السيمر / الأحد 08 . 04 . 2018
د. رحيم الغرباوي
الشاعر ذلك المترجم للأحاسيس الباذخة الصور , المستجيرة بمعاني الكون , من رفرفة طيور , وهسيس شجر , ولمع برق ؛ ليكلل شعوره ترجمةً من تشاكل الصور ؛ ويسدل من كلماته على متلقيه أناقةَ المظهر التي تعبِّر عمَّا يستشعره نحو الكون والوجود.
والشاعر هو ذلك الذي يخرج من فرديته ويدخل عالم الواقع , بعدما يطيح بأسراره ؛ ليعلنها على الملأ ، ذلك هو الشعر يحقق وجوده إذا ما أباح بحقيقته الماكثة في الشعور , والتي يبحث عن لألائها غير الشاعر , فيطرب لها ؛ لأنه تلمسها من طريق مكتشفها ( الشاعر ) , وكلنا يحبُّ الحقيقة ؛ لكن ليس جميعنا يصرِّح بها , وقد لايصرح الشاعر بل يرمز ويتخفى لكنه مستعملاً رموزه التي تومئ إلى مشاعره وأفكاره , وهي تدهمه بين الحين والآخر طالبة منه التصريح أو التلميح بها , فهو الشعور الإنساني الذي يختلج صاحبه ؛ مما يجعله في كثير من الأحيان أن يرسل صوراً تراسلية ” شعرية تستمد طاقة الدهشة والإمتاع من غرائبية الاستعارة التي تعتمدها في آليتها الفنية ” (1) فيتلقاها السمع والذوق والبصر
لما فيها من تعبيرات تحقق لدى المتلقي مثلما حققت لمنتجها ، حين يكتشف ويرسم .
وباسمة المشهداني من طرازٍ من يتلمس المشاعر ؛ لينتج صوراً حسية بالصوت والصورة ؛ لتعبر عن دواخلها الشعورية بأبسط العبارات , وأدقها تعبيراً , فهي تقول :
يسرقني ذلك السامري
عازف الناي
يأخذني بشوق الحنين
أغمض عينيَّ ؛ لأستفيق بعالم الخيال.
أفردُ أشرعتي للنسيم
أطلقُ العنان لتلك الخافقات
مؤذنةً لها بإشراقة فجر جديد
إذ نراها تعزف سمفونية العشق مستوحيةً السامري الذي غوى الناس بتمثاله الذي صنعه بيديه ؛ ليغويهم إليه بدلاً من إله موسى , فالشاعرة حاولت أن ترتكز على هذا الرمز ؛ لتومئ إلى الفتنة التي سحرتها ؛ وهي تعيش عالماً خياليا وارف الظلال من فعل الناي الذي يمثل بعزفه العذوبة والجمال والرقي , ولعلَّ إشراقة الفجر الجديد , هي عبارة تشير إلى منعطف جديد في حياتها ؛ تلبيةً لنداء السامري الذي اختطفها بعزفه . فهي تطلق العنان للأشرعة الخافقات ؛ كي تقطع مديات الزمن الذي به يتحقق حلمها في الخلاص من نقطة الصفر ( الماضي ) الذي تستشعره جموداً واستكانة , طامحةً إلى حياة أرفه وأرقى .
ولما كان الفن بطبيعته كياناً مفتوحاً يحمل المعاني والأحاسيس ( 2) فهو قريب للناس , ووسيلة التواصل والاتصال بهم فكلاهما طرف في عملية التذوق ؛ لذا نجد شاعرتنا تسعى إلى تحقيق هذا الهدف المهم للشعر , لتمنح متلقيها أملاً منشودا طالما في الحياة محطات قابلة للاستبدال بفعل الزمن , فنراها تقول :
كلِّمي السحب ,
المسي السماء بأناملك
اخبريها بروعة خلجانك
استبيحي الخيال ,
اقتلي الحزن ,
عانقي الزمان ,
افردي الحلم أكثر ,
اكتنزي من سعادة السماء بهطول المطر
باجنحة رفرفت للزمن
واغتنتْ من نسيم السمرْ
فنراها تجعل في قصيدتها شخصيتين تتحاوران ( هي – الآخر ) , وهذا لون فني يجعل من مخيلة المتلقي تغور في آفاق الحديث على الرغم من بساطته ، إلا أنَّه يضفي جمالاً لذائقة المتلقي , فنرى دعوة المنادي لها : أن تُكلِّم السحب ، أليس للسحب أصوات تبشِّر بالنعيم العميم , أما ملامسة السماء , هي أيضاً تستشعر انفتاح النفس إلى عالم واسعٍ يزخر بالأشياء التي تروق للنظر , كذلك نجدها قد أنْسَنتْ الأشياء ؛ لتخبرها بروعة خلجانها , والخلجان هي ما تستمد قوَّتها من السماء بفعل المطر , وإنَّ الرابط بين لمس السماء ونزول المطر مسلمات رغبة البشر في التصالح مع السماء تلك الراعية والمتحابة مع الجميع , وهي من تمثِّل البشارة , وقد كان الإنسان القديم من يهتم بشؤون السماء والنجوم ؛ لما فيها من آفاق تمنح الحياة نعيمها وسر خلودها .
ولعلَّ الزمان لدى الشاعرة المشهداني ليس لدى غيرها من شعراء النزعة السوداوية ، إذ نراها تعانقه , لاتجافيه ؛ لأنَّه يمثل وسيلة التغيير في حياتها , كما هي السماء الذي يهطل المطر؛ لانبعاث الحياة من جديد ؛ وكما الليل الذي يعقبه النهار ؛ كونهما من صنع السماء , فالزمان لدى الشاعرة , هو الآخر يمثل لها انبعاث الحياة إلى ما هو أجمل وأنقى , وعلى رأي أوغسطين : إنَّ الزمان يمثل ” الحاضرة باعتبارها جوهر الوجود وعلى الذهنية باعتبارها مركز إيصال الماضي بالمستقبل عبر جسر الحاضر , وإنَّ الذات الإنسانية تُسقط على الزمن عوالمها , وهذا ما يؤكد أنَّ الوعي بالزمن ينتسب إلى المستوى الداخلي للوجود ” ( 3) ؛ لذا نجد شاعرتنا متفائلة بالمستقبل بوصفه يحقق لها ما يمكن أنْ تراه بما يبرق في مخيلتها , وهي تجعل من حلمها المتفرد الاكتناز بسعادة السماء وهي تهدي المطر لمن يحتاجه , ولعل الزمن يمثل لديها معبراً وقتياً ؛ لتحقيق سعادتها طالما تؤمن بالمتغيرات منتظرة منه نسيم السمر , ذلك الذي يجسد سلوة الأمل , وانبعاث الحياة .
(1) تراسل الحواس , د. أمجد حميد عبد الله : 93
(2) ينظر التذوق الفني , د. حمدي خميس : 7
(3) الزمن في شعر العراقي المعاصر , د. سلام الأوسي : 24