السيمر / السبت 27 . 10 . 2018
صالح الطائي
لا أدري ما بال حضارة بلاد (ما بين القهرين)، وما علاقتها بالحزن السرمدي؟ هذا الحزن الذي رسم ملامحه على ملامح أهلها فلا يعرفون إلا به، حتى أن أغانيهم لا تكون جميلة إذا ما خامرها الحزن.
لا أدري فيما إذا كانت قد اختارت الحزن بنفسها وفضلته، أم أنه مكتوب عليها، أم أنها صنعته بنفسها ورفضت أن تتنازل عما أبدعت!.
لكن كل الذي أعرفه أنها بدأت أولى خطوات سيرورتها يوم قام أبنها قابيل بذبح أخيه هابيل بلا سبب!
وثاني خطوات سيرورتها بنشيج بكاء كلكامش الباحث عن الخلود على صديقه أنكيدوا..
وبعد ستين عاما من بدء الهجرة، خضبت دموعها المليئة بالحزن تراب كربلاء توجعا على شهيدها الحسين؛ الذي قتلته بنفسها، ومثلت بجثته..
وبعد ستمائة عام باعت بكارتها لمن جاءت بهم ليخدموها من المماليك، فأولدوها هجنة من الحزن والكآبة.
وصرخت تأوها حينما افتضها هولاكو وجنوده وخلعوا ملابسها عنها وسرقوا أسورتها؛ دون أن تجد من يواسيها ولو بكلمة طيبة..
وندبت حظها يوم رفعت الفالة رأسها يساندها المكوار للتصدى للطوب والدانة، ففقدت الكثير من كرامتها دون أن تربح شيئا ..
وشعرت بالمهانة وهي تسمع هتاف ماكو مؤامرة تصير والحبال ممدودة.
وشنفت آذانها لتسمع أنين صدورنا المنبعث من وراء أبواب السجن الانفرادي المؤصدة بإحكام شديد على أجسادنا التي تهرأت من شدة التعذيب، يوم تسلط الطغاة وأحزابهم وكلابهم على مصائرنا ..
وتحولت أعراسها إلى مآتم حينما كان فتاها قد بث عيونه يترصدون العرائس الجميلات ليصادروهن من أزواجهن فيقضي معهن الليلة الأولى، ويعيدهن إليهم سالمات إلا من شرف مثلوم.
وودعت قوافل القتلى في مهازل التاريخ الحديث على أعتاب البوابة الشرقية التي سرقها المحتلون من قبل، ولم يبق منها سوى اسمها؛ مرة، وفي صحراء الكويت والنزق البدوي الذي لا يحترم عهدا ولا وعد ولا إخوة ولا صداقة؛ مرة، وفي حلبجة الطفولة المذبوحة بأمر كيمياوي؛ مرة، وعلى جبال جمجوقه والماعز الذي ذبح من أجل التمتع بتناول قلبه؛ مرة..
وبنى طغاتها قصورا بلا معنى وهم يرون شعبهم يتضور جوعا بسبب الحصار حتى أن العراقية كانت جاهزة لتبيع ما بقي لها من وشل شرفها من أجل أن تطعم صغارها الغرثى.
ووجدت نفسها عارية حتى من ورقة توت في زمن الديمقراطية وصناديق الاقتراع، ومع ذلك تجد أبناءها منشغلون بخطوطهم الحمر التي يقدسونها جهلا ونفاقا.
ووصلتَ إلى درجة أنك تذبح أو تستقبلُ برأسك طلقة مسدس كاتم، أو يستخرج قلبك ويلاك أمام الكاميرات، إذا بحت بكلمة صدق خارج سياق المألوف، ولن تتمكن من معرفة من قتلك ومن صادر حياتك.
فهل تعرفون بعد هذا ما الوجع المرتسم على محيا أبنائها حتى في أفراحهم؟
الوجع أن تتألم بشدة من دون أن تعرف السبب، لتكتشف بعد حين أن كيانك كله قد أنشئ من مخلفات وجع السنين، منذ الخطوة الأولى لأسلافك على هذه الأرض، ولحين إدراكك الحقيقة، حقيقة أن حقك كان ولا زال وسيبقى مصادرا إلى الأبد، ومعه أمنك وسلامتك وكرامتك ورزقك وشرفك ووطنيتك وإنسانيتك، وليس بمقدورك ان تستعيده،
وإذا استعدته،
ليس بمقدورك أن تدافع عنه!.
لأنك أدمنت الهزيمة وعاقرت الوجع.
فلماذا تعتب علي لأني قلت:
صحيح إنّي
لا أجيدُ العزفَ علی جرحي،
لکنّي سيّدٌ بالنواح
من کثرة الدموع
من مصائد الجراح؛
لأنّني مسکون بالآهات،
وحزني غدرانٌ بل أنهار
تقتفي الرياح