السيمر / الأثنين 28 . 05 . 2018
د. رحيم الغرباوي
الخبرة الشخصية هي ديدن العمل الأدبي في الاتجاه الرومانسي , إذ أنَّ أكثر ” المواقف تمثيلاً وإيضاحاً لها هو الفردية ، … فالرومانسي أما أنْ يكون إنساناً لايفكِّر إلا في ذاته , وأما يكون ثائراً هائجاً ضد المجتمع ” (1) , وهو مفهوم بدأ بظهور هذا الاتجاه ؛ إذ مثَّل ردَّة فعل ضد الاتجاه الكلاسيكي الصارم في قيوده الذي جعل للعقل النصيب الأوفر , فقد امتثل فيه الأدب لسيادة الفلسفة العقلية من خلال الاحتكام إلى العقل وتمجيده . أمَّا الرومانسيون فقد فضَّلوا العاطفة , ورأوا أنَّ الأدب لايمكن أن يكون حكراً لطبقة أو اتجاه , إنما هو تعبير عن روح تغنَّت بالجمال وانطلقت إلى فضاءات رحبة , وعوالم مطلقة تداعب نسائمها قلوباً تتغنى بالحب والجمال , وتشترك بذاتها مع كائنات الطبيعة الحية والجامدة ؛ كي تمنح الروح حريتها دون التقيد بــ ” القواعد والتقليد , وتؤكد أهمية التلقائية والغنائية , كما أنها تميل نحو أحلام اليقظة والغموض وخلط الحواس بعضها ببعض وتداخل وظائف الفنون المختلفة ” (2) .
ويبدو أنَّ الفن لدى الشاعر لا سيما الرومانسي يمثل لديه صرخة في سبيل ” تحرُّر الإنسان من عالمه اليومي , والسائد , والمألوف , والسطحي الواضح , والانتقال إلى عالم الباطن , ومواطن الأسرار , وبلوغ الموجود المبدع الكائن في أحشاء هذا العالم ” (3) ؛ لذا فاستطاع الشعر لدى الرومانسي أن يمتلك الاحساس ” السوي الفريد ، إحساس عميق وخصب ، وفيه نستكشف كل أسس النظام والانسجام والتوافق ، وبذلك يستطيع الفن ومنه الشعر أن يجمع بين الممكن والمستحيل والمجهول والمعلوم ، بل إنه قادر على إحالة الحلم المتصور , واللامرئي إلى عالم مُجسَّد بالألوان كما في الرسم , والحركات كما في الرقص , وفي الكلمات كما في الشعر ” (4) .
والشاعرة اللبنانية آمال شحاذة ترسم بأحاسيسها من خلال بوحها الشعري الرومانسي روح الإنسانية المطلقة التي يتغذى منها الأمان والسلام , فنراها تعزف على وتر المحبة والاحساس الصادق لنقاء الروح حين تخلد بوداعة العيون وطلاوة السحر لمباهجها الأثيرة , نراها تختصر الكلام ؛ كي نتذوق منه شهد المضمون , فهي تقول :
حبيبي ,
اختصرْ كلام الجسد
فكلام الروح
يغريني … .
فالشاعرة تبرق لنا نشيد قلبها الذي لايساوم على الحب بمتعة زائلة بل ؛ ليفصح عن خلود ذلك الحب للعيش في ديمومة رياضه ؛ كونه ينبع من الروح بوصفها هي الخالدة , واللازم لابد أن يتبع الملزوم .
أما تهجداتها , فنراها ترسمها بأسلوب المفارقة التي تتأتى لديها من عمق شعوري يمنح النص دفئاً ترتاده روح القارئ ؛ فيتأجج فيها من جمال الصورة دهشةٌ تبعث على متعة التلقي , إذ تقول :
لو هطلَ ماء العين
مَن يمسح الدمع عن خدٍّ حفرته سواقي الملح ؟ .
من يشفي للروح جراحها ؟
ومَنْ يوقف نزيف القلب ؟
قلبٌ مزَّقتهُ قسوةُ الزمن ؟
ومن يمسح ما علقَ في الذاكرة من ألمٍ فاق كلَّ الوجع ؟.
فهي تحاول أنْ تظهر ما بداخلها من نُواح ، نواح الروح في قفص البدن , فتترجمه إلى كلمات بسبكٍ فني ، بوصف فن الشعر يكمن في نظمه , كما هو جمال الذهب يمتعنا بفنية صياغته , ولعلَّ الشاعرة تترجم ما يعتريها من استعارات متنوعة ، فالهطول هو من لوازم المطر , لكنَّها أرادت أن تبين غزارة بكائها , فشبهته بهطول المطر ، كذلك استعملت السواقي , وهي حواضن الماء لكنها استعارت لها الملح من دون الماء ؛ لترسم لنا صورة متضادة بين الخد الذي يوسم بالترف عند الأنثى , و الدمع الذي يكتنز بالملوحة , فقد حفر ماؤه سواقيا , ترسبت أملاحه , وهو يشق فلوات خدودها التي صارت صحراء جرداء تكتنف شقوقها أملاحه ؛ إشارة إلى الخواء والحرمان , أما تساؤلاتها عمَّن يمسح دموعها , ويشفي جراحها , ويوقف نزيف قلبها , و يمسح لها آلآم الوجع الذي علق في ذاكرتها , فهي مجموعة أسئلة تبين فيها استحالة ذلك الشخص الغائب من خلال صيغ الاستفهام الإنكاري , لكنها في الوقت ذاته أطربتْ لواعج أحزاننا معها بجمال الصور ومدى قدرتها على بلوغ أوتار عطفنا وشفقتنا لها ؛ لما أصابها من قسوة الزمن التي مزقت قلبها عندما رفل بالحب , وهل هناك أرق من قلب يحمل في ثناياه وشائج الروح الهائمة بالعشق والمنادية إلى أقصى مسافاته التي لم تجد الغائب , ولا ظلاله مهما دوَّى صدى نواحها.
ومن ومضاتها الشعرية قولها :
أنا … !
أنثى العشق..
أنا … !
من شردها الحب …
وأسكنها أقبية الحنين !
لعل الشاعرة تحاور متلقيها ؛ لتظهر له أناها المتعالية على أناث جيلها ؛ لكنها ببراعتها في استثمار الحرف تدخلنا أيضاً بين زهور تعبيراته , فعلى الرغم من أنها المتمرسة في العشق والهائمة فيه , والجاذبة لكل ما حولها إلا أنها تحدث لنا صدمة تحثُّنا فيها على استيعاب المفارقة , وهي تعلن انهزامها أمام الحب الذي اكتنف قلبها الذي يجعلنا أن نؤوِّل نصها بما تلمِّح لنا فيه من مدى هَول وقعته عليها فبدَّد لديها نرجسيتها ؛ ليجعلها تسكن أقبية الحنين لائذة فيها , منكسرة من عواقب حبَّها الكبير .
ويبدو أنَّ شاعرتنا , وهي المدركة لوسامتها والمحتفلة بملامحها , لكننا نراها مرتبطة بروحها في نصوصها ؛ كونها تبحث عن العشق النقي المنبعث من جذوة الروح , فلا تؤثر عليها الكمالات الجسدية سواء ما تمتلكه هي , أو ما يمتلكه الآخر , إنما تشعرنا أنَّ دنياها هي عالمها الرومانسي الذي يمنحها متعة الهيام بعالم ليس كعالمنا , بل هو عالم المعنويات الذي يرفدها شعوراً ماتعاً بالخلود ؛ كون الروح هي مصدر ذلك خلود , وأنَّ الأشياء طالما تعيش في أدراج عوالم الروح ؛ لذا فهي مَن تمنحنا هوية الحب النقي وديمومته المطلقة .
(1) في النقد الأدبي الحديث , د. فائق مصطفى :65
(2) المصدر نفسه :66
(3) دراسات في الشعر والفلسفة , د. سلام الأوسي : 49
(4) المصدر نفسه والصفحة نفسها .