السيمر / الثلاثاء 22 . 05 . 2018
قراءة وتوثيق: رواء الجصاني
من قصائد الجواهري المتميزة، دالية ” أزحْ عن صدركَ الزبدا” التي القى قسما منها بمدينة النجف العراقية، عام 1975 في حفل مهيب اقامته له هناك الرابطة الادبية، بمناسبة منحه جائزة(لوتس) من اتحاد كتاب اسيا- افريقيا، ومقره القاهرة آنذاك (1) . وقد كان حضور الاحتفاء النجفي بالشاعر لافتاً، ووثـِق عنه بأن المدينة لم تشهد له مثيلا، لسنوات وسنوات.
وفي فترة لاحقة، اضاف الجواهري لقصيدته أبيات أخريات ، لتكتمل وتنشرها مجلة “الديار” اللبنانية في آذار 1976 وقدمت لها: ” في هذه القصيدة نرى الشاعر ينتقد عصره المليء بالزيف والخداع، وهو يسمو متعالياً بكبرياء الشاعر. ناهيك عن كبرياء محمد مهدي الجواهري. انها ضرب من الطموح الى تجاوز النفس والآخرين، في محاولة اختراق للمستحيل..” (2).
وحين نزعم بانها قصيدة متميزة، فلا بدّ إذن ان نسبب رؤانا تلك، فنقول انها جاءت اشبه ببعض سيرة ذاتية للشاعر الخالد، اشاع فيها مجددا ما تبناه من مبادىء وثوابت، نافذة في صورها وأغراضها. ونحن هنا لن نتداول في بنائها اللغوي، أو فنها الشعري وموسيقاه، ولكن نركز على الفحوى والمعنى، دون الحبـك والمبنى .
ولعل أول ما تجدر الاشارة اليه ان الجواهري القى القصيدة المعنية في مدينته – النجف، التي يزورها – كما ندري- لأول مرة بعد أزيد من خمسة عشر عاماً، على الاقل. فقد رحل الى المغترب البراغي منذ العام 1961 ولم يعد الى بلاده حتى اواخر العام 1968. وكأني استشـفّ هنا ان الجواهري لم يختر “النجف” صدفة لالقاء تلك القصيدة بالذات، بل كان عامداً متعمداً، في نوع من العتاب عليها، ورجالاتها، في ضعف مناصرتهم له، كما يرى هو على الاقل.
وكما هو ظاهر من سياق قصيدتنا، كان كل الحوار والمخاطبة فيها مع الذات، وهي طريقة طالما لجأ اليها الجواهري في قصائد عديدة، ليوصل الفكرة وبـيت القصيد، بل لنقل ابياته. وهنا تبدأ السيرة الذاتية هادرة من رمز وشاعرهضيمٍ رَكـنّ آلامه سنيناً ليفجرها مرة واحدة، بعد كبت طال مداه. كما راح يوجز مواقفه وانطلاقاته، مقارناً، ومفتخرا بالشجاعة والجموح. وهكذا يأتي القصيد نابضاً على مدى أكثر من مئة وأربعة عشر بيتاً، لتحريض الذات، ولتبارز وتجابه، وان لم يكن المتطاولون يستحقون المنازلة أحياناً:
أزحْ عن صدرك الزبدا ، ودعه يبث ما وَجدا …
ولا تكبت فمن حقب ذممتَ الصبر والجلدا
أأنت تخاف من أحدٍ، أأنت مصانعٌ أحدا ؟!
أتخشى الناس، أشجعهم يخافك مغضباً حردا
ولا يعلوك خيرهم ، ولست بخيرهم أبدا
ولكن كاشف نفساً ، تقيمُ بنفسها الأودا …
وفي اطار استعراضه لبعض سيرته ومساره الوطني والشعري، يوحي ويشي الجواهري لغير العارفين به، الى ما كان متاحاً امامه، من فرص ومجالات، عافها اختيارا، ليستبدلها بالتمرد، والثورة: الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية، جمعاً متشابكــاً يصعب التمييــز بين هذا وذلك منه:
تركتَ وراءك الدنيا ، وزخرفها وما وعدا
ورحت وانت ذو سعة ، تجيع الآهل والولدا…
وعن رؤاه وفلسفته ونهجه في الحياة، يوثق الجواهري شعرا، قيماً ومفاهيم راسخة، معتزاً بها، ثابتاً عليها، عزوفاً عن تغييرها برغم ما أودت به، وما تأذى بسببها .. كما يوضح في ذات الآن، وبكل صراحة وأقتناع، تناقضاته التي” تميّـز” بها:
ظللتَ تصارع الأسدا، تريد المجد والصفدا
وتطمعُ تجمع القمرين فخرهما اذا أنفردا…
عجيبٌ أمرك الرجراج لا جنفاً ولا صددا
تضيق بعيشة رغدٍ، وتهوى العيشة الرغدا..
وتخشى الزهدَ تعشقهُ، وتعشق كل من زهدا
ولا تقوى مصامدةً، وتعبدُ كل من صمدا
ويدنو مطمحٌ عجبٌ، فتطلب مطمحاً بَعدا
ثم يعود تالياً، وفي مقطع أو ابيات لاحقة، فيشير ويصف المعنيين الذين عانى منهم، كما يردّ على تطاولهم، وخاصة في سنوات ما بعد عودته من مغتربه، براغ، ذي الاعوام السبع. وهو – اي الجواهري هنا – يستكمل ما عاناه منهم، ومن عناهم في قصائد سابقة، وخاصة قصيدته الشهيرة عام 1969( ياآبن الفراتين) (3):
أزحْ عن صدرك الزبدا، وهلهل مشرقا غردا
وخلْ “البومَ” ناعبة ، تقيء الحقد والحسدا
مخنثةً فان ولدت ، على “سقط” فلن تلدا…
ثم يناجي “خـلاً” سعى ان يتساءل او يحاجج مدافعاً، أو مبرراً، فأوضح له الشاعر ما يستحق من توضيح، ولكي يمهد الدرب، خائضاً المواجهة المنتظرة:
ألا انبيكَ عن نكد ٍ، تُهوّن عنده النكدا
بمجتمع تثير به، ذئاب الغابة الأسدا…
خفافيش تبص دجىً، وتشكو السحرة الرمدا
ويعمي الضوء مقلتها، فتضرب حوله رصدا…
وبعد ذلكم التمهيد تحـلّ المواجهة، ويروح الشاعر العظيم يشخص تحديدا، واحدا أو أكثر، وإن اراد التعميم، وثمة تكهنات – بل وربما معلومات مؤكدة- عن أولئك، ولكن لن نشير لهم هنا، مسايرةً لترفع الجواهري عن ذكـر الاسماء، وتلك هي حالة جواهرية عامة في كل قصائده مع أستثنائين أو ثلاثة (4) .
وصلف ٍ مبرق ختلاً ، فان يرَ نُهزةَ رعدا
يزورك جنح داجية ، يُزير الشوق والكمدا
فان آدتك جانحة ، اعان عليك واطردا ..
وآخر يشتم الجمهور، لفَّ عليك واحتشدا…
يعدُّ الشعر أعذبه، اذا لم يجتذب احدا..
وعلى طريق توثيق سيرته الذاتية ايضا، ترميزاً وشعرا، يروح الجواهري مفتخراً بمحطات من مواقفه الوطنية، وهنا نقرأ عنايته بشعره ومواقفه أثناء التحركات الجماهيرية عام 1948 التي أصطلحَ عليها بـ”وثبة كانون” (5) . كما يستطرد ليشيع مفاهيمه في تجاوز الصغار، فيخاطب نفسه، ويستثيرها: ..
أبا “الوثبات” ما تركتْ ، بجرد الخيل مطردا
يضجُ الرافدان ، بها، ويحكي “النيلُ” عن “بردى”
ويهتف مشرق الدنيا، بمغربها اذا قصدا:
ترفعْ فوق هامهمُ، وطرْ عن ارضهم صعدا
ودع فرسان “مطحنة” خواء تفرغ الصددا…
ويعود الجواهري في مقطع تالٍ، فيذكر من جديد بانتقاده، بل وغضبه العارم، على تلك الجمهرة المقصودة، ومنها اشخاص محددون، من الشعراء والادباء والنقاد، فيشكو منهم، معتمراَ الصراحة والوضوح، ويكشف عنهم، ويحرض ضد مواقفهم ودروبهم، وابتعادهم عن الانتصار للحقوق والواجبات، ويقيس ذلك على نفسه، فاللغة العربية أنتهكت، وهي أم الضاد، وكذلك “ربّ الضاد” زاعما بأنه يمثله، ولربما دون منازع (6) .
وغافين ابتنوا طنباً، ثووا في ظله عمدا
رضوا بالعلم مرتفقاً ، وبالاداب متسدا…
يرون الحق مهتضَماً، وقول الحق مضطهدا
وام “الضاد” قد هتكتْ، وربُّ “الضاد” قد جُلدا
ولا يعنون – ما سلموا – بأية طعنة نفدا
بهم عوزٌ إلى مددٍ ، وانت تريدهم مددا…
أخيرا ندعي مجدداً، للتأكيد، ان الجواهري كان ملتاعاً من صمت أدباء ومثقفين، على أقران وغيرهم، حاسدين ومنافقين من ذوي الوجوه المتعددة – بحسب الشاعر الخالد – ممن جهدوا حينذاك لاستغلال الظروف، وتحت رايات «التحديث» الحقيقية أو المدعاة، للإيذاء، فراح يمسك بتلابيبهم، ولا فكاك لهم من «قبضة» الشعر غضباً ولم نسمع منهم رداً، أو جدالاً، ولربما أحترازاً مما هو أقسى، في القادم، حين يثور الجواهري، وما أكثر ثوراته !.
هوامش واحالات —————————————————————-
1/ جائزة “لوتس” السنوية الدولية للآداب، اطلقها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا عام 1969 وممن مُنحت لهم ايضا، من العرب: الكاتب المصري، يوسف السباعي، والروائي الفلسطيني: غسان كنفاني.
2/ الديوان الجواهري العامر طبعة دار العودة اللبنانية – 1982 الجزء الرابع.
3/ وهي قصيدة ذائعة الصيت، وفيها ما فيها من ابيات قصيد، وفي بعضها ردود لاهبة على متطاولين عراقيين وعرب، تحت راية ولبوس النقد والحداثة، وجاء مطلعها:
“يا آبن الفراتين قد أصغى لكَ البلدُ.. زعما بأنك فيه الصادحُ الغردُ”
4/ كان الجواهري يردد في مثل تلكم الحالات بيت شعر شهير، للمتنبي، يقول:
” صغرتَ عن المديحِ فقلت أهجى، كأنك ما صغرتَ عن الهجاءِ”
5/ للجواهري في “وثبة كانون” العراقية عام 1948 مواقف سياسية، وعديد من القصائد اللاهبة، واشهرها في رثاء شقيقه الاصغر (جعفر) الذي استشهد برصاص شرطة العهد الملكي في احداث “الوثبة” ومطلعها:
“أتعلم أم أنت لا تعلمُ.. بأن جراح الضحايا فمُ”
6/ لربما كان الجواهري يريد ان يشير هنا الى ما أطلقه عليه الشاعر العراقي البارز، معروف الرصافي، من لقب أفخم، حين كتب له عام 1941:
“أقولُ لربّ الشعرِ (مهدي الجواهري) ..الى كم تناغي بالقوافي السواحرِ”
مع تحيات مركز الجواهري في براغ
www.jawahiri.net