السيمر / الثلاثاء 04 . 09 . 2018
صالح الطائي
(موضوع كتبته بمناسبة إعلان الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي اليوم)
الصلاة عمود الدين، وهي أول ما أقر من أحكام العقيدة. وسورة الفاتحة عمود الصلاة، وهي أول ما تعلمه النبي(صلى الله عليه وآله)؛ لا تصح الصلاة المكتوبة إلا بالإتيان بها، ومع ذلك تجد المسلمين يختلفون في زمن نزولها إلى حد المهزلة والإسفاف، دون أن يلتفتوا إلى هذا المعنى. إذ أورد الشوكاني والسيوطي، عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) وميسرة وابن عباس والحسن وقتادة (رض)، قولهم: إنها مكية. وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول، والثعلبي في تفسيره عن علي (رضي الله عنه) قال: “نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش”(2).
وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف، عن عبادة، قال: “فاتحة الكتاب، نزلت بمكة”. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة، والثعلبي والواحدي من حديث عمر بن شرحبيل، أن رسول الله لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي، فذهبت به إلى ورقة، فأخبره، فقال له: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد، قل: بسم الله الرحمن الرحيم، حتى بلغ ولا الضالين الحديث”.
بل قدمها أبو ميسرة، فوضعها في بدايات الطور المكي، كما في قوله: “أول ما أقرأ جبريل النبي فاتحة الكتاب إلى آخرها”. ونجد ابن عباس يؤكد أنها نزلت بمكة بعد (يا أيها المثر)”( 3).
ومع ذلك تجد بينهم من ادعى أنها مدنية النزول، فمع أن نزولها في مكة من البديهيات، طالما أنها يجب أن تُقرأ في الصلوات، والصلاة نفسها فرضت في مكة قبل الهجرة، إلا أن جماعة منهم انبروا، وادعوا أنها مدنية!. واستدل من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد بن أبي هريرة: “رن إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب. وأنزلت بالمدينة”(4). ونقل السخاوي عن أبي هريرة، ومجاهد، والزهري، وعطاء بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، قالوا: “نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. والأكثر على خلاف ذلك”(5).
وأراد قسم آخر منهم تسوية الأمور بالتراضي، وفق قاعدة تسطيح العقل الإسلامي، فادعوا تكرار نزولها، لهذا، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم من طرق، عن مجاهد، قال: “نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة، وقيل: إنها نزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة، جمعا بين هذه الروايات”(6).
والقسم الرابع منهم، أراد أن يحل الإشكال على طريقة أبي بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم، فادعى أن نصفها الأول نزل بمكة، ونصفها الآخر، نزل بالمدينة، حكى أبو الليث السمرقندي: “أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة”(7).
واكتفى الكرمي بقول: “مكية وقيل مدنية وهي سبع آيات”(8).
تجد كل هذا الاختلاف والخلاف الغريب حول مكان نزول سورة فاتحة الكتاب، في الوقت الذي كادوا أن يتفقوا فيه على أن الصلاة فرضت على المسلمين في صبيحة ليلة الإسراء في مكة قبل الهجرة، جاء عن أنس بن مالك(رض): قال النبي(صلى الله عليه وآله): “ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك، حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلت استحييت من ربي”(9). وقال ابن كثير: “فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا”(10). وهناك بينهم من تحدث عن إجماع العلماء على أن الصلوات الخمس لم تفرض إلا في هذه الليلة(11).
وفي الأثر أن أبا سعيد بن المعلى، وهو صحابي من الأنصار قتل ببدر(12)، ترك قراءة الفاتحة في صلاته، فدعاه النبي، لأن صلاته باطلة، فأعلمه مكان الفاتحة وشأنها(13).
تؤكد هذه الروايات بلا أدنى شك أن الفاتحة قديمة النزول لأنها من شروط صحة الصلاة التي فرضت في مكة. ومع ذلك يأتي من يروي أن أنصاريا كان يصلي بدون قراءة الفاتحة وأن النبي استدعاه وهو يصلي لكي يعلمها له، عن أبي هريرة أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خرج على أبي بن كعب، فقال: رسول الله: يا أبي، وهو يصلي، فألتفت أبي، فلم يجبه. وصلى أبي، فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله: وعليك السلام، ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعونك؟ فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة، قال: فلم تجد فيما أوحي إلي أن (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)؟ قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله. قال: تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها”(14). وفي خلاصة القول نجد أن (الفاتحة) التي رُحِّلتْ حسب بعض أقوالهم إلى الطور المدني، هناك من يذكر أنها أول السور نزولا، بل سبقت (اقرأ) و(المدثر) في النزول(15).
ولأن المسلمين في غابر وحاضر تاريخهم لا يقوون على رد الحجة بالحجة غالبا، ويلجئون إلى الطريق الأصعب عادة، تجدهم يلجئون إلى التأويل والتعليل، ففيما يخص الحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره، قال الرومي: إن هذا الحديث لا يدل على أن الفاتحة كانت أول ما أنزل، بل فيه دلالة على أن جبريل خاطب الرسول غير مرة.. وهذا الحديث مرسل لا يقوى على مناهضة حديث عائشة المرفوع(16).
المهم أن الذي تسبب بهذه الفوضى هي الأحكام الفقهية التي ولدت بعد عصر البعثة بزمن طويل، فمع أن فاتحة الكتاب أحد أهم أركان الصلاة المفروضة إلا أنهم اجتهدوا قبالة هذه الحقيقة مما خلق فجوة تتيح لمن يريد تأخير نزولها إلى الطور المدني أن يقول ذلك دون خوف، ومن يريد أن يقدمها إلى الطور المكي يقول ذلك دون خوف، فبعدما اختلفوا فيما إذا كان يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب، أم تجزئ هي أو غيرها؟ فقال الإمام أبو حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم: إنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة، واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}(17)، وبما ثبت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته أن رسول الله، قال له: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر، ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلناه. وذهب آخرون إلى أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء؛ واحتجوا على ذلك بحديث: “من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج”(18). واحتجوا أيضا بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب”. وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: “لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن”.
ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم ذهبوا: أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات، أخذا بمطلق الحديث: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه، لقوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}(19).
وقد طُبِّق أسلوب التعليل على باقي الروايات للغاية نفسها، إذ هناك حديث عن جابر بن عبد الله، يذكر فيه أن (المدثر) هي أول ما أنزل من القرآن: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الصمد حدثنا حرب حدثنا يحيى قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر، فقلت: أنبِئتُ أنه اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر، فقلت، أنبئتُ أنه اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله، قال رسول الله: “جاورت في حراء، فلما قضيت جواري، هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على كرسي بين السماء والأرض، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، وأنزل علي يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر”(20).
حيث عللها العسقلاني بقوله: “المراد بالأولية في قوله ” أول ما نزل سورة المدثر ” أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، أو مخصوصة بالأمر بالإنذار، لا أن المراد أنها أولية مطلقة، فكأن من قال: أول ما نزل اقرأ، أراد أولية مطلقة، ومن قال: إنها المدثر، أراد بقيد التصريح بالإرسال، قال الكرماني استخرج جابر ” أول ما نزل يا أيها المدثر ” باجتهاد وليس هو من روايته، والصحيح ما وقع في حديث عائشة، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الرواية ” فرأيت شيئا – أي جبريل – بحراء ، فقال لي : اقرأ فخفت ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني فنزلت يا أيها المدثر ” قلت : ويحتمل أن تكون الأولية في نزول يا أيها المدثر بقيد السبب، أي هي أول ما نزل من القرآن بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم(21).
وقال الطبرسي في تفسير سورة العلق: “وأكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول يوم نزل جبرائيل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو نائم على حراء، علمه خمس آيات من أول هذه السورة. وقيل أول ما نزل من القرآن قوله: (يا أيها المدثر) وقيل أول سورة نزلت على رسول الله فاتحة الكتاب(22). وبالتالي يتضح من هذه الخلاصة وهذا الإيجاز الشديد أن هناك أقوالا غاية في الغرابة، ولكنها اعتمدت مصدرا تشريعيا لبعض الفرق الإسلامية.
إن الخلاف في هذه الجزئية يمثل نموذجا للخلاف الذي استشرى بين المسلمين حول مباني العقيدة، والذي أسهم في خلق الكتل، التي صارت كل واحدة منها تسعى لتكون الكتلة الأكبر فيتسنى لها قيادة المجتمع حتى ولو قادته إلى النار! ولذا لا تستغربوا إذا ما كان السعي وراء تشكيل الكتلة الأكبر قد امتد إلى يومنا الحاضر طالما أنه يملك قوة الموروث.
هوامش
(1)ـ الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1/ص17، والسيوطي، الدر المنثور، ج1/ص6.
(2)ـ الواحدي، أسباب النزول…
(3)ـ السخاوي، جمال القراء وكمال الإقراء، ص53ـ54.
(4)ـ الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1/ص17.
(5)ـ السخاوي، جمال القراء وكمال الإقراء، ص52ـ53.
(6)ـ الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1/ص17ـ18.
(7)ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1/ص101.
(8)ـ الكرمي، مرعي بن يوسف بن أبي بكر، قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن، كتاب إلكتروني بدون ترقيم.
(9)ـ البخاري، صحيح البخاري، ص87، حديث: 349.
(10)ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج5/ص6ـ7.
(11)ـ ينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب، جواب: 143111.
(12)ـ العسقلاني، ابن حجر، (ت: 852هـ)، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، 1425هـ ـ 2004م. ج4/ص2247، ترجمة: 10011.
(13)ـ ينظر: السخاوي، جمال القراء، ص115.
(14)ـ السخاوي، المصدر نفسه، ص114ـ115.
(15)ـ البيهقي، دلائل النبوة، ج2/157ـ158، السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج1/ص19ـ20، والسيوطي، الخصائص الكبرى، ج2/ص119.
(16)ـ الرومي دراسات في علوم القرآن، ص253.
(17)ـ المزمل: 20.
(18)ـ الخداج: الناقص.
(19)ـ ينظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1/ص108ـ 109.
(20)ـ العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن سورة المدثر، باب قوله: وربك فكبر، ص545ـ546، حديث: 4640.
(21)ـ العسقلاني، المصدر نفسه، ص456.
(22)ـ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج10/ص306ـ307.