السيمر / فيينا / الاثنين 08 . 04 . 2019
اسعد عبد الله عبد علي
ذاكرة مختنقة هي التي تتحدث عن التسعينات من القرن الماضي, ايام الحصار الذي سحق المجتمع بشكل مخيف, كانت سلوتنا القراءة السرية ومحاولات للكتابة, وكنت احاول الكتابة عن احداث عام 1980التي سبقت حرب ايران, والتي مثلت مفترق الطرق للعراقيين, عبر استشهاد السيد محمد باقر الصدر, لكن كنت دوما اتوقف وتتحول الى كتابات غير مكتملة, نتيجة عدم تهيء المعلومات والاجواء المناسبة, وبسبب خطورة الكتابة والتي تعتبر جريمة لا يقل فاعلها عن الاعدام, فالأحداث السياسية يجب ان نسكت عنها, كانت كلمات واوامر يرددها الكبار علينا, لان سلطة صدام ترفض أي كلام معارض لما تراه.
ليلة الامس اخرجت بعض الاوراق القديمة, كانت فقط خمس وريقات لكن مليئة بالكلمات, والمتكدسة في كيس كبير محتفظ به في مخزن البيت, وسأنشرها كما هي:
· سوق الاولى – شارع الداخل
نحن جيل عاش عتمة سنوات حكم البعث, كنا اطفالا عندما استشهد السيد الصدر, وتحول اسمه لخطر تخاف ان تذكره الناس, فهو جريمة لا غفران معها, مع انتشار جواسيس البعث وتغلغلهم داخل المجتمع, لذا اصبح امر اكتشاف السيد الصدر من الصعاب, كنت كثير التجوال في الاسواق الشعبية, ابحث وسط الكتب القديمة والمجلات عن المعلومة التي تغذي ذاتي, وفي احدى جولاتي في سوق الاولى الواقع في بداية شارع الداخل من مدينة الثورة, حيث يجلس عجوز يبيع كوم من الاوراق والكتب الممزقة وبقايا المجلات.
فمددت يدي ابحث عن شيء ما, وفجأة وقع بين يدي كراس فيه كتابة بخط اليد, وكان صاحبها ذو خط انيق, لا اسم للكراس ولا لصاحب السطور, لكن ذهلت من العناوين ( اين ولد محمد باقر الصدر؟ اين درس؟ ما هي كتبه؟ ) يا الهي صدمة كبيرة, بحثت عن اشياء اخرى لم اجد, ثم لففت الكراس ببعض المجلات وبقايا الكتب, واشتريتها جميعا, وعدت مسرعا للبيت, اسرعت نحو غرفتي ومعي ما يشبه الكنز, حاولت ترتيب الاوراق حسب الزمن المكتوب في اعلى كل ورقة, وشرعت بقراءتها.
· الورقة الاولى: ولادته .. الثلاثاء 1-1-1985
” منذ ايام وهنالك حملات كبيرة للتفتيش عن الكتب الدينية, مع حملة اعتقالات مسعورة بالتزامن مع اخبار الهزائم العسكرية, لقد فقدت الكثير من الاصدقاء ممن اعتقلوا او اجبروا على خوض الحرب, واحس ان ايامي قليلة, لكن سأصبر كما علمنا الاستاذ الشهيد, وسأكمل سطوري اليوم سأكتب عن نشأت السيد الصدر.
ولد الشهيد محمد باقر الصدر في مدينة الكاظمية في عام 1934, ونشأ السيّد الصدر يتيماً، فقد مات والده السيّد حيدر الصدر وهو في السنوات الأولى من عمره، احتضنت رعايته والدته بنت آية اللّه الشيخ عبد الحسين آل ياسين وهم من أعاظم الفقهاء، وقد عرف عن والدة الشهيد الصدر أنها مثالاً عالياً للتقوى والورع، كانت لا تفارق القرآن تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وقد تحملت الكثير الكثير من المعاناة حيث عاشت مع الشهيد الصدر أيام المحنة الصعبة وأيام الحصار الأخير، وكانت صابرة محتسبة.
في هذا الكنف الطاهر ترعرع ونشأ السيّد الصدر، ويجب أن لا ننسى دور أخيه الأكبر آية اللّه السيّد إسماعيل الصدر فقد أولاه الكثير من الرعاية والاهتمام مما خفف عنه آلام اليتم وقسوة الحياة
خلّف الشهيد الصدر ولداً واحداً هو السيّد محمد جعفر الصدر، كما خلّف الشهيد الصدر خمس بنات”.
· الورقة الثانية: دراسته.. الخميس 7-2-1985
“اعود للكتابة من جديد, بعد الخلاص من حصار البعثيين, وتحسن حالة والدي المريض, لكن يجب ان اكمل ما بداته, في الكتابة عن الشهيد السعيد السيد الصدر, واليوم سأكتب ملخصا عن دراسته.
تعلم السيد الصدر القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية في مدينة الكاظمية المقدسة, وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ, بدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية.
في بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر.
هاجر الشهيد الصدر من الكاظمية المقدسة إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند شخصيتين بارزتين من أهل العلم والفضيلة وهما: آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين، وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.
بالرغم من أن مدة دراسة السيد الصدر منذ الصبا وحتى إكمالها لم تتجاوز 17 أو 18 عاماً، إلا أنها من حيث نوعية الدراسة تعدّ فترة طويلة جداً، لأن السيد كان خلال فترة اشتغاله بالدراسة منصرفاً بكلّه لتحصيل العلم، فكان منذ استيقاظه من النوم مبكراً وإلى حين ساعة منامه ليلا كان يتابع البحث والتفكير، حتى عند قيامه وجلوسه ومشيه”.
· الورقة الثالثة: دراسته.. الجمعة 3-5-1985
” للتو خرجت من سجن دام شهرين, بعد ورود اسمي باعترافات احد الاصدقاء القدماء: باني ذهبت معهم في عام 1982 لزيارة النجف الاشرف, وبأعجوبة تم اخلاء سبيلي, شفع لي دعاء امي المسكينة وعزلتي في اخر سنتين, احوال البلد لا تسر, البعث يبطش بالبلد, ومطحنة الحرب مازالت تأكل اجيالا من ابناء البلد, اليوم سأكمل الورقة الثالثة وفاءا مني للشيد السعيد الصدر.
بدأ السيد الصدر في إلقاء دروسه ولم يتجاوز عمره خمس وعشرون عاماً، فقد بدأ بتدريس الدورة الأولى في علم الأصول بتاريخ 12 / جمادى الآخرة / 1378 هـ وأنهاها بتاريخ 12 / ربيع الأول / 1391،
وشرع بتدريس الدورة الثانية في 20 رجب من نفس السنة، كما بدأ بتدريس البحث الخارج في الفقه على نهج العروة الوثقى في سنة 1381هـ.
وخلال هذه المدة استطاع سيدنا الأستاذ أن يربي طلاباً امتازوا من حيث العلم والأخلاق والثقافة العامة، لأن تربية السيد الصدر لهم ليس منحصرة في الفقه والأصول، بل أنّه يلقي ع ليهم في أيام العطل والمناسبات الأخرى محاضراته في الأخلاق، وتحليل التأريخ، والفلسفة، والتفسير, من أبرز طلابه ما يأتي ذكرهم: آية الله السيد كاظم الحائريي, وآية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي, وآية الله السيد محمد باقر الحكيم”.
· الورقة الرابعة: مؤلفاته.. الاربعاء 19-6-1985
“بدأ الصيف هادئ وهنالك اخبار عن قرب توقف مطحنة الحرب, بالأمس جاءوا لجارتنا ام باقر بابنها الثالث جريحا حيث بترت ساقاه, لم يبق في البيت الا هذه العجوز وابنها المعوق والنساء والاطفال, ان الحرب دمرت النسيج الاجتماعي, مع حالة الرعب التي نعيشها نتيجة تسلط رجال البعث على الحياة, اني احس بالاختناق فكل شيء ممنوع, وعليك ان تفكر باي كلمة تريد قولها هل ستنسجم مع سياسة الدولة, ام ستدخلك في خانة المعارضة.
حتى كتابتي لسطور هو امر طبيعي, لكن في العراق مخاطرة, والبعض يعتبره انتحارا او معارضة, او بطولة غير محسوبة, سأعود من جديد لمواصلة ما بدأت:
سأتكلم عن اهم مؤلفات السيد محمد باقر الصدر التي عرفتها:
اولا: فدك في التاريخ: وهو دراسة لمشكلة (فدك) والخصومة التي قامت حولها في عهد الخليفة الأول.
ثانيا: دروس في علم الأصول بثلاث اجزاء.
ثالثا: بحث حول المهدي: وهو عبارة عن مجموعة تساؤلات مهمة حول الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)
رابعا: نشأة التشيع والشيعة.
خامسا: نظرة عامة في العبادات.
سادسا: فلسفتنا: وهو دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية، وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية والديالكتيكية الماركسية.
سابعا: اقتصادنا: وهو دراسة موضوعية مقارنة، تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام، في أسسها الفكرية وتفاصيلها.
ثامنا: الأسس المنطقية للاستقراء: وهي دراسة جديدة للاستقراء، تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله تبارك وتعالى.
تاسعا: رسالة في علم المنطق: اعترض فيها على بعض الكتب المنطقية، ألفها في الحادية عشرة من عمره الشريف.
عاشرا: غاية الفكر في علم الأصول: يتناول بحوثا في علم الأصول بعشرة أجزاء، طبع منه جزء واحد، ألفه عندما كان عمره ثماني عشرة سنة.
حادي عشر: المدرسة الإسلامية: وهي محاولة لتقديم الفكر الإسلامي في مستوى مدرسي ضمن حلقات متسلسلة صدر منها: الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية, وماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي؟
الثاني عشر: البنك اللاربوي في الإسلام: وهذا الكتاب أطروحة للتعويض عن الربا، ودراسة لنشاطات البنوك على ضوء الفقه الإسلامي.
الثالث عشر: الفتاوى الواضحة: رسالته العملية، ألفها بلغة عصرية وأسلوب جديد”.
· الورقة الخامسة: الثورة … الجمعة 11-10-1985
” لا اعلم كيف تم تسريب قصة الاوراق التي اكتبها, وقد اخبرني محب ان اسمي رفع بتقرير للفرقة الحزبية من قبل احد الجيران, واخبرني بأهمية الفرار سريعا, قبل قرار القاء القبض, والتهمة اني من محبي السيد الصدر واني اكتب سيرة حياة الشهيد السعيد, سأكتب اليوم عن اجواء عام 1980:
في هذا العام كانت الاحداث تتسارع خصوصا بعد انقلاب صدام على حزبه في محاولة للتفرد بالقرار, ثم اعلان العداء لسوريا, واشتعال حرب الجواسيس بين البلدين, من جهة اخرى كان صدام وعفالقته يشعلون حربا شديدة ضد الخط الديني في المجتمع خصوصا بعد تظاهرات شهر صفر, واجبار السلطة على اطلاق سراح السيد الصدر بعد اعتقاله الاول, كان هنالك غليان شعبي في بغداد والنجف وكربلاء, لذلك عمدت سلطة صدام الى العنف والاشاعات لإخماد نار الثورة.
وشنت حملة اعتقالات ضد شباب الشيعة في كل محافظات القطر, في شهري اذار ونيسان من عام 1980 حتى غصت السجون بالشباب, مع حملة اعدامات للناشطين وخيرة شباب الامة.
ثم قامت السلطة البعثية بمحاصرته السيد عشرة أشهر في الإقامة الجبرية، ثم تم اعتقاله في يوم 19جماد الأول 1400هجري الموافق 5/4/1980 ميلادي. وبعد ثلاثة أيام من الاعتقال والتعذيب الشديد تم إعدامه مع أخته العلوية الطاهرة بنت الهدى وكان عمره الشريف 47 سنة وفي مساء يوم 9/4/1980، وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساء قطعت السلطة البعثية التيار الكهربائي عن مدينة النجف المقدسة, وفي ظلام الليل الدامس تم دفنهما مضرجين بدماء الشهادة الطاهرة, وعلامات التعذيب واضحة على الجسدين الشريفين في مقبرة وادي السلام المجاورة للمرقد الشريف للإمام علي (ع).
ليدخل العراق في فترة مظلمة, سحقت الشعب وتجبر صدام ليحكم العراق بالحديد والنار, الى ان سقط في حفرته”.
· الوفاء
اجد من الوفاء للسيد الشهيد محمد باقر الصدر ان انشر هذه السطور, الشهيد الذي ضحى بنفسه في سبيل الحق والعدل ورفض الطغاة ودنياهم, وكان مثالا لجده الحسين (ع) حيث قدم كل ما يملك في سبيل الاسلام, في مواجهة طاغية متجبر في عنفوان قوته, وكذلك وفاءا مني لصاحب السطور, ذلك الانسان المجهول والمحب للسيد الصدر, والذي لم استطع التعرف عليه, فمصيره صعب في ضل تلك الظروف القاهرة التي شهدت تجبر الطاغية وزبانيته, وكانت اخر اشاراته انه قريبا من الشهادة.