الرئيسية / مقالات / غيلان يا غيلان وانفعالات القراءة

غيلان يا غيلان وانفعالات القراءة

السيمر / الاثنين 24 . 09 . 2018

صالح الطائي

كنت بعد أن انتهيت من قراءة الجزء الأول من مراثي غيلان للأديب اللبيب والبغدادي الحبيب الدكتور سعد الصالحي قد شعرت بحالة غريبة، لم تمر علي من قبل، حالة كنت أشعر خلالها وكأني أريد أن أجهش بالبكاء، واصرخ منتحبا، واضحك بهستيريا مفرطة؛ في نفس الوقت واللحظة، فقراءة تلك المواضيع بموضوعها وطريقة صياغتها وأسلوب كتابتها ومفرداتها تنقلك حتما من دنيا الواقع إلى دنيا خيال مفرط بالحساسية، يثير رغبات ذكرياتك لتتحفز شبقا لرؤية وقراءة المزيد، وحينما تنهي قراءتها ستشعر يقينا وكأنك انجزت عملا لا تريد له أن ينتهي، وتتمنى ان يتجدد تلقائيا ويستمر إلى آخر اللحظات.
مر على هذه الحالة بضعة سنين، تخلصت خلالها من مغبة حمل هموم غيلان ووجع مراثيه التي تقلق القلب والعقل، كنت خلالها أشعر بالراحة من إلقاء ذلك الحمل الثقيل عن كاهلي، لكن مع رغبة جامحة في أن تجدد المراثي بنغمة أخرى، ومواضيع أخرى، وذكريات أخرى، إلى أن سمعت خبر إصابة الدكتور سعد بسرطان الحنجرة، فشعرت وكأن غيلان يصرخ في تلافيف عقلي باستمرار ووحشة، لا يريد أن يتخلى عن إيذائي، لأبكي وابكي دون انقطاع.. لحظتها كنت أتمنى لو عشت لحظات الحالة الأولى؛ التي كان يختلط فيها الضحك مع البكاء، ولكن الضحكة اللعينة أبت أن تتسلل إلى شفتي اللتين كان النشيج يدخلهما في حالة رجفة غجرية وكأنهما ترقصان على أنغام وجعي وتألمي وخوفي من فقدان هذا الصديق الرائع.
وبعد رحلة علاج وانتظار طويل، وبما معروف عن الدكتور سعد من صلابة وفروسية وتحد وعناد، نجح في هزيمة المرض وهزيمة حزننا، وتحرر من رهبة اسمه، وحررنا من خوفنا، فعاد ليعزف أوجاع المراثي على أنغام حزننا وفرحنا ودهشتنا. خلال هذه المدة كنت بين حين وآخر أطلع على واحدة منها، تزيدني لهفة وشوقا إلى ما سواها، إلى أن استلمت منه مسودة الجزء الثاني؛ التي ما إن رأيتها حتى هجمت عليها وكأنها أكلة لذيذة، وُضعتْ أمام جائع، لم يأكل منذ عصر نوح، تركت كل ما في يدي حتى المستعجل منه، وانهمرت عليها كرذاذ مطر ربيعي تشعر به ولا تلمسه، كانت صفحاتها تتهاوى أمام نهمي أسرع مما أرغب، ومع كل صفحة أطويها كنت استعيد تلك الحالة الفريدة، حالة التحرر من سنن الطبيعة، وثقل الأجساد، حيث أثيرية الروح، وحيث يصبح الضحك والبكاء سوية أمرا لا يستهجنه أحد.
أتممت القراءة، وعدت ثانية وثالثة لأنهش تلك الصفحات العارية الممددة أمام اشتهائي، وكأن غيلان تلبسني من جديد، وكلي أماني في أن لا ينتهي نث المراثي إلى الأبد.
حينها وبكل أنانية التاريخ، تمنيت لو كان الأمر بيدي، لأمنع الماء والشراب عن الدكتور سعد وأمنع تقديم وجبات الطعام له، إلا بعد أن يكتب مرثية جديدة مقابل كل وجبة طعام تقدم له، وهذه هي الأنانية بعينها، والأنانية أصلها من أنا وهي حينما تختص بعلاقة مع مراثي غيلان تكون احلى ما في الدنا.

اترك تعليقاً