السيمر / السبت 22 . 09 . 2018
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
تكاد لا تغيب عن الذاكرة اليومية الفلسطينية اتفاقيةُ باريس الاقتصادية، التي تحكم العلاقة الاقتصادية والأنشطة التجارية وتنظم المقاصة المالية بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، فهي اتفاقيةٌ حاضرةٌ دائماً وناشطةٌ يومياً، وتنفذ بنودها وتفرض شروطها وتمضي الحركة الاقتصادية والمبادلات التجارية على أساسها، وهي الاتفاقية التي تتحكم في النظم المالية والمصرفية وتقيد استقلالية النقد الفلسطيني، وقد تم توقيعها في باريس في العام أبريل من العام 1994 بقصد تمتين العلاقة بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، رغم أن المنطق السليم لا يقبل هذه الاتفاقية التي تقوم بين طرفين مختلفين، الأول اقتصاده ضعيف جداً ولا يستطيع المنافسة، والثاني قوي جداً، وهو في طبيعته نهمٌ وجشعٌ وشرسٌ، ويقوم على أسس الرأسمالية المتوحشة التي تخلو من الرحمة وتفتقر إلى الإنسانية، فضلاً عن أنه احتلالٌ جاثمٌ، واستيطانٌ سرطانيٌ خبيثٌ.
اتفاقية باريس الاقتصادية ليس اقتصاديةً فقط، ولا تقوم على أسس ونظم السوق المتعارف عليها، رغم ما يبدو من بنودها المعلنة، التي تفترض التعاون الإيجابي والتنسيق المشترك، وتعزيز فرص الاستثمار وتنشيط التجارة البينية والخارجية وحل المشاكل الاقتصادية المستعصية، وتشكيل لجان عمل تخصصية من الطرفين بأعدادٍ متساوية وسلطاتٍ متوازنة، بل هي اتفاقية أمنية وسياسية واقتصادية في آنٍ، إذ يحركها القرارُ السياسي، ويضبط حركتها العاملُ الأمني، وتتحكم فيها العقوباتُ الاقتصادية، إذ لا يستطيع الفلسطينيون استيراد ما يشاؤون أو ما يحتاجون، كما لا يمكنهم فتح علاقاتٍ اقتصاديةٍ وتبادلاتٍ تجارية مع دولٍ وشركاتٍ تعترض عليها سلطات الاحتلال، التي تملك وحدها وحصراً بقوة الأمر الواقع حقَ منح المستوردين رخصة الاستيراد، حيث أنها تمنع الكثيرَ من التجار الفلسطينيين من ممارسة حقهم الطبيعي في التجارة الحرة، كما تملك مفاتيح البوابات التجارية ونقاط العبور البرية والبحرية، فتغلقها وتفتحها أمام التجار الفلسطينيين متى تشاء.
تطفو اتفاقية باريس الاقتصادية على السطح بصورةٍ لافتةٍ وقويةٍ، في ظل أجواء الحصار والعقوبات الاقتصادية، مع الحديث المتكرر لوزير المالية الإسرائيلية موشيه كحلون المتطرف ذي الأصول العربية الليبية، بتجميد حقوق السلطة الفلسطينية من أموال الضرائب والجمارك أو تأخير تحويلها، في حال تبين أن السلطة الفلسطينية تصرف بعضها لصالح عائلات وأسر ذوي الأسرى والشهداء الفلسطينيين، خاصة أولئك الذين تسببت عملياتهم في وقوع قتلى إسرائيليين، وتزداد تصريحات كحلون خطورةً وتأخذ أبعاداً جديةً في ظل السياسة الأمريكية الجديدة المتشددة والعقابية ضد الفلسطينيين عموماً، حيث تشجع الإدارة الأمريكية الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ تهديداتها، واستقطاع حصص الأسرى والمعتقلين والشهداء من الأصول المالية الفلسطينية، وتعتبر أن هذا الإجراء إجراءٌ عادلٌ وقانوني.
حجم عائدات السلطة الفلسطينية من الجمارك والضرائب المفروضة على التجارة الخارجية والبضائع الفلسطينية المستوردة، تكاد تتجاوز المائة مليون دولار شهرياً، وهي أموالٌ فلسطينيةٌ صرفة، لا فضلَ لأحدٍ غير الفلسطينيين فيها، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وبموجب اتفاقية باريس الاقتصادية المجحفة، تتحكم في هذه الحقوق الفلسطينية، فتصادرها أحياناً وتجمدها أحياناً، وتحتجز جزءاً منها وتفرض شروطها المذلة لتحريرها وإعادتها، وتقوم بناءً على تقارير من أجهزتها الأمنية وشكوكها أحياناً، بخصم مبالغ كبيرة من العوائد الضريبية الفلسطينية، علماً أنها تأخذ بدل تحصيل من أصل المبالغ المستوفاة، إذ أنها لا تقدم خدماتٍ مجانية للفلسطينيين، ولا تحصل حقوقهم إحساناً لهم وتفضلاً عليهم.
قليلٌ من الفلسطينيين من يعرف حقيقة اتفاقية باريس الاقتصادية، ويعتقد جاهلاً بحقيقتها وغير عالمٍ ببنودها، أنها لمساعدة الفلسطينيين وللتخفيف عنهم، وأنها لتسهيل عيشهم وتمكينهم من العمل والتجارة، ومنحهم فرصة التصدير والاستيراد، ويعتقدون أنها تمنحهم استقلالاً اقتصادياً وهوية وطنية فلسطينية اقتصادية ذات سيادة، لكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً، إنها سيفٌ مسلطٌ على رقاب الفلسطينيين، تصادر حقوقهم، وتستغل عوائدهم، وتعتدي على مداخيلهم، وتقيد حريتهم في العمل والتجارة الخارجية، وتمنعهم من صك العملة والاستقلالية النقدية، وتبقي لقمة العيش الشعبية الفلسطينية تحت رحمة الاحتلال، يتحكم فيها ويتسلط بها، ويستخدمها أداةً للابتزاز ووسيلة للضغط والإكراه، وللأسف فإن دولاً كثيرة ترعى هذه الاتفاقية وتصر على الالتزام بها وتنفيذ بنودها، رغم علمهم أنها تتجنى على الاقتصاد الفلسطيني الضعيف، وتعتدي على الحقوق الفلسطينية الفردية والعامة، وتنتهك كرامتهم وتمس سيادتهم.
يبدو أن التخلص من اتفاقية باريس الاقتصادية ليس بالأمر السهل أو القرار الهين، إذ أن هذه الاتفاقية مكملة لاتفاقية أوسلو ومرتبطة بها، وبالقدر الذي هي مذلة للشعب الفلسطيني فإن اتفاقية باريس مكبلة للاقتصاد الفلسطيني الضعيف، ولهذا فإن التخلص منها يتطلب أولاً الانقلاب على اتفاقية أوسلو والتحلل منها، وإلا فسنبقى تحت رحمة سياسة الاحتلال مهما نشط اقتصادنا الوطني وانتعش، وأياً كانت حجم المعونات والمساعدات الدولية لاقتصادنا الهش، لأنها ستبقى جميعها مشروطة بالرضى الإسرائيلي وخاضعة للشروط والموافقة الأمنية، ومحكومة بضوابط ومحددات الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يطلق شيئاً إلا إذا كان له من ورائه نفعٌ كبير، ولا يقيد شيئاً إلا إذا كان الفلسطينيون منه يستفيدون وبه ينتفعون.
التحلل من اتفاقية باريس الاقتصادية ليس مسؤولية فلسطينية فقط، بل هي مسؤولية عربية ودولية أيضاً، إذ أن الدول العربية مشاركة فيه وضامنة له، شأنها شأن العديد من دول أوروبا الغربية واليابان وكندا وغيرهم، التي أعلنت أنها سترعى الاقتصاد الفلسطيني وستشجعه وستمنحه الأفضلية والأولوية، وإلا فإنه إن ترك لعقلية الاحتلال الإسرائيلي وعنجهية الإدارة الأمريكية، فإنه سيتحول إلى أداة حصار ووسيلة ضغط، وسيصبح لعنةً ونقمةً أكثر مما هو نعمة ومنحة، والفلسطينيون دافعوا الضرائب والجمارك لن يقبلوا بحرمان أسراهم ولا بمعاقبة أسر شهدائهم، فهذه الأموال يؤدونها لهم عن رضى وطيب خاطر، لأنهم خيرة أبنائهم وتاج وقار شعبهم، خير من بذل وأعطى، وأشرف من ناضل وضحى، وبهم تسمو الأمة وترتفع هاماتها، وبالوفاء لهم تتزكى أموالها وتربوا ثرواتها، فلا نفرط بحقوقهم، ولا نخضع لعدوهم، ولا نتخلى خوفاً من العقاب والحصار عنهم.
بيروت في 22/9/2018