السيمر / الأربعاء 16 . 11 . 2016
حامد كعيد الجبوري
يعزفُ الكتابُ والباحثون والنقادُ الكتابة عن الشعر الشعبي العراقي إلا ما ندر جدا جدا ونضع خطا تحت ما ندر ، وتبرير ذلك برأيي الشخصي أن المعنيين الذين ذكرتهم يعتقدون بدونية الشعر الشعبي العراقي وعدم أهليته للدراسة والبحث ، والكتابة عنه وله يعتبر عندهم ضرباً من الاستخفاف أو عدم الأهمية ، أو لأنهم لا يستطيعون خوض غماره وأمواجه المتلاطمة التي ستغرقهم دون تحقيق أي شئ أو منجز ثقافي يشار له ولهم لاحقا وبالتالي أهملوه ، ناهيك عن المفهوم الطبقي الذي نعتوا به الشعر الشعبي وأسموه ظلما بشعر العامية ، ولا أخفي أن الموروث الشعبي العراقي كما بقية أبواب الثقافة والفنون عامة فيه من الغث الكثير ، وبالمقابل فيه من السمين أيضا مما يثير شهوة الكتابة عند ال( ما ندر ) جدا كما أشرت إليه أنفا ، لذا نجد في بعض الصحف العراقية موضوعا نقديا من صفحتين أو أكثر لملئ فراغ تلك الصحيفة أو تلك ، وحتى في صحيفة طريق الشعب تعطي للأدب الشعبي صفحة واحدة في الأسبوع ، وأنا أجده قليل جدا هذه المساحة الضيقة ، ومن النادر أن نقرأ فيه موضوعة بحثية متكاملة الأغراض والمفاهيم النقدية ، أو دراسة تفصيلية رصينة لتراثنا الشعبي الغزير ، وما صدر عن دار الينابيع عام 2010 م ( الثورة النوابية ) لحسين سرمك أجده المنجز الضخم عن ما كتبه الشاعر العراقي الرمز مظفر النواب ، وكنت أرقب دراسات أخرى لنفس الناقد أو غيره عن تجارب عراقية شعرية شعبية لا تقل إبداعا ووطنية وجماهيرية عن تجربة رمزنا النواب ، مع تحفظي عن ذكر أسماء الشعراء كي لا تثار تساؤلات حولها لأني أتعامل مع النص كونه عملا إبداعيا لا غير ، وربما صعوبة توثيق الثقافة الشفاهية الشعبية المتداولة حالت دون التصدي والكتابة عن الموروث الشعبي العراقي كما قلت .
أجد أن الخلفية السياسية للصديق مزاحم الجزائري هي التي دفعته صوب الكتابة عن شاعر هزلي أستحوذ على الإعلام الشعبي اللساني حقبة الثلاثينات والأربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي ، فخلفية مزاحم الجزائري السياسية تُعنى بالأدب الشعبي عامة والشعر الشعبي خاصة ، بل وتعتبر قصائد البعض من الشعراء منشورات سرية تتداول عند مختلف شرائح المجتمع العراقي ، وقصائد مظفر النواب مثلا لذلك ، ولليسار العراقي وبخاصة الحزب الشيوعي العراقي يدٌ بيضاء في تسليط الأضواء على بعض من الشعراء الشعبيين الذين وجد فيهم الحزب الشيوعي العراقي جذوة شعرية يمكن من خلالها تبني تلك الظاهرة المميزة وصقلها وإبرازها بإطار وطنيتها التي تحمل ، ليصبحوا بعد ذلك من أبرز شعراء ستينات وسبعينات القرن الماضي ، ومثال ذلك كراس ( أغاني للوطن والناس ) طبع بعد احتفالية العيد الأربعين للحزب الشيوعي العراقي 1974 م ، وضم بين دفتيه ( 32 ) قصيدة لشعراء لا يزال يشار لهم وليومنا هذا بتجربتهم الفريدة المميزة ، وأسلوبهم الحداثوي ، وتداخلهم بصفوف شعبهم ونقل معاناة الوطن وأهله ، ويُتهم الحزب الشيوعي زورا أنه يخلق الرموز الشعرية منطلقا من شخصنة ذاتية لأسماء بعينها ليبرّزها وتصبح واجهة إعلامية للحزب وقيادته ، وهذا زعم مرفوض ودليلي أن كل الأسماء التي تعرفون وأعرف من شعراء شعبيين هم منجزٌ إبداعي سبروا أغوار المفردات الشعبية وقدموها على صحن ثقافي شعري ممتع للذائقة الأدبية القارئة ، فأحبَ الناسُ تلك القصائد وحفظوها واستدلوا بها على عظيم تلك التجربة السبعينية حينها .
و ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) عمل وجهد ليس بالقليل للباحث والشاعر مزاحم الجزائري ، وقراءة الجزائري واقعية انطباعية بنيوية لقصائد شاعر ترك لنا ثلاثة دواوين شعرية ( سنجاف الكلام ، قيطان الكلام ، محراث الكلام ) ، وربما يعتقد البعض بمكان ما سهولة الدراسة لقصيدة شعبية مباشرة ، تخلو من الرمزية لتفصح عن مكنوناتها ومعانيها العفوية كما يحلو للقارئ تسميته ، وهذا يخالف حقيقة قصدية الشاعر ورمزية سخريته اللاذعة وإشاراته في ما يقول ، وأستطاع الجزائري أن يناقض ما يدعيه البعض وأخرج لنا رؤيا وحقائق قصائد ( قسام النجفي ) وقصديتها بتسفيه أفكار مجتمعية بالية طبع الكثير من عامة الناس وجبلوا عليها .
العربية لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك ، حقيقة تركها لنا النحويون ، فلا يستطيع أحد منا قراءة أي بيت من الشعر الفصيح دون أن يشكل الحروف – الضمة ، الفتحة ، الكسرة ، السكون ) ، ( حييتُ سفحكِ ظمأناً ألوذُ بهِ / لوذَ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ ) ، من يستطع قراءة البيت دون تحريك الحروف في البيت أعلاه ، ومن المؤكد لا يستطيع ، ومن هنا تأتت جمالية ورفعة اللغة العربية في تحقيق غاياتها ومراميها ، ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) سورة فاطر ، فلو قلنا اللهُ بدل اللهَ لأختلف المعنى كاملاً ، فالكسرة أو الفتحة تغيير بالمعنى وضياع ما أراد الشاعر أو الناثر ، لذا أنبرى العروضيون وقعدوا القصائد الشعرية الفصحى ، ووضعوا لها ميزانا عروضيا يحتكم إليه ، أما الشعر الشعبي ولعدم قبول الحركة على الحرف الأخير من الكلمة لذا أصبح من الصعوبة بمكان إخضاع القصائد الشعبية للميزان العروضي الفراهيدي – رأي شخصي – ، يقول النجفي ( شاربله كونية دوه / وأثلث حكك شربت نوه / ياكل شمس يشرب هوه / من إذنه يطلع دخان ) ، في هذا المقطع وببقية القصائد الشعبية لا نستطيع أن نحرك نهاية المفردة الشعبية ، كما في بقية القصائد الشعبية عامة ، ولو أخضعناها للحركة أضعنا وزن القصيدة واختلفت معانيها على الفهم والتمييز ، وبجهد كبير ودراية عروضية للجزائري أخضع قصائد ( قسام النجفي ) للبحور ( الفراهيدية ) وأشار لوزن تلك القصيدة بما يقابله من الشعر الفصيح ، ومؤكد أن الجزائري ليس الوحيد بهذه التجربة بل سبقه الكثير لتقعيد – الوزن – القصائد الشعبية ، وهي محل خلاف كبير بين العروضيين ، والطريقة المثلى عند غالبية الشعراء الشعبيين اعتماد وسيلة الأذن الموسيقية ، وأجدها وسيلة خاطئة توقع الشعراء بالخلط بين الأوزان الشعرية المتقاربة بتفعيلاتها العروضية ، إلا إن كان الشاعر الشعبي يمتلك أذنا موسيقية واعية وهذا ما يندر .
قسم الباحث ( مزاحم الجزائري ) منجزه ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) الى ثلاثة فصول غير المقدمة والتمهيد والخاتمة ، الفصل الأول : مضمونية البنية الإيقاعية وفيه مباحث شتى ، الفصل الثاني : مضمونية اللغة والأساليب الفنية وفيه مباحث أخرى ، والفصل الثالث : مضمونية الصورة الشعرية وكذلك يحتوي على مباحث عدة .
لم يغفل الباحث من إيراد بعض القصائد و( الموالات ) و( الأبوذيات ) و( الهوسات ) الساخرة للشاعر ( النجفي ) مما تضيف متعة للقارئ ، ويجعله مسترسلا لقراءة كل المباحث التي أوردها الجزائري ، ومن طريف ( الهوسات ) يقول النجفي ساخرا ، ( أحنه صدك وأحنه نحرث المحروث / منخلي على وجه الأرض ملغوث / إلنه يوم نهجم بيه على البرغوث / ( والحرمس هد أعله رجاله ) .
جهد لا يسعنا إلا أن نشكر الصديق الجزائري الذي فكك قصائد ( حسين قسام النجفي ) وأخضعها لميزانها العروضي ، وأستخرج لنا من قصائد النجفي الجناسات والطباقات بموسيقى القصائد للشاعر ، ومضامين البنية الإيقاعية ، ومضامين اللغة وأساليبها ، ومضامين الصور الشعرية الفكاهية والساخرة ، ومضامين الصور الشعرية السريالية ، مبارك للباحث ( الجزائري مزاحم ) هذا العمل والجهد والمثابرة .