينية للحشد في ما يتصل بمعركة الموصل. إلا أن ميزان المواقف الرسمية لا يزال جانحاً نحو الكفة الأميركية. ولعل التصريح الذي خرجت به قيادة العمليات المشتركة قبل ساعات حول حدوث ثورة شعبية في الفلوجة ووجود قنوات تواصل مع العشائر المنتفضة والاستعداد لتقديم الدعم العسكري لها ينبئ بأن القادم من الأيام قد يحمل تطورات شديدة الخطورة تضع مشروع جو بايدن (تقسيم العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية) على سكة التنفيذ.