السيمر / الأربعاء 12 . 12 . 2018
ا. د. ميثم الجنابي
ميثم الجنابيتصبح المشاكل معضلات حالما تتعثر وتتعقد وتتراكم في دهاليز مغلقة. والفرق بينهما يقوم في أن المشكلة قابلة للحل عبر حلول واقعية وعقلانية، بينما المعضلة عادة ما تعيد إنتاج نفسها بسبب انغلاق مكوناتها.
فقد كانت “القضية العراقية” في طي الغيب عندما جرت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين، وتحولت إلى مشكلة بعد انتهاء الحرب في التسعينيات منه، ثم أصبحت معضلة بعد غزو الكويت. وهي حلقات تكشف عن أنها لم تكن معزولة عن انغلاق النظام السياسي العراقي وأزمته البنيوية الشاملة من جهة، وعن التخطيط الاستراتيجي للسياسة الأمريكية القائمة على مبدأ “التحكم بالأزمة” من جهة أخرى.
وتتمثل السياسة الأمريكية منذ انتصار “الثورة الإسلامية” ولحد الآن، نفس عناصرها المكونة في التحضير لغزو العراق، بمعنى الاعتماد على أفكار ثلاثة متغيرة الأشكال. ففي الحالة العراقية كانت ثلاثية “النظام الدكتاتوري” و”دعم الإرهاب” (القاعدة) و”أسلحة الدمار الشامل”، وفي الحالة الإيرانية ثلاثية “محور الشر” و”دعم الإرهاب” (حزب الله) و”المشروع النووي”. كما أنها تجري في نفس المنطقة (الخليج) وتحت غطاء واحد هو “الدفاع عن الخليج” من “الخطر العراقي” سابقا، ومن “الخطر الإيراني” الآن.
وهي حلقات لا يمكنها الانتهاء، حتى في حال أسوء التوقعات القائمة في الحرب على إيران، بالوقوف عند هذا الحد. فكما أن العراق لم يكن سوى بداية تنفيذ “الحلم الأمريكي” القديم في السيطرة التامة على الخليج، فان إيران ليست نهايته! بعبارة أخرى، إن السياسة الأمريكية لا تنتهي عند حدود إيران. والقضية هنا ليست فقط في من هو “القادم”، بل وبطابعها المخرب بالنسبة لبنية التراكم الذاتي للمنطقة وقدرتها الذاتية على إدارة شئونها الذاتية بنفسها. وهي حالة تستعيد على مستوى تكنولوجي رفيع وثقافة تلازمها نفسية وذهنية القرن السابع عشر – العشرين الاستعمارية تجاه منطقة الخليج.
لكن إذا كان النجاح المبتور لهذه السياسة الأمريكية في العراق مرتبطا أيضا بصعود “النجم الأمريكي” و”القطب الواحد” و”الدعم المعنوي” الهائل الذي حصلت عليه الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، فان مساعي تحويل “القضية الإيرانية” إلى مشكلة ومنها إلى معضلة تجعل من الممكن حسمها بالطريقة الأفغانية والعراقية، لم تعد سهلة، بل ومستحيلة. ومن الممكن رؤية ملامح هذه الحالة في تشدد الدعاية الأمريكية وسياستها المعلنة تجاه إيران وضعف الأرضية الواقعية لتكرار السيناريو العراقي.
إننا نقف أمام حالة حرجة لم تحسم فيها بعد “مهمة” تحويل “القضية الإيرانية” إلى معضلة لا مفر أمامها من “الحسم النهائي”. والسبب يكمن أساسا في تفاعل ستة عوامل كبرى وهي:
1- إن النظام السياسي الإيراني لا يعاني من أزمة بنيوية. كما انه يتمتع بقوة الترابط الفعال بين فكرة الدولة والقومية والوحدة الثقافية للشعوب الإيرانية.
2- البناء المنظومي للدولة والمجتمع والقومية والثقافة بما يتوافق مع مرجعيات ذاتية عميقة.
3- الاهتمام الاستراتيجي للتطوير والاكتفاء الذاتي استنادا الى تأسيس وتوطين وتوسيع وتنفيذ الانجازات العلمية والتكنولوجية.
4- إن الدولة الإيرانية ونظامها السياسي الجديد (الحكومة الإسلامية) لم تقترف أخطاء إستراتيجية في المنطقة.
5- مساعي إيران المتجانسة للدفاع عن مصالحها القومية عبر بناء تحالفات إقليمية ودولية في المنطقة خارج هيمنة الولايات المتحدة والغرب عموما.
6- تغير الحالة الدولية عما كان عليه الحال قبل غزو العراق. فقد كان غزو العراق مرتبطا ببداية “القطب الواحد” بينما تأجيج “القضية الإيرانية” يجري في تفسخ وانهيار حالة “القطب الواحد”.
إن النظام السياسي الإيراني يتمتع بقدر كبير من القدرة الذاتية على تمثل الكلّ الإيراني بمختلف مكوناته وتنوعاته. بمعنى انه يمتلك من الكفاءة المرنة والمحكومة بتقاليد التراث القومي والثقافي الإسلامي ما يعينه ويكفيه على تذليل شدة الصراعات القومية والعرقية. من هنا قلة الفتن الداخلية.
بعبارة أخرى، إن النظام الإيراني الإسلامي الحالي يتمتع بقدرة نسبية جيدة على التحكم بالاختلافات الداخلية، ويحّيد إمكانية استعمالها الخارجي، على عكس ما كان عليه الأمر في العراق قبل الغزو الأمريكي. وهي إمكانية ليست معزولة عن طبيعة الأيديولوجية الإسلامية المتسامية (الأممية) والتوّحد المذهبي. وكلاهما يمتلكان، إلى جانب تاريخ مديد من وحدة الدولة والقومية، على قدرة كبيرة في مواجهة “الأخطار الخارجية” و”الأعداء”. والشيئ نفسه يمكن قوله عما اسميته بتجنب الدولة اقتراف أخطاء إستراتيجية كبرى على الصعيد الداخلي والخارجي. فإذا كان النظام الصدامي قد حول نتائج الحرب العراقية – الإيرانية صوب الكويت وتأزيم أوضاع منطقة الخليج والعالم العربي ككل وشق صفوفه بصورة لا مثيل لها، فان السياسة الإيرانية توجهت صوب توحيد الكلّ الإيراني وإعادة بناء الدولة وقوتها العسكرية والاقتصادية. وهو بناء يتسم بقدر من الرؤية المرنة للعقائدية الصارمة والواقعية السياسية. من هنا تمسكها بقيمها ومبادئها الخاصة، والعمل على إيجاد منافذ لها من محاولات غلق الحدود عليها. وتحملت إيران في مجرى أربعة عقود من الزمن (1980 – 2018) من هذه الحالة الصعبة. لكنها استطاعت في نهاية المطاف من البقاء خارج أهداف النزاع العسكري مع الولايات المتحدة، رغم اندراجها، على عكس العراق آنذاك، ضمن “محور الشر” العالمي. ولم يكن ذلك معزولا عن قوة إيران الذاتية وتماسكها الداخلي، وعن مرونتها الواقعية ودبلوماسيتها الطويلة النفس.
لقد استطاعت إيران تجاوز “العقد القاسي” لمرحلة “القطب الواحد”. وعملت في مجراه على تنظيم سياستها الإقليمية بالشكل الذي يجعلها أقرب إلى روسيا والصين، بوصفها القوى المحتملة والقابلة والمستعدة لإيقاف المد الأمريكي على المدى البعيد. بينما كشفت الأحداث التي رافقت تدمير القوات الجورجية في مجرى الحرب الروسية – الجورجية الأخيرة (2008) عن تسارع وبروز الدعوة العلنية والسياسية الصارمة عما يسمى بضرورة إنهاء عالم “القطب الواحد” وظهور عالم “متعدد الأقطاب”. وبهذا تكون إيران قد حصلت على منافذ جديدة وتأييد سياسي وعسكري محتمل وقوي في الدفاع عن مصالحها الوطنية والإقليمية.
لقد خرجت إيران من نفق المرحلة القاسية للعقد الأخير من مرحلة “القطب الواحد”، أي مع بداية القرن الحادي والعشرين، دون أن يعني ذلك خروجها من حالة “القضية الإيرانية”. إلا أن الأثر الجلي لكل ذلك يقوم في صعوبة تحويل “القضية الإيرانية” إلى معضلة، رغم بقاء حالة المشكلة الإقليمية الحرجة. وفي هذا يكمن احد الأسباب الكبرى لما يسمى “بالخطر الإيراني”. إذ “للخطر الإيراني” بعيدين، الأول ويقوم بذاته، كما هو الحال بالنسبة لكل دولة ذات مصالح إقليمية لم تترتب بعد في منظومة معقولة ومقبولة لأطرافها جميعا، وبعد خارجي (إقليمي وعالمي).
فقد كان البعد الذاتي “للقضية الإيرانية” وما يزال محكوما بهاجس الأمن الذاتي المستقل. وبالتالي ليس “الخطر الإيراني” في الواقع سوى الصيغة المقلوبة للتوتر الإيراني الداخلي، بوصفه جزء من صيرورة تاريخية حديثة لتكامل الدولة والأمة والجغرافيا السياسية.
أما البعد الخارجي، فانه يحفز ويثير حلقات الخلخلة الإقليمية والعالمية. فعلى النطاق الإقليمي هي حلقات لا تخلو من توترات (إيرانية – عربية، وإيرانية – تركية، وإيرانية – أذربيجانية، وإيرانية – أفغانية) أما على النطاق العالمي فهي حلقات الصراع التالية (الإيراني- الأمريكي، والإيراني – الإسرائيلي، والإيراني – الأوربي). وكلاهما مترابطان، إلا أن الخطر الأكبر يكمن في الجزء الأول منه (الإقليمي). وبالتالي، فان ما يسمى “بالخطر الإيراني” ليس إلا الصيغة المقلوبة والفجة لطبيعة الخلل العام في البنية الإقليمية للمنطقة.
وفيما يخص العالم العربي بشكل عام والخليج بشكل خاص، فان المسار الإيراني صوبهما هو جزء من رؤيتها الإستراتيجية. فالعالم العربي يبقى في نهاية المطاف، إضافة إلى العالم الإيراني، الامتداد الأوسع لتنفسها الاقتصادي والثقافي والروحي. وفي هذا تكمن المحددات العميقة لسياستها تجاه العالم العربي. من هنا تدخلها المتنوع، شأن جميع الدول، في الحياة السياسية للعراق وسوريا ولبنان والخليج واليمن. وفي تدخلها تجعل العالم العربي مكونا من مكونات حياتها السياسية الداخلية. وبالتالي لا معنى للحديث عما يسمى بخطر “الهلال الشيعي” الذي ترعاه إيران. فالسياسة الإقليمية لإيران محكومة برؤية إستراتيجية، لا تخلو من المذهبية، لكنه ليس عاملا حاسما. وذلك لان المذهبية في النظام السياسي الإيراني الحالي جزء من أيديولوجية الدولة القومية. ذلك يعني انه يؤدي وظيفة عملية خاضعة وليست محددة وأساسية. وهو أمر جلي حالما ننظر إلى طبيعة ومستوى علاقتها بالدول المجاورة مثل الصين وروسيا وتركيا.
أما البعد الخارجي “للقضية الإيرانية” على المستوى العالمي، فانه محكوم لحد الآن بالموقف الأمريكي والإسرائيلي، وإثارتهما الدائمة لفكرة “الخطر الإيراني”. وهي إثارة محكومة، كما كان الحال بالنسبة للعراق ومنطقة الخليج عموما، بمبدأ الأزمة الخاضعة للرقابة! وهو مبدأ يتمثل إستراتيجية التحكم الدائم بالمنطقة من خلال إثارة عقدة الأمن فيها والخوف من “الإخطار الخارجية”. بمعنى إثارة المشكلة والتحكم الدائم بها من اجل الاستحكام بالجميع والعمل حسب قاعدة “تنظيم” المشاكل وتفعيلها وقت الضرورة. وهي نفسية وذهنية إسرائيلية بحتة. وليس مصادفة أن تتطابق المواقف الأمريكية والإسرائيلية بنسبة 100% بهذا الصدد.
فقد عملت، ما قبل واثناء سريان قواعد “الاتفاق النووي” وبعده (كما نراه في خروج الولايات المتحدة من هذا الاتفاق)، ما يسمى بمراكز الدراسات الإستراتيجية – (الأمريكية – اليهودية) بصورة دائمة على إثارة قضية “الخطر الإيراني” من خلال الدراسات والأبحاث والمؤتمرات المخصصة لقضايا القدرات العسكرية الإيرانية، والقنبلة النووية الإيرانية، والحرس الثوري، وتصدير الثورة، والعمليات السرية، والهلال الشيعي، ومستلزمات الردع، أي المطالبة بحليف قوي (أمريكي) وما شابه ذلك. ليس ذلك فحسب، بل وبلغ الأمر مرة أن جرى النقاش الحامي “العلمي” والسياسي حول القصة – الخرافة التي أطلقها برنارد لويس وهو في عمر يناهز التسعين عاما عندما كتب يقول، بان إيران سوف تشن هجوما يوم 27 رجب عام 1427 كما لو أنها تستوحي ذلك من يوم الإسراء والمعراج في تحديها لغير المسلمين!
إن الإثارة الدعائية عن “الخطر الإيراني” بالصيغة التي تتناولها الدعاية الأمريكية والإعلام الغربي هو أولا وقبل كل شيء جزء من معترك مصالحها الدولية في منطقة الخليج والمشرق العربي. وهي مصالح تعتقد، بان القضاء على العراق وإيران أو تحييدهما سيجعل من المنطقة صحراء قاحلة من التحدي لمشاريعها الساعية للهيمنة على المنطقة. غير أن التجربة العراقية كشفت عن هشاشة هذه الفكرة. مع أن الأمور تجري في بدايتها. بينما “القضية الإيرانية” اشد تعقيد بما لا يقاس. وليست الدعوات المتكررة واستعراض مختلف سيناريوهات الحرب الأمريكية والإسرائيلية على إيران سوى جزء من مخطط الإثارة الدائمة للازمات والتحكم بها من اجل استغلالها وقت الضرورة. لكنها إثارة واقعية وتحتوي أيضا على كوامن فعلية قادرة على الاشتباك. إذ توجد في الخليج بصورة شبه دائمة قوات عسكرية كبيرة أجنبية بشكل عام وأمريكية بشكل خاص. كما تضرب القوات الأمريكية بين فترة وأخرى “طالبان” في باكستان بوصفها رسائل غير مباشرة لإيران. وبالمقابل تقوم إيران بسلسلة من الإجراءات العسكرية للبرهنة على نمو قدرتها الدفاعية واستعدادها لمواجهة أي “خطر خارجي” مهما كان مستواه ومصدره.
إن المواجهة الحادة والعنيفة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى، يكشف عن طبيعة البعد الخارجي (الدولي) لقصية الأمن الإيرانية. وهي قضية لها مقدماتها وشواهدها العملية في العراق. ومن تكامل هذين البعدين لقضية الأمن الإيرانية ينبغي النظر إلى ما يسمى “بالخطر الإيراني”. وقد يكون الموقف مما يسمى بالمشروع النووي الإيراني احد مظاهره الصارخة.
مما سبق نستطيع القول، بان إيران تقف أمام تهديد متنوع المستويات، داخلي وخارجي بحيث حدد لدرجة كبيرة رؤيتها للأمن. بل يمكننا القول، بان سلوك الدولة الإيرانية الحالية محكوم بفكرة الأمن. لكنه سلوك متنوع ويتسم بالمرونة أيضا. وقد يكون موقفها من المشروع النووي احد النماذج الحية. أنها استطاعت أن تتلافى المصير الذي تعرض له المشروع العراقي وقبله المصري. فقد بدأت مصر مع الهند تجربتها بهذا الصدد قبل خمسين عاما. وتمتلك الهند الآن عشرات الرؤوس النووية، وقدرة على إنتاج وتركيب محطة نووية بمفردها دون الاعتماد على مساعدات خارجية. أما مصر فلا شيء! كما أنه ليس مصادفة أن يكون “خطر المشروع النووي” الإيراني أكثر من يتحسس منه إسرائيل، التي تمتلك رؤؤسا نووية عديدة.
ومهما تكن النوايا والرؤية السياسية المختلفة بهذا الصدد، فان جوهر الحال يقوم في أن إيران استطاعت لحالها مواجهة الأخطار التي تواجهها الداخلية منها والخارجية، أو على الأقل أنها تتميز بنموذج يتسم بقدر كبير من الجدية والمواظبة في الدفاع عن مصالحها القومية. إضافة إلى قدرتها الخاصة بالدفاع الذاتي عن مصالحها. وهو الدرس الذي لم يتعلمه العالم العربي بعد، ولم يستطع لحد الآن الإجابة عليه بالشكل الذي يجعله قادرا أيضا على تذليل أوهام “الخطر الإيراني”.
إن السياسة الإقليمية الإيرانية لها محدداتها الداخلية والخارجية. بمعنى أن إيران تدرك ثقلها الإقليمي، وبالقدر ذاته تسعى لجعله أمرا مقرورا به دون الوقوع في حالة الخضوع للقوى الخارجية. وهو سلوك محكوم بطبيعة التحول الأيديولوجي للنظام السياسي بعد “الثورة الإسلامية”، وتغير معالم رؤيته للأمن بشكل عام والقومي بشكل خاص. وهو الشيء الذي يمكن رؤيته على سبيل المثال في آخر المواقف الإيرانية من دورها الإقليمي في مجرى ردها غير المباشر على المشروع التركي (المدعوم من جانب الولايات المتحدة زمن بوش) فيما يسمى بمشروع الحلف القوقازي من اجل السلام في المنطقة. وهو مشروع لم يذكر إيران بوصفها احد مكوناته. بينما قدمت إيران رؤيتها الخاصة بهذا الصدد من خلال مشروع ما يسمى 3+3 (بلدان جنوب القوقاز الثلاثة جورجيا – أرمينيا – أذربيجان + روسيا – تركيا – إيران). بمعنى دعوتها للأمن من خلال تفعيل العلاقات الإقليمية. وإذا كانت الولايات المتحدة آنذاك تقف بالضد من هذا المشروع، فان الموقف الروسي لم يجر حسمه بصورة نهائية آنذاك (بينما اتخذ بعد دخول المعركة السورية بعدا استراتيجيا في تمتين العلاقة بإيران) الامر الذي يشير الى صواب الرؤية الايرانية وحدسها المستقبلي ايضا. آنذاك كان لكل من الموقف والامريكي والروسي أسبابه الخاصة. وفيما يتعلق بالموقف والرؤية الإيرانية فإنها كانت وما تزال لحد الآن محكومة بالبحث عن نسبة في الأمن والمصالح الإقليمية تستجيب لمصالحها القومية. وهي مصالح أخذت تترسخ أكثر فأكثر في الفترة الأخيرة، وبالأخص بعد الحرب الروسية الجورجية الأخيرة، صوب المحور الروسي الصيني الآسيوي. وهو توجه تشجعه روسيا وتدعمه من الناحية السياسية والدبلوماسية والعسكرية أيضا. ومع انه لم يتحول إلى مشروع حلف مباشر، لكنه اخذ يمتلئ ببعض مكوناته. وهي مكونات قابلة للتوسع والتنظيم في حالة ازدياد الحصار الأطلسي لإيران. وبغض النظر عن وجود موقفين روسيين متناقضتين بهذا الصدد، الأول يقول بان الاتفاق مع إيران خراب لروسيا، والثاني يعتقد بان ذلك سيغير الخارطة الجيو – سياسية في العالم (أو على الأقل في المنطقة).
غير أن القيمة الكبرى والأثر الفعلي لآلية وآفاق السياسية الإقليمية لإيران تبقى مرتبطة ومرهونة بالعالم العربي بشكل عام وبالعراق وسوريا ودول الخليج العربية بشكل خاص، أي بمنطقة الهلال الخصيب والجزيرة. وهو ارتباط محكوم بالتاريخ والجغرافيا والثقافة. فإذا كان التاريخ القديم جزء من معترك الإمبراطوريات والوحدة الثقافية، وبالأخص في مرحلة الخلافة، فان التاريخ الحديث والمعاصر محكوم بصعود الفكرة القومية ومصالح الدولة. وهي مكونات غير متناقضة في حال وضعها ضمن سياقها السليم. لكن التجربة التاريخية للأمم الحديثة جميعا تبرهن على أن بلوغ الحد الضروري لأدراك القواسم المشتركة يفترض المرور بدروب الآلام القومية ومعترك تكاملها الذاتي. ومن ثم لا يمكن بلوغ الوفاق القومي التام بين الدول قبل أن يبلغ أيا منها وفاقها الفعلي مع النفس على مستوى الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. حينذاك فقط يمكن أن تتراكم وتنتظم قواعد الحالة المثلى للمصالح المتبادلة. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى كمية ونوعية الاختلافات والأزمات الإقليمية بين إيران والعراق ودول الخليج العربية. وهو السبب الذي يفسر تأزم العلاقة أو عدم بلوغها حالة الإدراك العملي للحد الضروري للمصالح المتبادلة، ومن ثم ترتيبها حسب منظومة لها قواعدها الملزمة للجميع. من هنا بقاء المشاكل العالقة كما هي بغض النظر عن اختلاف النظم السياسية. فقد بقيت العلاقة تتسم بالتوتر والخلاف بين العراق وإيران بغض النظر عن اختلاف النظم السياسية الملكية والشاهنشاهية والجمهورية الدنيوية(العلمانية) والدينية (الإسلامية). غير ان الامر اختلف بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. والشيء نفسه يمكن قوله عن الخلاف مع دولة الإمارات المتحدة حول الجزر الثلاث (أبو موسى، وطنب الكبرى والصغرى). ذلك يعني أن قضايا الخلاف لا ترتبط بوجود صفات لا تتغير عند الطرفين أيا كان شكل الاتهام، بقدر ما انه يشير إلى ضعف تكامل الدولة والقومية بمعايير المعاصرة والحداثة. وهي حالة يمكن العثور عليها في اغلب تجارب الأمم الحديثة، أي أنها لا تخلو من لمحات ومراحل درامية وقاسية، كما كان الحال على سبيل المثال في مجرى الحرب العراقية – الإيرانية وصداها الصدأ لحد الآن في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والخطاب الدعائي الصرف.
ذلك يعني أن طبيعة الصراع الإقليمي بين إيران والدول العربية مازال محكوما بعدم تكامل الدولة والقومية عند الجميع. مع ما يترتب عليه من إدراك الحدود الذاتية لكل منهما. وعموما يمكننا القول، بان العالم العربي وإيران لم يرتقيا بعد إلى مصاف البحث عن بدائل في التطور تتجاوز حدود وقيمة “جغرافيا الدولة” إلى عالم التنمية البشرية المشتركة والعلم والتكنولوجيا. فالعراق هو زمن مبعثر ونظم سياسية متخلفة وانعدام مرجعيات. بينما دول الخليج العربية هي زمن متراكم ونظم سياسية مستقرة نسبيا ومرجعيات جزئية (محلية). أما إيران الحالية فهي تاريخ متراكم بمعايير فكرة الدولة والقومية. ذلك يعني إننا نقف أمام اختلاف وتباين في المكونات الجوهرية للدولة والأمة في مثلث العراق – إيران – دول الخليج، الذي جعل من الممكن تحويل الخليج من بحيرة مغلقة إلى بحر هائج أمام التدخل الأجنبي. وبالتالي جعله قابل لأن يكون مادة لتجريب مختلف نماذج “الفوضى الخلاقة” بوصفها الصيغة الأيديولوجية “لإدارة المشاكل الدائمة”. وليس مصادفة على سبيل المثال أن تتكلم الولايات المتحدة (حتى زمن بوش) مع كوريا الشمالية وترفض الحديث مع إيران. وهو الشيء الذي نراه لحد الان في زمن ترامب. طبعا أن لهذه الصدود مقدماتها وأسبابها الخاصة، إلا أنها تعكس أولا وقبل كل شيء استمرار وبقايا الرؤية الكولونيالية (البريطانية) في السياسة الأمريكية، بوصفها مرحلة مكملة لنفسية وذهنية الهيمنة على المنطقة وثرواتها (النفط بالأخص). من هنا فاعلية “الأزمة الدائمة” والتحكم بها، بحيث تصبح مكونات ومقدرات المنطقة أشبه ما تكون بكبش فداء يمكن تقديمه عند الضرورة!
إن التحرر من حالة “كبش الفداء” يفترض بلوغ وتجسيد البدائل العقلانية المتعلقة بادراك واقع وآفاق المصالح العامة والخاصة للدولة في العراق وسوريا والخليج. وهي بدائل يصعب تجسيدها ما لم يجر تحرير المنطقة من منطق العداء والاختلاف اللاعقلاني، بوصفه الصانع المحنك لمختلف عقد الخوف والاتهام وما شابه ذلك من غريزة الجسد المنهك! وهي عقد عادة ما يجري توظيفها في صراع “القوى الكبرى” في منطقة الخليج لما لها من أهمية عالمية.
وفيما لو جرى إنزال هذه العبارة إلى الميدان السياسي، فان ذلك يفترض إعادة النظر النقدية المشتركة بالتجربة التاريخية للمنطقة ككل، وبالأخص في مجال الرؤية والممارسة السياسية. وذلك لأن تاريخ الخلاف والعداء الطويل نسبيا بين إيران والعالم العربي لا يمكن تذليله بسرعة. بل لا يمكن تذليله ما لم تتكامل الدولة والنظام السياسي والمجتمع عند الأطراف جميعا بمعايير الثقافة العقلانية.
فالخلافات ما زالت قوية وعميقة في بعض جوانبها. وهي عموما خلافات لا تخلو من غياب لأبسط مقومات المصلحة القومية والإقليمية المشتركة. وقد يكون الخطاب العربي الدعائي الذي يجد في إيران “العدو رقم واحد” عوضا عن البحث فيها والعمل من اجل أن تكون “الصديق رقم واحد” احد أمثلته النموذجية. وفيه تنعكس ملامح الانحراف الفعلي لانعدام الرؤية الإستراتيجية وكمية ونوعية المغالطات السياسية. لكن ذلك لا ينفي في الوقت نفسه محاولات كسر الجمود والفتور والريبة المتبادلة عبر استعمال مختلف السبل والوسائل والطرق من جانب الطرفين. ومن المكن رؤية ملامح هذه المحاولات من خلال تعمق وتوسع التبادل التجاري، وتوسع وازدياد التبادل السياسي والزيارات الرسمية بينهما وما شابه ذلك. وهي خطوات ضرورية على خلفية الصراع الدامي في مجرى العقود الخمسة الأخيرة، وبالأخص بعد انتصار “الثورة الإسلامية” وما تبعها من تغير في طبيعة النظام السياسي الإيراني والأحداث المريرة مثل الحرب الدامية مع العراق، وغزو الكويت، ثم الحرب الأمريكية على العراق (عاصفة الصحراء) ثم الاحتلال الأمريكي للعراق، والأزمة المستمرة حول المشروع النووي الإيراني، والعلاقة بسوريا ولبنان وفلسطين، أي كل تلك القضايا المثيرة للاختلاف والوفاق أيضا. ومن مجموعها تتراكم، رغم طابعها الدرامي، نمو الهموم المشتركة، ومن ثم المصالح المشتركة. والاهم من ذلك إدراك الحقيقة القائلة، بأن المصالح القومية وحدودها الإقليمية والعالمية لإيران والعراق وسوريا ودول الخليج العربية لا تحلها القوة. لاسيما وان الخليج مصلحة عالمية.
ومن اجل أن يرتقي إدراك قيمة الخليج العالمية، فإن ذلك يفترض الارتقاء بالرؤية الإقليمية إلى مصاف العالمية. وهذا بدوره يفترض جملة أمور لعل أهمها الآن هي:
– الانطلاق من أن الخليج (بالمعنى الواسع للكلمة الذي يدخل فيه الشام كامتداد طبيعي وقومي) ذا قيمة عالمية، مما يحتاج بدوره إلى رؤية “عالمية” عنه مبنية على أسس إستراتيجية.
– إن الأمن الإقليمي للخليج وحدة واحدة لا تتجزأ. وهي مهمة دول المنطقة أولا وقبل كل شيء.
– تنقية الأجواء الداخلية من خلال بناء منظومة الأمن الإقليمي الخليجي من خلال بناء النفس استنادا إلى إمكانياتها وقواها الخاصة.
– البحث عن حلول واقعية وعقلانية مبنية على أساس منظومة المصالح المتبادلة. وذلك عبر إخراج المنطقة بصورة كلية من تأثير “الفوضى الخلاقة” وتصنيع “الأزمات الدائمة”.
– إن كل الخلافات المحتملة ينبغي أن توجه صوب إدارة شئون المنطقة والخليج تحديدا بقواها الذاتية بعد حل الخلافات الواقعية والمفتعلة حول “الأرض والحدود”.
– إن إضعاف أي طرف هو إضعاف للمنطقة كلها. والتجربة العراقية دليل حي على ذلك.
– تذليل المشاريع السياسية والأيديولوجية العدائية القديمة والاستعاضة عنها بمشاريع التعاون المشترك من خلال التركيز أولا على المشاريع الاقتصادية والثقافية. وبالتالي قلب معادلة التدخل الأجنبي من خلال جعل المصالح الأجنبية الضيقة “كبش فداء” أمام وحدة المصالح المشتركة للمنطقة.
انها مهمات تبدو شبه مستحيلة التحقيق في ظل تنوع واختلاف الانظمة السياسية وبنيتها الداخلية ومن ثم محددات توجهها الخارجي، وبالاخص ما يتعلق الامر منه بدول الخليج العربية والعراق أيضا في حالته المعاصرة، لكنها ممكنة في حال تغيير الذهنية السياسية وإدراك المصالح الحقيقية والجوهرية للدول والمنطقة بمعايير الرؤية المشتركة والبدائل المستقبلية العقلانية. ولا يمكن بلوغ ذلك دون تذليل النواقص الجوهرية الملازمة لطبيعة الانظمة السياسية في دول الخليج والعراق. وبالتالي، فان ايران اكثر من غيرها مرشح لإيقاف المنطقة من السقوط في هاوية الخراب التي تعرض لها العراق، والتي يمكن إن تتعرض لها دول الخليج العربية في حال بقائها ضمن مرجعيات الرؤية القبلية والانحطاط المعنوي في الموقف من المصالح الوطنية والقومية والإقليمية.