السيمر / الاحد 20 . 11 . 2016
صالح الطائي
أعتقد أننا في السياسة وحدها دون غيرها، كنا ولا زلنا خير خلف لخير سلف، جمدنا على نمط حراكهم، وورثنا سبل عملهم، لم نغادر منه شيئا، وكأن الزمن لا يتبدل والعصور لا تتطور. وقد مارسنا ذلك المنهج حتى مع أخذنا بالديمقراطية، في زمن الانفتاح والحرية، حيث يتنقل المسؤول من منصب إلى منصب أخصب، وكأنه العالم الملم بكل شؤون الحياة، فيُنصّبُ وزيرا للمواصلات، وبعدها يشغل منصب وزير العمل والشؤون الاجتماعية، ليصبح في الوزارة الجديدة وزيرا للعدل، وبعدها وزيرا للمواصلات، وقد يصبح وزيرا للدفاع، وحتى وزيرا للصحة!
وقد وجدت أن هذا التنقل في المناصب موروثا من أجدادنا القدماء، وكم في تاريخنا من الأمثلة على ذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قصة (الجراح بن عبد الله) الذي اختار بطانة لم تكن أنهض منه فكرا ولا أكبر منه عقلا، مثل (الوليد بن سريع) ليطابق شنٌ طبقة، وتنزل المصائب على رؤوسنا بلا حساب!
وقد جاء في الأثر، عن الوليد بن سريع، مولى عمرو بن حريث: وجهني الجراح بن عبد الله من العراق إلى سليمان بن عبد الملك، فخفت أن يسألني عن المطر، فإني لأسير بالسماوة، إذا أنا بأعرابي من كلب بن شملة، فقلت: يا أعرابي هل لك في درهمين؟ قال: إني والله حريص عليها، فما سببهما؟ قلت: تصف لي المطر. قال: أتعجز أن تقول: أصابتنا سماء تعقد منه الثرى، واستأصل منه العرق، وامتلأت منه الحفر، وقاءت منه الغدران، وكنت في مثل وجار الضبع حتى وصلت إليك. فلما قدمت على سليمان، قال: هل كان وراءك من غيث؟ فقلت ذلك، فضحك وقال: هذا كلام ما أنت بأبي عذره، فقلت: صدق فوك يا أمير المؤمنين، اشتريته والله بدرهمين، فضحك، وقال: أصبت وأحسنت، فأمر بجائزتي، ثم زادني ألفي درهم مكان الدرهمين”(1)
إن هذا الرسول الذي يستجدي رأي أعرابي أمي في المطر، كان من أعوان الجراح بن عبد الله الحكمي، أبو عقبة. والجراح شامي الأصل، نزل البصرة والكوفة، وكان من القراء(2). حينما ولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق، جعله نائبا عنه على البصرة سنة خمس وسبعين للهجرة. وكان أول ظهور عسكري له سنة 82 للهجرة، في معركة (دير الجماجم) ضد عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، حيث تمكن من قتل ابن الأشعث في المعركة، ولكن بدون مساعدة الانكليز والأمريكان.
ثم ولاه الوليد بن عبد الملك بتوصية من الحجاج ولاية البصرة، سنة سبع وثمانين للهجرة، واستمرت ولايته لها ثمانية أعوام، حتى وفاة الحجاج سنة خمس وتسعين للهجرة.
وبعدها، بعثه عمر بن عبد العزيز إلى خراسان وسجستان واليا عليها سنة مائة للهجرة، ثم عزله لأنه كان قد أوفد إلى عمر وفدا رجلين من العرب ورجل من الموالي، فقال الرجل من الموالي لعمر: يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من الذمة يؤخذون بالخراج، فأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم خفيا وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان، فعزله”(3)
وفي السنة الرابعة بعد المائة، لأنه عقل فريد، وجهه يزيد بن عبد الملك على أرمينية وأمده بجيش كثيف، وأمره بغزو الخزر وغيرهم.. فدخل البلد، فبث سراياه في النهب والغارة على ما يجاوره، فغنموا وعادوا… وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه ويسأله المدد.. فأنفذ إليه العساكر، فأدركه أجله قبل إنفاذ الجيش”(4).
فتنقل بين المناصب وكأنه أوحد زمانه، لا يشق له غبار، وما هو أكثر من جدار أو عتبة دار، مثل سياسيينا الأحرار الذي ينتقلون من وجار إلى وجار باسم التغيير والديمقراطية، والدفاع عن القضية، وما هم أنهض فكرا من الوليد بن سريع، أو من سيده الجراح بن عبد الله. ولله في خلقه شؤون، ومن شأننا أننا رغم كل ذلك، سنهرع إلى صناديق الاقتراع، لننتخب هؤلاء الهمج الرعاع لمناصب جديدة، بعقول بليدة!ّ.
الهوامش
1.ربيع الأبرار، ج1/ص129ـ130
2.الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج6/ ص29، ترجمة رقم 683
3.ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4/275
4.المصدر نفسه، ج4/ص321ـ322