الرئيسية / مقالات / اضواء وظلال عن بعض سبعينات الجواهري في براغ
الجواهري الكبير بمعية رواء الجصاني

اضواء وظلال عن بعض سبعينات الجواهري في براغ

رواء الجصاني

لم يرح الجواهري ركابه كما وعد في قصيدة العودة (1969) وبقي حتى سنوات عشر تالية يروح العراق زائراً أو مقيماً مؤقتاً ليعود الى براغ حيث شقته – او شقيّقته كما كان يصطلح عليها – والى اجوائه الخاصة التي تعود عليها وألفها منذ عام 1961.

وفي ضوء تلكم الاقامتين، في بغداد وبراغ، كان الجواهري مطمئناً ومسروراً، حيث البديل قائم وان تعددت واختلفت الظروف. وبقيّ يحسب الحساب لهذا الواقع بكل جدية. وقد بذل منتهى الحرص لتجاوز أي اجراء او قصور قد يؤدي لفقدانه مثل ذلك الامتياز، أي حق الاقامة الدائمة في براغ.

كان البرنامج اليومي لحياة الجواهري في مستقره البراغي خلال فترة السبعينات تقليدياً الى حدود بعيدة. ومن بعضه اعداد طعامه بشكل شخصي والتمشي، وسماع الاخبار من الاذاعات بشكل خاص، دون التلفزيون الذي لم يكن على ود ٍ معه، على أقل وصف، وطيلة حياته. فضلاً عن القراءة طبعاً، وارتياد مقاه ٍ محددة من أبرزها “سلافيا” المطل على نهر الفلتافا البراغي، و”سلوفنسكي دوم” الذي كتب فيه مملحته الى صالح مهدي عماش، ومقهى “اوبسني دوم” الذي كان يسميه بـ “الحضرة”، وصالونا فندقي “يالطا” و”الكرون”. اما وجبات الطعام، وخاصة في فترة الغداء، فكان يتناولها في البيت بشكل عام، وعند الضرورة في المطاعم والحانات الشعبية والبسيطة، ووقوفاً بعض الأحيان…كما كان يشارك حضوراً أو شعراً في عدد من الأمسيات والفعاليات الرسمية أو الاحتفالية العربية والعراقية التي تقام بهذه المناسبة الوطنية او الاجتماعية أو تلك.

ويشير نجاح، النجل الثالث للجواهري، والمقيم في براغ منذ عام 1960 بهذا السياق بأن معارف والده وأصدقاءه المقربين في براغ خلال السبعينات، بعد ان عاد من عاد منهم الى العراق، كانوا محدودين جداً، وفي مقدمتهم الراحل موسى اسد، الذي كان عاشقاً للجواهري شاعراً وانساناً وصديقاً، وعدد من الممثلين السياسيين العراقيين والعرب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية واتحاد النقابات العالمي واتحاد الطلاب العالمي والذين كانوا يتغيرون بين فترة وأخرى.

ويضيف نجاح “لقد كان الوالد يميل الى مداراة نفسه بنفسه، ويركن في الغالب الى اصدقاء محدودين، وحتى الى واحد فقط، في بعض الاحيان، وبما ينسجم ومزاجه. وكان يعتمد في تلك الفترة عليّ وابن اخته رجاء الجصاني في انجاز ما لا يستطيع انجازه منفرداً، كمعاملات السفر والترحال ومتطلبات الاقامة وغيرها من الشؤون الشخصية”.

وفي احاديث خاصة كان الجواهري يستذكر باهتمام كيف كانت براغ في السنوات السابقة حيث للمرء اكثر من اختيار، مشيراً باعتزاز الى الراحلين فيصل السامر وزكي خيري وقاسم حسن، والى آرا خاجادور وعزيز الحاج ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وعادل حبه وأقرانهم.

واستناداً لاستذكارات الجواهري، فان زيارات وسفرات المثقفين والشعراء والسياسيين العراقيين والعرب الشخصية والرسمية الى براغ لا تكتمل ما لم “يداهمونني في البيت او المقهى سواء شئت ذلك أم كرهت” حسب تصريحاته. وفي عودة لبعض الارشيف المتوفر نجد العديد مما يوثق اشارات الجواهري بهذا الخصوص.

وعلى سبيل المثال تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة في ذكريات لها منشورة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (4/9/1996): “كان آخر لقاء لي مع الجواهري في براغ خلال السبعينات. لم يتغيّر الجواهري، ظل ذلك الرشيق، الأنيق، الوسيم، الظريف، الصعب. وبقيت أنا تلك المعجبة السعيدة لأنها تنفست من هواء غرفة ضمته، وجلست يوماً مجلسه”… وبالمناسبة، سبق للجواهري ان قال حول الشاعرة ذاتها في حوار نشرته صحيفة الجمهورية البغدادية بتاريخ 8/11/1975 : “انها أحسن من كثير من الشعراء… والحقيقة انها شعرها رقيق، وهي “بنت طيبة”… ان الشاعر لا يمكن ان يكون كريهاً أو خبيثاً أو لئيماً وبغيضاً… ولميعة تنطبق عليها الميزات الجيدة، فهي وديعة ورقيقة وانسانة”.

وفي السبعينات أيضاً، وتحديداً في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) من سنة 1970، وكذلك في صيف 1975 يزور الجواهري في براغ، المترجم والكاتب سليم طه التكريتي الذي يتحدث عن تينك الزيارتين في كتابه “محمد مهدي الجواهري” الصادر عن دار الساقي اللندنية 1989 عن مدى اهتمام الشاعر الكبير به في براغ. ولكن التكريتي يختلق ويتصيّد أيضاً ما أشبع رغبته ودوافعه، أسوة بما جاء بمجمل الكتاب. وقد علّق الجواهري حول ذلك ببساطة، واستغراب، وتسامح “جازاه الله… ذلك الأعمى، ناكر الجميل، سليم طه”.

وإذ يشير الشاعر الخالد في الجزء الثاني من ذكرياته (ص 325) الى “مداهمة” الراحل صالح مهدي عماش، ود. سعدون حمادي، ووفد رسمي عراقي مرافق لهما، مقهاه المفضل في السبعينات “سلوفنسكي دوم”.. يوثق ارشيف الرسائل الموجهة للجواهري عام 1976 رسالة من د. محمد حسين الأعرجي عنونها بـ “استاذي الكبير، الحبيب ابا فرات حفظه الله وأطال من عمره، ومن بين ما جاء فيها: “لا أعرف كيف أشكرك على ضيافتك الكريمة، واهتمامك الأبوي بي، فلقد شرفتني بهما شرفاً كبيراً لا يقوم به حمدٌ، ولا يوفيه شكر…”.

كما تشير بعض الأوراق والوثائق الشخصية زيارة الشاعر مظفر النواب لبراغ عام 1970 والى لقاءات عديدة حصلت بين الشاعرين، وامتدت لسهرات مشتركة كان من حصيلة احداها سبعة أبيات للجواهري “يؤرخ” فيها لحوار جرى بين النواب، الشاعر والرسام، واحدى جميلات التشيك – وما أكثرهن”.

كما يشير د. زاهد محمد في كتابه “الجواهري صناجة الشعر العربي في القرن العشرين” (ص 55) الى زيارته براغ عام 1971 ولقائه مع الجواهري وتطرقهما للحديث عن الأوضاع في العراق، من جملة ذكرياته عن الشاعر.

وفي السياق ذاته تجدر الاشارة الى حرارة ترحاب الجواهري بالكاتب والصحفي العراقي الراحل شمران الياسري (ابو كاطع) خلال اقامته في براغ اواسط السبعينات، والتي وصلت الى حد اعارته شقته (شقة الجواهري) ليسكن فيها ابو كاطع فترة غير قصيرة وهو أمر نادر لا يكرره الشاعر الكبير، إلا استثناء.

ويحدث ان يزور الشاعر الفلسطيني سميح القاسم براغ عام 1973 ويلتقيه الجواهري، وهو من محبيه، أكثر من مرة، وتجمعه والضيف الزائر سهرة في مغنى “كاسكادا” الشهير وسط العاصمة التشيكية، وتلك دليل مودة متميزة من الجواهري. ومن وحيّ تلك السهرى يكتب الجواهري قصيدة غزل متفرّدة بعنوان “يا بنت شيطان” ومطلعها:

يا بنت شيطان كفاهُ أن يكون اباك، فخرا

كان التقرب منه كفرا، وارى التغرب عنك: كفرا

وهكذا تختلف الزيارات واللقاء ونشاطات ويوميات الجواهري في براغ خلال السبعينات، وهي اذ تتنوع مستوىً وشكلاً، وحتى مضموناً، إلا انها تبقى جميعها في اطار حياة شاعر متنوع والارادات والأمزجة والمواقف والرؤى، وكل ذلك بعض من تفرّده.

ولربما من المناسب هنا، رداً على تقولات البعض من جهة، ولتوثيق الاحداث والوقائع، وذلك هو الأهم، نشير الى ان مستقر الجواهري البراغي خلال السبعينات لم يكن سوى شقة اعتيادية الموقع والبناء والأثاث، في منطقة براغ السادسة، حيّ بترشيني، تتكون من غرفتي نوم، وصالون استقبال متواضع، ومطبخ ومرافق صحية، تقع في عمارة تقليدية، أثاثها أكثر من بسيط …ولكن تلك الشقة التي قضى فيها الجواهري زهاء ثلاثة عقود، نظم فيها الشاعر العديد من قصائده البارزة وحدد فيها مسواقفه الأهم. كما ان تلك الشقة الصغيرة المتواضعة – لا غيرها – شهدت لقاءات واستضافات الجواهري لعشرات المفكرين الأدباء والمثقفين والمسؤولين السياسيين والرسميين العراقيين والعرب، وحتى بعض الأجانب.

مع تحيات “مركزالجواهري” فـي براغ

www.jawahiri.com