السيمر / الأربعاء 12 . 12 . 2018
رواء الجصاني
مع طول فترة الاغتراب، يشتد الاستذكار، ويسخن الحنين لمرابع الطفولة والصبا والشباب وما يلحق بذلك من فترات زمنية .. هكذا يتخيل، بل ويعيش صاحبنا المتغرب/ المنفي/ المهاجر لبلاد التشيك منذ اربعين عاما بالتمام والكمال، وما برح مستوطناً فيها مردداً ” أنا في عزٍ هنا غير في قلبي ينـزّ جرحُ الشريدِ” بحسب الجواهري الخالد، وعن براغ ذاتها..
ومهما قيل ويقال عن تعريفات للوطن، والأغتراب حتى فيه احيانا، تفيض الذكريات لمن له ذاكرة نشطة – وتلكم منقصة يحسبها صاحبنا- وكم كرر انه يحسد الآخرين ممن لا يبالون، ولا يجمعون الشوارد، ولا حتى الراسخات، ويعيشون دون شؤون الماضي، والمستقبل، كما الحاضر ..
وبلا شك – بل من المؤكد وإن كره الكارهون- ان تقدم العمر، وتقادم الزمن، يُلهب أكثر فأكثر مشاعر الحنو لبلاد واحباء وأهل، وربوع عيش ودراسة وعمل ومهام .. وها هو صاحبنا يجول هنا ولو عجولاً، وفي الذاكرة على الاقل، بين مدن بلاد ما بين الرافدين، وضفافهما، وهو – ربما- من القلائل الذين شيئ لهم ان يتنقلوا ويزرعوا، ويمرعوا، ويحزنوا ويفرحوا، فيها فترات قصرت وطالت، لمرة أو مرات، بحسب ما فرضته الوقائع والظروف..
1/ البداية من البصرة.. والقرنة
وعاش صاحبنا في الفيحاء عامين، كما نقل الاهل له، ولكنه لا يتذكر عنهما شيئا، اذ كان عمره اقل من سنتين، حين انتقل اليها والده، السيد جواد الجصاني، مديرا لمعارف اللواء (المحافظة) عام 1950 وغادرها عام 1952 الى مهمة تربوية اخرى ببغداد.. اما (صاحبنا) فرجع الى البصرة عام 1967 في زيارة قصيرة لليلة واحدة مع اصدقاء ثلاثة: باسل محسن الشبوط وفراس فوزي جميل وماهر سليم، بعد ان قضّوا نهارا في الكوت ..
وفي عام 1968 كان صاحبنا في البصرة ضمن سفرة جامعية – علمية، ولنقل سياحية بشكل ادق، حيث المرح ولهو الشباب (والشابات).. وقد حاول المشرفون على السفرة زيارة مطالع الكويت، ووصل الطلاب بباصهم الناقل الى الحدود البرية معها، ولم يفلحوا بعد ان رفض قبول الزيارة لعدم وجود موافقات رسمية مسبقة.. كما مرّ صاحبنا بالمدينة الفيحاء، وبأبي الخصيب (وهي اسم على مسمى) في الطريق عبر (السيبه) نهراً الى عبادان الايرانية مع صديقه: وليد فائق الأمين، عام 1970 لتغيير الجـو، ولبعض المغامرات الشبابية! ….
ثم عاد صاحبنا الى البصرة من جديد، والى مدينة القرنة تحديدا مهندسا مقيماً لأستصلاح اراضي “السويب” اواسط السبعينات، وكانت الفيحاء على مرمى نظر، وراحت زيارتها مرة كل اسبوع على الاقل، وطوال نحو ثمانية اشهر.. اما القرنة مستقر العمل، فلها في القلب ذكريات وذكريات!.. ومنها ليلة صاخبة، مع الاصدقاء معين القريشي ووليد الامين، ومحمد الشكرجي، ثم معهم الى الناصرية، عبر الجبايش ذات الاهوار الساحرة مبنى ومعنى..
.. ومن المؤكد ان يبقى الحديث ناقصاً عن البصرة، ما لم تجرِ الاشارة عن معارف واصدقاء واحباء صاحبنا من البصراويين (والبصراويات الألقات اولاً !) في الدراسة والعمل المهني والسياسي، وما بينها كثير!.. وحين تفيض الذاكرة يصعب الامر في الاستذكار من بحر ذلكم الكم الواسع، ويتسع فيض المحبة بلا حدود .
2/ في بعقوبة والصدور والخالص
ولمدينة بعقوبة حيز مهم في استذكارات صاحبنا، اذ كان والداه: السيد جواد، والسيدة نبيهة الجواهري، قد أنجبا فيها ولدين وابنتين، خلال السنوات الممتدة بين 1938- 1947.. وقبل ذلك كان لهما إبنان، الاول، البكر، وُلد في النجف، والثاني في رستمية بغداد… اما صاحبنا فقد انجباه في الكوت عام 1949 كما سبق القول، وهو مسك الختام او كاد !!.
لقد شغل السيد جواد الجصاني، والد صاحبنا، في الاعوام السنوات اعلاه، وقبلها، وبعدها قليلا، مهمة مدير معارف (تربية) لواء / محافظة بعقوبة (سميت ديالى لاحقا) : مركزا واقضية ونواحي في فترة كانت فيها المدارس، والتعليم عموما في طور الترسخ والبناء في العراق الجديد. وكم سمع صاحبنا من نزهاء وغيرهم، الجميل والثناء على اداء وعلاقات ومواقف والده في فترة تسنمه لذلك المنصب، ومن بين اولئكم الذوات: العزيزة د. سلوى زكو، التي كانت والدتها مديرة لاحدى مدارس بعقوبة، والفقيد الجليل د.غانم حمدون، الذي كان هناك في الاربعينات، طالبا، كما تقول الذاكرة ..
ومن ذكريات صاحبنا عن بعقوبة وتوابعها، مشاركته ناشطاً، وعازفاً هاوياً على العود، في مخيم لتشكيلات حركة (الجوالة) نٌظم لمدة اسبوع عام 1963 لطلبة متوسطات وثانويات بغداد، في منطقة الصدور، حيث السد السياحي الشهير على نهر ديالى، وضفافه ومقترباته الغنّاء ..
ثم توالت الزيارات لبعقوبة مرات ومرات، حيث الماء والخضراء، والوجه الحسن طبعا… فقد حدث ان تعيّن – صاحبنا – مهندسا مشرفاُ على بناء دائرة ، ومرفقاتها، تتبع مديرية استصلاح الاراضي الخالص، اوائل السبعينات الماضية، ولنحو عام كامل تقريبا.. كما – وللطرافة ليس ألا- يستذكر صاحبنا انه اشتغل، في اواسط السبعينات لأول وآخر مرة- مقاولا ثانوياً لبعض المنشآت المائية البسيطة في معسكر بعقوبة، وفشل تماما، وخسر كل رأسماله الذي دخل فيه تلك المغامرة، وكان بحدود مئة دينار فقط، نصفها دين من احد الاصدقاء!.
3/ حديـث الكــوت وجصان، والحيّ .. والصويرة
… وعن مدينة الكوت (مركز محافظة واسط) يطول الحديث عند صاحبنا، اذ وُلـد فيها بتاريخ 1949.11.24 حين كان أبوه مديرا لمعارف اللواء (المحافظة) اواخر الاربعينات، ومطالع الخمسينات الماضية.. ثم عاد اليها صاحبنا في السنوات اللاحقة مرات ومرات كما سيرد في السطور التاليات، زائرا وضيفا وعابرا، كما مهندساً اواسط السبعينات الماضية، في الصويرة، القضاء التابع للكوت / واسط.
وللكوت خصوصية اخرى في حياة صاحبنا، فهو يلقب بالجصاني، ولكنه ليس من مدينتي ” بدرة جصان” الكوتاويتيّن (الواسطيتيّن).. فقد جاء ذلك اللقب بسبب اقامة الجد الثاني لصاحبنا: السيد الفقيه “علي العريضي الحسيني” في جصان، ولسنوات خلال القرن الماضي، قادما اليها من مستقره في النجف الأشرف، حيث الآباء والأسلاف. وكم كان – صاحبنا – يرغب، ولم يوفق، بزيارة “جصان” ورديفتها “بدرة” الشهيرتين بطيبة الاهل والطبيعة والثمار والحصاد..
وفي مدينة الحيّ: الكوتاوية – الواسطية، قضى صاحبنا عدة ليالِ عام 1958 في مضايف شيوخ آل ياسين: عبد الله وبلاسم، برفقة الوالد السيد جواد، صديقهم العتيق، ومنذ ان كان مديرا لمعارف اللواء (المحافظة) . ومما تحتفظ به الذاكرة عن تلك السفرة ان صاحبنا أركبَ فرساُ لأول مرة في حياته، وقد جمحت به، وكاد ان يتهشم، وتلك كانت “عبرة” لمن يعتبر، وقد أعتبر الرجل منها، والى اليوم !.
ومما يتذكره صاحبنا عن الكوت ايضا سفرة خاصة، في نصف السبعينات الاول، بصحبة زوجته نسرين وصفي طاهر، وصديقه على الراعي، ومعهم: العزيزان علي حسن (ابو حيدر) وزوجته زهور اللامي، وقد استشهدا لاحقا بطلين، خلال خسة البعثيين الثانية، اوخر العقد السبعيني الاخير.
كانت تلكم السفرة الى الكوت بضيافة مسؤولين في منظمة الحزب الشيوعي هناك، الذين تكرموا للقادمين بمائدة عامرة في جزرة وسط النهر، قرب سدة الكوت. زادتها لطفاً بشاشة المضيفين، وحفاوتهم .. ثم تأتي المفاجأة بان يكون السمك كالعادة سيد الطعام، الاول والاخير، في مثل هذه الحال وذلكم المكان، ولم يكن أحد يدري من المضيفين أن صاحبنا لم يذق السمك في حياته، بل ويغاضب من يأكل تلك السمكات الانيقات اللعوبات، ويا له من إحراج للجميع في حينها !.
أما مدينة الصويرة، القضاء الخصيب في لواء الكوت (محافظة واسط لاحقا) فقد عمل بها صاحبنا مهندسا للري والبزل لنحو عام في منتصف السبعينات الماضية، مسؤولا في مشروع استصلاح الاراضي هناك، وكان من المشاريع الأروائية المهمة عهد ذاك.. وكم يتذكر صاحبنا هنا اهل الصويرة الكرام، وخاصة أصدقاءه من عائلة النهـر، العريقة في تلك المدينة المعطاء.
4/ وفي سامراء وتكريت، وعنهما
ولسامراء الامامين العسكريين، والخليفة المعتصم بالله، والقباب والملوية و”ثرثارها” وعنها، ذكريات وصورعند صاحبنا، مع والدته نبيهة بهدف “الزيارة” خلال الخمسينات الماضية، أو مع والده السيد جواد، وهو يقوم بجولة تفتيشية لمدارس القضاء في السنوات نفسها .. كما سفرات مدرسية وغيرها مع احبة واصدقاء.. وكذلك مرورا بها في السبعينات حين كان – صاحبنا – مهندسا مشرفاً على بناء منشأة في تكريت، تابعة لمؤسسة التربة واستصلاح الاراضي التي كان موظفا فيها ..
وبالمناسبة وقد وصل الحديث الى تكريت، تحضر في ذاكرة صاحبنا دعوة العشاء التي اقامها له في مضيفه وجيه جليل من وجهاء تلكم المدينة، تلطفا واحتفاء… ثم تنتهي الجلسة بعد احاديث واحاديث وأذا بالداعي الكريم يلتفت الى المحيطين به وهم من “المسؤولين” هناك – اواسط السبعينات- ليقول لهم: كيف تكذبون وتقولون عنه – اي صاحبنا – بأنه شيوعي، وكافر؟! .. انه سيد من آل البيت، ويجاوزكم جميعا في الاخلاق والثقافة !!.
————————————————————
* يتبع القسم الثاني، وذكريات عن العمارة والناصرية وقلعة سكر والسماوة والديوانية والرمادي والحبانية وهيت.