السيمر / فيينا / الخميس 25 . 04 . 2019
د . لبيب قمحاوي / الأردن*
العرب في ضيق وينتابهم القلق على المستقبل ، بل والخوف من تفاقم الإنهيار العربي ومن مجهول صفقة القرن والذي أصبح معظمه معروفاً في طبيعته وان بقى إلى حد كبير مجهولاً في نتائجه. وهذا الضيق وإن كان يشمل معظم شعوب العرب بدرجات متفاوته إلا أنه لا يشمل حكام العرب إلا بالقدر الذي قد تؤثر فيه طبيعة هذا الإنهيار وغموض نتائج ما هو قادم على وجودهم وإستمرار حكمهم . وهذا الإنفصام في الشعور هو نتيجة طبيعية لحالة الإنفصام القائمة بين الشعوب العربية وحكامها وتَفَرُّدْ أولئك الحكام بكل مقاليد السلطة وإستيلائهم على منابع القوة كلٌّ في الدولةِ التي يحكم . يجابه العرب الآن مجموعة من التحديات الخطيرة والتي يتطلب السيطرة عليها أو على مسارها أو نتائجها تكاتف الجهود الشعبية والرسمية بشكل متكامل . والواقع أن ما يعزز من خطورة هذه التحديات أنها نتيجة لسياسات فردية وفي أحيان كثيرة غامضة كان مَنْبَعِها ومَسارِها محصوراً في عقل عدد قليل جداً من المسؤولين المرتبطين برأس الدولة حصراً دون أي إطلاع أو تدخل أو تأثير من الشعب سواء مباشرة أو من خلال مؤسسات الدولة الدستورية مثل مجلس النواب والحكومة . وهذا الواقع العجيب يجعل معظم الشعوب تشعر بأنها غير مسؤولة عن عواقب تلك السياسات والأخطار الناتجة عنها كونها من صنع فرد واحد أو عدد قليل جداً من المسؤولين وأنها ليست نتاج سياسات وطنية تعكس موقفاً شعبياً عاماً . العالم العربي لا يعيش منعزلاُ عن محيطه بل يؤثر فيه ويتأثر به وبما يجري له سلباً وإيجاباً . والحكم في أي دولة عربية قد يختار مسارات تتوافق مع ذلك التفاعل أو تتعارض معه ، ولكن الآثار سوف تشمل في النهاية الدولة المعنية بشكل عام ، ولا يُجدي أن يَنْسُبْ الحاكم الفضل في النجاح لنفسه ، والفَشَل لشعبه وللآخرين . ومع أن أي دولة عربية هي بالنتيجة محصلة لبيئتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية ، إلا أن واقعها المحلي يبقى صاحب الأثر الأكبر في تحديد قدرتها على التصدي لتلك الأخطار والتحديات وما قد يتمخض عنها ، وهذا هو واقع الحال العربي بشكل عام . ومن هنا تكمن أهمية الإصلاح الداخلي الحقيقي لتمكين أي دولة عربية من مجابهة تلك الأخطار والتحديات . الضعف والإنهيار العربي العام وتفكك الدولة الدستورية وما يرافق ذلك عادة من فساد وإنهيار إقتصادي وضعف سياسي ومؤسسي قد جعل من الممكن للآخرين على المستويين الإقليمي والدولي أن يخترقوا كافة الخطوط الحمراء التي تحدد مصالح أي دولة عربية سياسياً وأمنياً وإقتصادياً . إن التطورات الإقليمية والدولية في العقد الأخير قد دفعت بمتغيرات عديدة قلبت أوضاع التحالفات التقليدية وضوابط القانون الدولي وحَوَّلت العالم ، خصوصاً منذ تولي إدارة ترمب مقاليد الحكم في أمريكا ، إلى نظام دولي مواقفه أقرب ما تكون إلى شريعة الغاب التي تعتبر القوة وليس القانون أساساً للحق . وهكذا ، أصبح فرض إرادة القوي على الضعيف سياسة مقبولة أمريكياً بإعتبار أن الأولوية هي للقوة . لقد أدى ذلك بالتالي إلى إخضاع القانون الدولي لأولويات السياسية الأمريكية المدعومة بالتفوق العسكري خصوصاً فيما يتعلق بخدمة المصالح الإسرائيلية . وقد تجلى ذلك في إعتراف أمريكا بالقدس كعاصمة للكيان الإسرائيلي وكذلك الإعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السورية بإعتبارها جزأً من الكيان الإسرائيلي وليس منطقة محتلة ، بالرغم من تعارض كل ذلك مع القانون الدولي والقرارات الأممية الصادرة عن الأمم المتحدة . يشكل هذا الموقف بداية تصدع الأمم المتحدة وإضعافاً ملحوظاً للنظام الدَوْلي المستند إليها والذي وُضِعَت أسسه عقب الحرب العالمية الثانية ، خصوصاً وأن المغالاة في فرض قرارات تتناقض والقانون الدولي قد أخدت مساراً ملحوظاً منذ تولي إدارة ترمب الحكم في أمريكا . لم تكتفي إدارة ترمب بتجاوز القانون الدولي ، ولكنها إبتدأت بالتصرف وكأنها حكومة تدير شؤون العالم وعلى الجميع الإنصياع لها حتى في أمور وسياسات تُعتبر من صميم سيادة كل دولة على أراضيها وشعبها . وإبتدأت أمريكا الآن بفرض العقوبات وإعطاء الإستثناآت من تلك العقوبات وفرض القيود البنكية والمصرفية على الحوالات ، وطَلَبْ الإقرارات المختلفة التي يجب أن ترافق أي حوالة مالية دولية والتدقيق في أصولها ووجهتها تحت عذر محاربة “الإرهاب” وهو في أصوله إصطلاح أمريكي إنتقائي ، كما أخذت في تصنيف الدول طبقاً لتطابق أو تعارض سياساتها مع سياسات أمريكا وإمتد ذلك بالنتيجة ليشمل الشعوب . وهكذا ، إبتدأت أمريكا تحت إدارة ترمب بالتعدي العلني والفج على السيادة الوطنية لدول العالم مما قد يؤشر ، فيما لو إستمر هذا النهج ، على بداية إنحسار مفهوم الدولة الوطنية لصالح حكومة القطب الواحد المستندة إلى مبدأ التفرد بإدارة شؤون العالم وسيادة مبدأ القوة على مبدأ الحق . والحق ، كما هو معروف ، مرتبط بشكل عام إما بالقانون الإنساني أو بالسيادة الوطنية وكلاهما الآن في خطر التقهقر لصالح سيادة مبدأ القوة وهو ما قد يعيد العالم إلى قانون الغاب . إن إصرار أمريكا على إستغلال هيمنتها على النظام الدَوْلي من أجل دعم إسرائيل وسياساتها المناهضة لحقوق الشعوب ، قد فاقمت من الأخطار التي يتعرض لها العالم العربي عموماً وقضية فلسطين على وجه الخصوص . وتُعْتبر صفقة القرن بالإضافة إلى القرارات الأمريكية المتعلقة بالقدس وحقوق اللآجئين وشرعية المستوطنات والجولان السوري المحتل مؤشرات خطيرة على حجم الأخطار الجديدة التي يُجابهها الفلسطينيين والعرب عموماً ، خصوصاً الدول العربية المضيفة للآجئين الفلسطينيين والدول المحاذية لفلسطين جغرافياً . صفقة القرن هي عنوان لبرنامج سياسي ومرحلة جديدة تهدف إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية عوضاً عن حَلِّها ، وإلى تحويل الكيان الإسرائيلي من كيان غاصب مؤقت قائم على الإحتلال ، إلى كيان دائم يحظى بشرعية يتم بنائها من خلال تحويل صفة الأرض الفلسطينية المحتلة إلى أرض يهودية تم إستعادتها وليس أرضاً عربية فلسطينية تم إحتلالها . هذا هو صُلْب صفقة القرن كما تسعى إدارة ترمب لفرضها على الفلسطينيين والعرب والعالم . وإذا كان هذا هو واقع الحال ، فلماذا ينتظر العرب التفاصيل ؟ ولماذا تسعى القيادة الفلسطينية والحكام العرب إلى إستعطاف أمريكا وإسترضاء إسرائيل ؟ ولماذا يُبدي بعض الحكام العرب إستعدادهم لتمويل ذيول هذه الصفقة التي تهدف إلى إستبدال الأرض والحقوق بحوافز وإغراآت مالية للفلسطينيين تأتي من مصادر عربية ؟ هذه التساؤلات هي الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تسعى الجماهير العربية إلى كشفها وإيقافها ومنع إستمرارها ، علماً أن التسابق نحو إرضاء أمريكا من خلال القبول المبطن أو الضمني ، أو الإدعاء بالرفض تمهيداً للقبول تحت عذر الضغط الأمريكي الهائل ، هي مخاطر وإحتمالات حقيقية يجب التصدي لها . الرفض العلني القاطع والمانع لصفقة القرن وذيولها وكذلك القرارات الأمريكية الأخيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية هي الرد الوحيد المقبول والمطلوب من كافة الأنظمة العربية وخصوصاً الأردن الذي لا تسمح مصالحه الوطنية بأن يأخذ مساراً يتعارض ومسار الفلسطينيين الذين يجب أن يرفضوا صفقة القرن أو ما يتعلق بها رفضاً قاطعاً وعلنياً . وهكذا ، فإن الوطن العربي مقبل على مجموعة من التحديات بعضها داخلي وبعضها الآخر إقليمي بالإضافة إلى التحديات الدولية . التحدي الأهم هو بناء أنظمة حكم عربية ديموقراطية بعيدة عن الإستبداد والفساد، يرافقها ضرورة العودة إلى الإلتزام بالمحظورات العربية التاريخية التي تمنع الإقتتال العربي – العربي أو الإستعانة والإستقواء بالأجنبي على العربي . هذه هي الثوابت التي يجب على العرب السعي إلى إستعادتها وتكريسها . أما التحديات الإقليمية فتتمثل في العدو الإسرائيلي ومخططاته من جهة ، وحتمية إعادة بناء تحالفات العرب الإقليمية من جهة أخرى . التحدي الإقليمي الأكبر الذي يواجهه العرب هو الوجود الإسرائيلي والخطر الذي يمثله هذا الوجود على مصالح العرب الحيوية . والخطر الإسرائيلي لم يعد محصوراً بقوة إسرائيل العسكرية المتفوقة فقط ، بل بالمخططات الإسرائيلية الهادفة إلى إختراق الوطن العربي وفرض إسرائيل كحليف إستراتيجي للعرب ضد مخاطر إقليمية إفتراضية ومزعومة . إن الإفتراض بأن إسرائيل يمكن أن تصبح حليفاً للعرب يعكس قصوراً في التفكير الإستراتيجي لأصحاب تلك الفرضية من العرب . إن توسيع دائرة الحلفاء الإقليميين المعادين لإسرائيل ومخططاتها العدوانية مثل تركيا وإيران هي الرد الوحيد المناسب على محاولات فرض هيمنة إسرائيل العسكرية على العالم العربي وعلى الإقليم الشرق أوسطي بشكل عام . التحدي الذي يمثله التحالف الإستراتيجي الدائم بين أمريكا وإسرائيل هو أكثر التحديات الدولية خطورةً وهو يتعارض بشكل واضح مع التحالف الآخر الأضعف القائم بين معظم الدول العربية وأمريكا . فأي دولة عربية سوف تكون دائماً الطرف الأضعف في العلاقة بين كلا التحالفين وسوف تُرْغَمْ على دفع الثمن دائماً من مصالحها الوطنية بصفتها الضعيفة والثانوية تلك . إن سعى الدول العربية نحو تغيير تحالفاتها الدولية في إتجاه أوروبا أو روسيا أو الصين إما كبديل أو كمرادف يجب أن يكون الرد المنطقي على تلك العلاقة الظالمة وذلك الوضع الشاذ الذي يربطهم بأمريكا حليف إسرائيل الدائم والأكبر والأهم .
24. 04 . 2019
*مفكر عربي