السيمر / الأربعاء 27 . 09 . 2017
عماد العتبي
ما جرى في ٢٥ أيلول بشمال العراق لم يكن استفتاءً أو استقراءً لإرادة أهلنا الكرد حول مدى ارتباطهم بوطنهم الأم ( العراق) أو رغبتهم بالانفصال عنه؛ لتشكيل كيانٍ عنصريٍّ تُحيطه عواملُ الفشل والانغلاق من جهاته الأربع عدا قصور الشروط الداخليَّة لقيام دولةٍ، وإنَّما إطلاق مشروعٍ تآمريٍّ جديدٍ نحو مزيدٍ من إذلال العرب والاستحواذ على أرضهم.
ولست في هذا الموضوع مُتَّجهاً لتحليل وسرد عوامل فشل أيَّة تجربةٍ مماثلةٍ لكيانٍ قاريٍّ في جغرافيَّته مثل تشاد وأفغانستان، وإنَّما لتسليط الأضواء على جوانب وخبايا استراتيجيَّةٍ صهيونيَّةٍ ساعدت في تجسيده على أرض الواقع أدوات وصنائع محليَّة ( كرديَّة وعربيَّة مُسلِمة وغير مسلمةٍ) وإقليميَّة ودوليَّة.
فخارطةُ إسرائيل الكبرى (من الفرات إلى النيل) مرسومةٌ لا خلف كرسي كلِّ مسؤولٍ صهيونيٍّ، ولا في بروتوكولات صهيونٍ، وإنَّما في مُخيَّـلة كلِّ يهوديٍّ تجمَّع من مختلف أصقاع المعمورة في أرض فلسطين العربيَّة؛ ولتنفيذه ارتكب الصهاينة منذ نحو قرنٍ من الزمان أبشع المجازر ضدَّ العرب، وكان للفلسطينيِّين النصيب الأكبر في قوائم سفك الدماء، وما زالوا ينزفون بخناجر الأعداء وعمالة وخيانة الأخوة وأبناء العمِّ.
وعدا عن الحروب المُعلنة فالمُتقصِّي يجد لإسرائيل إصبعاً ويداً ومعولاً في كلِّ مشكلةٍ وأزمةٍ ونزاعٍ بين العرب أو مع جيرانهم أو أطرافٍ أخرى .. ولإسرائيل الرأي والمشورة الخبيثة في كلِّ ما يُؤذي العرب، وها نحن نعايش اليوم أزمات الماء مع دول المنبع بفعل المشورة الصهيونيَّة لتركيا وأثيوبيا؛ لتجميع مياهها في سدودٍ عملاقةٍ … وربما لإيران أيضاً!!!
من هذا المنطلق وجدنا أنَّ إسرائيل كانت حاضرةً في شمال العراق ليس منذ أحداث ١٩٩١، بل منذ مطلع سبعينات القرن الماضي حسب مُذكَّرات القياديِّ الكردي محمود عثمان الذي أكَّـد أنَّ مصطفى بارزاني (والد مسعود) كان خارجاً من اجتماع مع وفدٍ إسرائيليٍّ عندما تعرَّض لمحاولة اغتيالٍ بسيارةٍ مُلغَّـمةٍ دبَّـرها ناظم كزار مدير الأمن العام صيف ١٩٧٣.
إلا أنَّ هذا التواجد صار بارزاً ومُؤثِّراً في حياة الكرد بمنطقة الحكم الذاتيِّ المُتشكِّلة من محافظات أربيل والسليمانية ودهوك، حيث عملت المُؤسَّسات الصهيونية بكلِّ الوسائل؛ لأجل تغيير الإرث الثقافيِّ للكرد وطرق تفكيرهم وتطلعاتهم؛ بهدف تطويعهم لأغراض المُخطَّط الصهيونيِّ .. وأبلغني صديقٌ كرديٌّ أنَّ الغسل الصهيونيَّ للأدمغة هناك وصل إلى حدِّ اختفاء حتى الزيِّ التقليديِّ (الشروال) بين أوساط الشباب، وانكفاء الغالبيَّة عن ارتياد المساجد.
وبعد الإطاحة بالدكتاتوريَّة اشتغلت ماكنة التفتيت الصهيونيَّة لجدار الوحدة الوطنيَّة في العراق بكلِّ ما أوتيت من وسائل وسعت إلى عملقة موقف قيادة مسعود بارزاني وتقوية وتعضيد وضعه، فصار يتجاهل بل يتطاول على الحكومة الاتِّـحاديَّة ويتصرَّف كرئيس دولة لا إقليم ، فنراه يزور هذا البلد ويستقبل رئيس تلك الدولة، ويعقد الاتفاقات في ظلِّ وزير الخارجيَّة هوشيار زيباري، ويتصرَّف بالمال العامِّ ويبني جيشاً يُهدِّدُ به المركز، فيما المُغفَّـلون في بغداد لاهون بسرقاتهم وصفقاتهم وفسادهم ويُسعِّـرون نار التشظِّي الطائفيِّ والمذهبيِّ بما يؤمن لهم مزيداً من الأتباع للانتخابات غير مكترثين بما يُدبَّـرُ بين أربيل وتل أبيب سراً وعلناً، حيث وفود الجانبين لا تنقطع ولم نسمع شتيمةً إلا على مثال الآلوسيِّ الذي صار الكلُّ طاهرين عندما قيل: إنَّه زار إسرائيل، فيما معظمهم يحفظ علامات الطريق بين عمَّان وتل أبيب وتعليمات مطاريهما، إضافةً لحفظ مفردات التفاهم بالعبريَّة.
ولما سلَّم ( الأشراف الوطنيُّون) الموصل وكلَّ نينوى لإرهابيي داعش كانت اللجان الصهيونيَّة حاضرةً لترتيب مواضع قدمها هناك ولرسم حدود الاقليم الجديدة وفق نظرية( الحدود يرسمها الدم ) .. وبهذا صارت الاعلام الصهيونية ترفرف في سماء ارض نينوى الطاهرة ترفع ساريتها سواعد واكف قذرة سخرها مسعود لتحرق علم العراق وتطلق عبارات الطلاق الخائبة مع العراق تمهيدا لجريمة ٢٥ ايلول التي شهد العالم عبر وسائل الاعلام وقنوات التواصل الاجتماعي مدى التزوير الذي مورس فيها.
حتى الان توضحت لنا صورة ما حدث بشمال العراق منذ نحو نصف قرن لخدمة الحلم الصهيوني وعرفنا ان شغف ال بارزاني بالسلطان جعلهم مستعدون لمعانقة الشيطان وتقبيل قدميه لتحقيق غاياتهم الذاتية خارج اطار احترام هويَّتهم وانتسابهم وتاريخ تعايشهم مع أبناء الوطن وتنكُّـرهم للقواسم المشتركة مع اخوة التراب والدم.
هذا ما يتصل بخونة الوطن، فما بال أولئك الراقصين فرحاً خارج الحدود لابتلاع اسرائيل جزءاً عزيزاً من أرض العراق تحت بيرق بارزاني؟
قيل قديماً: “شر البلية ما يضحك” .. والله ما قيل عن ذريعة الإمارات لتمويل استفتاء الخيانة في شمال العراق من أكثر البلايا إبكاءً، تصوَّروا أنَّهم يريدون قيام دولةٍ كرديَّةٍ مُستقلةٍ على جزءٍ من ارض العراق العربيِّ؛ كي تكون مُحرِّضاً لنوازع الكرد في إيران للانفصال، وبهذا تكون الإمارات قد انتقمت من إيران التي سيطرت على جزرها في الخليج (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبي موسى).
أما إذا توقفنا عند الذريعة السعودية لتأييد قيام كيانٍ انفصاليٍّ في شمال العراق، فسنقف عند تسويغ عجيب الغرابة والحمق ساقه من يعتبره السعوديون الفطحل في الفصاحة والتحليل والادراك والقدرة .. ذلك هو أنور عشقي المسؤول المخابراتيُّ الرفيع، حيث قال أمام مجلس العلاقات الخارجيَّة إنَّ قيام دولة كردستان سيُوفِّـر شروط السلام في الشرق الأوسط ويتصدَّى لأطماع تركيا وإيران والعراق !! عجباً أيَّة أطماعٍ يتحدَّث عنها الجنرال عشقي فيما الكيان الانفصالي سيقوم على جزءٍ مقتطعٍ من أرض بلٍد عربيٍّ؟!
وللحقيقة فإن الموقف السعوديَّ بتأييد اقتطاع جزءٍ واسعٍ من أرض العراق العربي ليس وليد واقعة الاستفتاء، وانما تمَّ الاتِّـفاق عليه خلال زيارة الوفد السعوديِّ الرفيع برئاسة أنور عشقي إلى إسرائيل في ٢٠ تموز ٢٠١٦ وهي الزيارة التي وصفتها صحيفة (جيروزيلم بوست) ليوم ٢٢ تموز ٢٠١٦ بأنَّها أعادت صياغة العلاقات بين السعوديَّة وإسرائيل، وأنهت التقاطع في وجهات النظر حيال الأوضاع في المنطقة.
وكان الوفد السعودي ، حسب الصحيفة ، قد التقى مسؤولين إسرائيليِّـين كباراً بينهم (دوري غولدي) المدير العامَّ لوزارة الخارجيَّة الإسرائيليَّة، حيث نقلت عن عشقي قوله: (إنَّ بإمكان السعوديَّة وإسرائيل أن يتعاونا من أجل إرساء دعائم الاستقرار في المنطقة).
وأفادت الصحيفة أنَّ (دوري غولدي) أبلغ أنور عشقي اعتذاره للسعوديَّة عن كتابه (مملكة الشرِّ) مُعتبراً أنَّـه كان يحمل وجهات نظرٍ خاطئةٍ عن السعوديَّة دفعته لإصدار الكتاب.
ولأن السعوديِّين دائما ما يستترون في اتصالاتهم وعلاقاتهم غير السويَّة فأن مجاهرتهم بهذا العلن الفاضح في تأييد اقتطاع شمال العراق لإقامة كيانٍ كرديٍّ بدعمٍ إسرائيليٍّ يخفي وراءه سيناريوهات أخطر، لعلَّ منها الدفع لإقامة كياناتٍ طائفيَّةٍ غرب وجنوب العراق، وعندهم من الخونة من يستعدُّ لأكثر من ذلك، أملي أن يصل إنذاري مكتب السيد رئيس الحكومة!!
إلى جانب كلِّ هذا التكالب الشرير ضدَّ العراق أعتقد أنَّ العوامل الداخليَّة المُسمَّمة شكَّـلت الرحم الحاضن العفن الذي ساهم في تبلور أوضاعٍ بشعةٍ قبيحةٍ تُهدِّدُ بخطورة مستقبل العراق أرضاً وشعباً وسيادةً، وفي مُقدِّمة تلك العوامل يقف الفشل في ترصين وحدة الموقف الوطنيِّ، وهو فشل يمثل مصيبة مصائب أخوة الوطن.