السيمر / الجمعة 29 . 12 . 2017
صالح الطائي
حديث نبوي غريب، أعجبني، وأدهشني، واستغربت كثيرا من الأوصاف الواردة فيه، لأنها مخالفة للواقع، أورده أبو داود، وهو حديث، أخرجه الطبراني وأبو نعيم والهيثمي والشوكاني، وقالوا: “رجاله رجال الصحيح” جاء فيه: ” عن عتبة بن عبد السلمي، قال: كنت جالسا مع رسول الله (ص)، فجاء أعرابي، فقال: يا رسول الله، أسمعك تذكر في الجنة شجرة، لا أعلم شجرة أكثر شوكا منها، فقال رسول الله (ص): “إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة، مثل خصية التيس الملهود، فيها سبعين لونا من الطعام، لا يُشبهه لون آخر”(1).
والشجرة المقصودة هي شجرة الطلح، التي ورد ذكرها في قوله تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود * وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب}(2).
والطلح هو: السَنْط أو الأَكاسيا، ويسمى كذلك: شجر أُم غيلان، وهو جنس نباتي يضم أكثر من ألف نوع من الأشجار والشجيرات. يتميز بطول الأشواك، التي تشبه سلاء النخل. قال المعمر بن المثنى: “هو عند العرب شجر عظام كثير الشوك”(3)، وينتشر الطلح عادة في الصحارى والبراري قليلة المياه، ولا ينبتُ إِلا بأرض غلـيظة شديدة خصبة، ومنابته بطون الأودية، وواحدته طَلْـحة. ويبلغ ارتفاعه أحيانا أكثر من عشرين مترا، وهو شجرة صمغية يستخرج منها الصمغ العربي.
لكن للإمام علي (ع) رأي آخر في صنفه ومعناه، إذ جاء عن قيس بن سعد، أنه قال: “قرأ رجل عند علي (ع): (وطلح منضود)، فقال علي: ما شأن الطلح؟ إنما هو: (وطلع منضود)، ثم قرأ: (طلعها هضيم)، فقلنا أولا نحولها؟ فقال: إن القرآن لا يهاج اليوم، ولا يحول(4)، والمعروف أن الطلع غير الطلح. وربما لهذا السبب نجد لأهل التأويل من الصحابة والتابعين رأيا مختلفا آخر، إذ قالوا: الطلح هو: الموز. وهذا ما جاء في مختار الصحاح أيضا، لأن الطلح لا ينضد بينما الموز ينضد أي يوضع بعضه فوق بعض!.
لكن مع كل هذه الأقوال، هناك من أنكر معرفته بمعنى الطلح الذي قصدته الآية من أصله، بالرغم من شهرة المنكِرِ وباعه الطويل في رواية الحديث والتفسير، إذ قال ابن زيد في قوله تعالى: وطلح منضود: “الله أعلم، إلا أن أهل اليمن يسمون الموز الطلح، وقوله: منضود، يعني أنه قد نضد بعضه على بعض، وجمع بعضه إلى بعض”.
إن بين ما ورد في الحديث النبوي وقول علي بن أبي طالب ورأي بعض الصحابة والتابعين، تتوزع الرؤى، وتتشعب الاتجاهات، فتأخذنا يمينا وشمالا، وتدخلنا في متاهات الحيرة والشك ليس لأننا نحب الدخول في مثل هذه الفضاءات التي تُشغل الإنسان عما هو أهم، لكن رغبة في تبيان بعض ملامح توجهات السابقين.
لكن فضلا عن تلك الحيرة، نجد أن الأمر لا يقف عندها فحسب، بل يتعداها إلى موضوع التشبيه الوارد في الحديث، حيث شبه النبي(ص) ثمار شجرة طلح الجنة بمثل (خصية التيس الملهود)، يريد الإشارة إلى كبر حجمها، والتيس الملهود هو: التيس المخصي، والمعروف أن عملية الخصي تتم بإزالة كل من الخصيتين والبريخ في ذكور الحيوانات، حيث تقلل عملية الخصى من مستويات الهرمونات الذكورية في دم الحيوان، مما يزيد من قدرة جسم الحيوان على تكوين الدهون، فضلا عن كون الإخصاء يسهم في تحسين الصفات العامة للذبيحة، كما إنه يزيد من هدوء الحيوان.
وتجرى عملية الخصي عادة في سن صغيرة، ففي الخراف مثلا، تجرى بمجرد نزول الخصيتين داخل كيس الصفن، أي بعد ولادة الحيوان بأيام قليلة، أو في الأسابيع الثلاثة الأولى من عمره، لأن خصي الحيوانات كبيرة السن يؤدي إلى تأثيرات سلبية، منها حدوث خلل في معدلات نمو الحيوان، ويكون أصعب، وأكثر ألما، وأبطأ في الشفاء والتئام الجروح. وهذه أمور يعرفها العربي القديم
ولخصي الحيوانات طريقتان معروفتان:
الأولى: الطريقة القديمة الموروثة تاريخيا، وتتم باستخدام شفرة حادة لإحداث ثقب في كيس الصفن، ثم الضغط من أعلى إلى أسفل على الخصية، لتخرج من كيس الصفن، ويخرج معها الحبل المنوي، وتتكرر العملية مع الخصية الثانية.
الثانية: الطريقة الحديثة، وتسمى “البورديزو” وهي أداة تستخدم للضغط على الأوعية الدموية والحبال المنوية المتصلة بالخصيتين وسحقها، لمنع تدفق الدماء والحيوانات المنوية إليهما، ثم تنكمش الخصيتان وتضمران بمرور الوقت، وذلك بسبب تلف الإمداد العصبي والدموي الواصل إليهما.
أي أن التيس المخصي، سواء أخصي بالطريقة القديمة أم الحديثة، أو بأي طريقة أخرى، لا يملك خصيتين لكي تتخذ مثلا، فكيف شبه رسول الله (ص) ثمار شجر الطلح بشيء غير موجود أساسا؟ وكيف تقبل الأعرابي صاحب الأغنام والتيوس منه ذلك؟
ثم إذا ما كان النبي(ص) قد ظرب خصية التيس المخصي مثلا، فذلك يعني انه لم ينه عن خصاء الحيوانات، فلماذا اختلف الفقهاء في حكم الخصاء، فمنهم من أجازه ومنهم من كرهه، ومنهم من فصل بين الصغير والكبير، ومنهم من منعه مطلقا مستدلا بما رواه البزار، من حديث ابن عباس: “أن النبي(ص)، نهى عن صبر الروح، وعن إخصاء البهائم نهيا شديدا”(5). وقال ابن كثير في تفسيره: قال ابن عباس في قوله تعالى {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}(6): “يعني بذلك خصي الدواب، وكذا روي عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري، وقد ورد في حديث النهي عن ذلك(7). وفي حديث عن ابن عمر : “نهى النبي(ص) عن خصاء الخيل والبهائم”. رواه احمد في مسنده، وقال الألباني: “صحيح”. (8)
وهكذا شغل الأقدمون انفسهم في أمور ثانوية لا طائل منها، وتركوا الحديث في التقويم والتعليم والتربية، وبالنتيجة، ترون حالنا اليوم لا تسر صديقا ولا عدوا، وحينما يرغب أحدنا بمناقشة مثل هذه الأمور للتنبيه عنها لا للتشكيك بصحة السنة أو الطعن بها أو الاستهانة بمنزلتها، يتصدى لك عشرات المتفيقهين ليخطئوه، وربما يكفروه، ويحلون ذبحه كما يذبح التيس المخصي وغير المخصي!
الهوامش:
(1) أبو داود، البعث والنشور والحياة بعد الموت، ص97 حديث: 69.
(2) الواقعة: 27ـ 31.
(3) الطبري، تفسير الطبري، ج23/ص111ـ112.
(4) الطبري، المصدر نفسه، ج23/ص111)
(5) قال الشوكاني في “نيل الأوطار”: إسناده صحيح.
(6) النساء: 119.
(7) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم،ج2/ص416
(8) الألباني، صحيح الجامع، حديث رقم : 6956