السيمر / الأحد 03 . 07 . 2016
25
نــــــــــزار حيدر
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
كما يُقالُ؛ شِرْتُ العسلَ، اذا أخذتهُ من موضعهِ واستخرجتهُ مِنْهُ، كما في (الرّاغب) كذلك فانّ قرار الجماعة، وعلى مختلف المستويات، يلزم ان يكونَ كذلك، لا يستبدَّ بهِ واحِدٌ أَيّاً كان اسمهُ ورسمهُ وعلمهُ وموقعهُ، او حتّى مجموعة، فكلّما زاد التّشاور والمشاورة والمشورة لاستخراج الرّأي بمراجعةِ البعض الى البعض من قولهِم، كلّما كرّست الجماعة الإحساس بالمسؤوليّة عند أعضائِها، فالمرءُ يشعر بالمسؤولية إِزاء القرار الذي يشارك في اتّخاذهِ اكثر بكثيرٍ لو كان بعيداً عن أجوائهِ.
فلقد كان أَميرُ المؤمنين (ع) يحرّض المجتمع على التّشاور من خلال إِصغائهِ شخصيّاً الى رأي النّاس، من جانب، ومن خلال صناعة الأجواء الآمنة التي تحثّهم وتشجّعهم على حريّة التّعبير والافصاح عن رأيهم، من جانبٍ آخر، فكما أسلفنا فيما مضى فانّ اجواء الرّهبة والخوف والرّعب لا تشجّع صاحب الرّأي على الإدلاء بما يعتقد به بحريّةٍ وبكامل الاختيار، وهذه من مسؤولية الحاكم على وجه التّحديد، الى جانب المجتمع بشكلٍ عام، في خلق الأجواء النقيّة والصحيّة والسّليمة والآمنة لادلاءِ اصحاب الاراء والأفكار بما يعتقدون بهِ بحريَّةٍ تامَّةٍ، حتى اذا تعارض رأيهم مع رأي الحاكم او مع الرّأي السائد، فمن أدوات الديمقراطيّة اليوم، كما هو معروف، حريّة التّعبير من جهةٍ ووجوب الاصغاء لرأي الآخر حتّى اذا اختلف معك، من جهةٍ أُخرى.
انّهُ (ع) كان يحثُّ على الرّأي والرأي الاخر، ويعلّمهم أدب المشورة، فقد خطب في اصحابهِِ مرّةً قائلاً {فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالٍ بِحَقّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى}.
انظروا كيف كان الامام (ع) يخلق الجوّ الآمن بنفسهِ، وهو الحاكم الاعلى في البلاد، من خلال التّواضع من جانب ورفض تعامل اصحابهِ معه بالمداراة على حساب حريّة التّعبير وقول الرّأي الذي يراهُ احدهُم حقاً وصحيحاً ومُفيداً.
وكلُّ ذلك من أَجل ان يحمّلهم المسؤولية عند الفشل تحديداً، عندما يتهرّب الجميع من تحمُّلها، فلقد قيل [للنّصرِ مليونُ أَبٍ، امّا الهزيمةُ فيتيمةٌ!] فلا يقولنَّ احدٌّ منهم انّهُ فوجئ بقرارٍ او أُخذ على حينِ غرَّةٍ بموقفٍ او انّهُ لم يكُن يعرف بماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ فكَّر الامام بهذه الطّريقة وليس بغيرِها.
وَلِذلِكَ فعندما انقلبَ الخوارج على قرار الحكومة، والمقصود التّحكيم، الذي شاركوا في بلورتهِ والدّفع باتّجاههِ، بغضّ النظر عن ايّ شيء، فانّ الامام اوّل ما حاججهُم بهِ هو انّهُ حمّلهم مسؤوليّة الالتزام بالقرار وتحمّل تبعاتهِ مهما كان نوعها ومهما عظُمت التّحدّيات لانّهم شاركوا في بلورتهِ وهم ممّن اشار على الامام وانّهُ (ع) كان قد أصغى الى رأيهِم وبالتّالي بنى موقفهُ ورأيهُ وقرارهُ من الحكومة على أساس رأي الاغلبيّة على الرّغم من اختلافهِ مع حيثيّاتهِ ومقدِّماتهِ، وعلى الرّغم من انّهُ كان قد حذّر من ذلك، ولهذا السّبب يمكن الجزم بانّ الشورى عاملٌ مهمٌّ جداً من عوامل تكريس الإحساس بالمسؤوليّة.
لنقرأ كيف بنى الامام المسؤوليّة على الشّورى، عندما حاججهُم بقوله {فأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ، ولاَ يُجَاوِزَاهُ، وَتَكُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَالاِْعْوِجَاجُ دَأْبَهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا، وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لاَِنْفُسِنَا، حِينَ خَالفَا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَأَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ}.
وفي كلام آخر معهم، يَقُولُ عليه السلام {فَلَمْ آتِ ـ لاَأَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَليْهِ، وَقَدْ سَبَقَ استِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا ـ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ لِلْحَقِّ ـ سُوءَ رَأْيِهِمَا، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا}.
بل انّهُ حذّر من الانقلابِ على الحكومةِ بعد اتّفاق الاغلبيّة على القرار، على الرّغم من انتباههِم الى خطأ رأيهم متأخراً، الا انّ الاصلاح والتّغيير، برأي الامام، لا يكون بهذه الطّريقة الفوضويّة التي انتهجها وسار عليها الخوارج (التكفيريّون) اذ يلزم العودة مرّةً أُخرى الى رأي الاغلبيّة مهما كانت النّتائج، ولذلك ظلّ يحذّرهم الامام (ع) من مغبّة الفوضى في كسرِ القرار والخروج على الاجماع، كما خاطبهُم بقولهِ (ع) {وَالْزَمُوا السَّوَادَ الاَعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّةَ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ.
أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ، فَإِنَمَّا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاجْتَِماعُ عَلَيْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الافْتَرَاقُ عَنْهُ، فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُم، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا}.
كل هذا على الرّغم من انَّ رأي الامام كان على النّقيض من رأي الاغلبيّة، كما يقول عليه السّلام {وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ، سُفَهَاءُ الاَْحْلاَمِ، وَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً}.
وفي قولهِ وهو يشرح سبب البلوى {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الُْمجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِير أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الُْمخَالِفِينَ الْجُفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَكُنْتُ وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ: أَمَرْتُكُمُ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى * فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ}.
بل انّهُ كانَ قد بذلَ كلّ جهدهِ لصرفهِم عن رأيهم غير السّليم، كما يصف ذلك بقولهِ (ع) {هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ! أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ الْوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا!}.
هذا يعني انّ الامام (ع) يحترم رأي الاغلبيّة حتى اذا تقاطعَ مع رأيهِ من أجلِ ان يحمّلهم المسؤولية، عند الحساب، ولذلك نراهُ كانَ واضحاً معهم في كلِّ خطوةٍ من الخطوات التي أنتجت قرار الحكومة، فهو لم [يختلُهم (اي يخدعهم)] على حدِّ قولهِ، ولم [يلبّسهُ عليهم (اي يخلط الامر ويشبّههُ عليهم حتى لا يُعرف)] على حدِّ قولهِ كذلك.
وهذه من أرقى واهمٌ وأعظم شروط المشورة، الوضوح وعدم التّضليل وحرّيّة الوصول الى المعلومة، وأحياناً حتّى الأسرار، فذلك يُزيدُ من فرص تحميل الآخر المسؤوليّة عند الفشل تحديداً، والى ذلك تُشير الآية الكريمة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}.
………………………………………………
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّ / السّنةُ الثّالِثَة / 26
نــــــــــزار حيدر
{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
هو المستبدُّ، دائماً يدّعي انّهُ أفضل النّاس عِلماً وأحسنهم عملاً وأوفرهم فهماً وأرجحهُم عقلاً، فما الدّاعي، إذن، ليُشيرُ عليه الاخرون برأيٍ؟! ولذلك هو لا يحتاجُ الى مستشارين وانّما الى خدمٍ وحشَمٍ والى جَوقةٍ من الأمّعات!.
من جانبٍ، وتراه يستخفّ بالآخرين ويستهزئ بهم، من جانب آخر {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}.
ومن أجل إقناع النّاس بكلّ ذلك تراهُ يلتفّ حولهُ جيشٌ من المطبّلين والنفعييّن وعدد كبير من الابواق، شُغلهم الشّاغل تسويقهُ للرّأي العام بكلّ الطّرق الملتوية والاساليب الخادعة، من جانبٍ، وتبريرُ فشلهِ وأخطائهِ والبحث عن شمّاعات وأَكبُش فداء اذا ما هاج ضدّهُ الرّاي العام لسببٍ من الاسباب، من جانبٍ آخر.
ان الطّاغوت يخشى من الرّأي الآخر كثيراً ولذلك يمنعهُ ويقمعهُ ولا يمنحهُ ايّة فرصة مهما كانت بسيطة للوصول الى الرّأي العام، فبعد ان يخلق من نَفْسِهِ سقفاً لا يُجيز لاحدٍ تجاوزهُ يسعى من جهةٍ أُخرى للتّشويش على الرّأي الآخر، تارةً بتزويرهِ وأُخرى بالتقوّل عليهِ وثالثةً بالدّعايات والشّائعات والاكاذيب لاسقاطِ مصدرهِ واغتيالِهِ سياسيّاً، واذا لم تنفع كلّ هذه الأساليب، فهو يعمد الى التّصفية الجسديّة واستخدام العنف والارهاب.
يحدّثنا القرآن الكريم عن كلّ هذه الحالات بشكلٍ مفصّل، فعندما شعرَ الكُفّار ان آيات القرآن الكريم التي كانت تنزل على رسول الله (ص) تباعاً بدأت تترك أثراً معنويّاً وروحيّاً كبيراً في المجتمع المكّي، وبدأت تسحر النّاس لجأَ عُتاتهم ومردَتهُم الى فرض المقاطعة، من خلال الحثّ على عدم الاصغاء الى القرآن والى عدم الاكتراثِ بهِ وتجاهلهِ.
يقول القرآن الكريم عن هذه الخطوة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
وعندما فشلت هذه المحاولة بدأوا يُشيعون الاكاذيب والافتراءات ضد الدّين الجديد وضد صاحب الرّسالة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا* وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وقولهُ تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
وفي الآية الكريمة التفاتة رائعة الى خطورة الاعلام السّلطوي والدّعاية السّوداء التي يوظّفها الطّاغوت والمستبدّ ليُطفئ نور الرّسالة ووهج آياتها البيّنات، وكأنّهُ ينفث سمومهُ!.
وفي هذا الإطار يوزّع المستبدّ المال والجاه والسّلطة على من يظنّ انّ وجودهُ بالقرب مِنْهُ يساعدهُ على التغلّب على الرّأي الآخر، ولذلك فعندما استعدَّ السَّحرةُ في بادئ الامر الى نُصرة فرعون على نبي الله موسى عليه السلام سألوهُ عن الثّمن، فكان جواب الطّاغوت جاهزاً {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
وعندما لم ينفع كلّ ذلك يلجأ المستبدّ الى الارهاب والعنف سواء ضد صاحب الرّأي الآخر او ضدّ من يتأثر بهِ او من له التأثير السّلبي على الآخر، طبعاً بمعايير الطّاغوت!.
تقول قصّة فرعون والسّحرة؛
{قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ* قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ* وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ* وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ* قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ* قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.
فبعد ان حاول الطّاغوت تشويه الحقيقة لمحاصرتِها والحيلولة دون وصولِها الى الرّأي العام الذي سيتأثّر بها لقوّتها ووضوحها ولملامستها للعقل والمشاعر والحقائق، أعلن الحرب الشّعواء على السّحرة لانّهُ اعتبرهم السّبب في فوز نبي الله موسى عليه.
ويعودُ الامرُ الى المؤمنين الجدُد، هل سيثبُتوا على ما اعتقدوا به؟ ام انّهم سيتركونَ الامر وينقلبون على الحقيقة ويعودوا يُمارسون السّحر والشّعوذة لصالح الطّاغوت في أَوّل امتحانٍ واختبارٍ يتعرّضون له على يد المستبدّ؟!.
بالنّسبة للسّحرة كان جوابهم {قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}.
انّهم استسلموا للحقّ وآمنوا بالرّسالة وقرّروا الصّمود والصّبر وعدم الاستسلام لارهابِ المستبدّ مهما فعل!.
ولكن…
هل انّ كلّ من يتعرّض لإغراءات الطّاغوت او لإرهابهِ سيتّخذ نفس القرار؟ ليصمد ولا يتراجع؟!.
انّ حريّة التّعبير في ظل السّلطة المستبدّة أَمرٌ صعبٌ وخطيرٌ للغاية بحاجةٍ الى الكثير من الإيمان والصّبر والتحمّل من اجل الاستقامة وعدم الانهيار.
يتصوّر البعض ان حريّة التّعبير الموجودة اليوم في البلدان المتحضِّرة، نزلَت عليهم من السّماء او تحقّقت بضربةٍ سحرّيةٍ او بضربةِ حظٍ، او بالصّدفة، أبداً، ليس كذلك، انّها ثمرة تضحيات عظيمة وقرار جريء بالمثابرة وعدم الاستسلام لأولئك الذين آمنوا بأهميّة حريّة التّعبير قبل ان تتكرّس اليوم كواقعٍ يعتبرهُ كثيرون انّهُ السّلطة الاولى التي لها أَعظم الأثر في رسم السّياسات العامّة والدّفاع عن مصالح الشعب وحماية المستقبل وغير ذلك.
أولئك الذين آمنوا بانّ حريّة التّعبير مسؤوليّة وليست ترفاً فكريّاً او لغواً عِبر وسائل التّواصل الاجتماعي، لقتل الوقت الزّائد!.
امّا عندنا، فعلى الرّغم من التطوّر الملحوظ في حريّة التعبير في بعض بلدانِنا، والتي لعبت التكنلوجيا دوراً مهما في إشاعتِها وفرضِها على اعتبار ان السّلطات لم تعد تمتلك القدرة المعهودة على قمع الرّأي الاخر او ملاحقتهِ بالصّورة النّمطية التي كانت في السابق، مع كلّ هذا، الا انّهُ لازالت حريّة التّعبير متأَخّرة جداً عن ركب الانسانيّة، فلازالت السّجون والمعتقلات في العديد من بلدانِنا تمتلئ بسجناء الرّأي، كما هو الحال مثلاً في الجزيرة العربية والبحرين وغيرها من الدّول، كما انّ الكثير من سُجناء الرّأي يتعرّضون لكلّ اشكال التّعذيب النّفسي والجسدي لحملهِم على التّراجع، فضلاً عن انّ عدداً منهم أُعدم بسبب رأيهِ، كما هو الحال مع آية الله المجاهد الشهيد الشيخ نمر باقر النّمر، الذي أعدمتهُ سُلطات (آل سَعود) والحزب الوهابي بسبب حريّة التعبير التي ظلّ متمسِّكاً بها بصورةٍ سلميَّةٍ حتى آخِر لحظة!.