السيمر / فيينا / الأربعاء 01 . 05 . 2019
د . نضير الخزرجي
من بديع خلق الله أن التربة الواحدة لها أن تنتج أنواع النبات والثمار نجمية وشجرية، متسامقة الأغصان أو متدلية الأفنان، وحيث يدخل الإنسان روضة ينبهر بألوانها وما تحمله سيقانها وأغصانها مما تشاكل حجمه ومظهره أو تخالف، تبعث في النفس الإنبساط والإنشراح بما ترى الباصرة وتستاف الشامَّة.
ومن مظاهر المدنية والحضارة الدعوة إلى إقامة معارض الأزهار والنباتات، فتحرص كل مدينة في البلد الواحد أن تأتي بما لديها فتبدع في تشكليها لتستحوذ على أنظار الزائرين، فيجد الزائر في المعرض ما لم ير من قبل على أرض الواقع ناهيك عن المزارع أو الخبير الزراعي الذي يجد في المعرض ضالته، فمعارض الزهور والنباتات أو عموم المعارض الزراعية من أزهار ونباتات وثمار تخلق لدى الزائر والناظر انطباعات وأحاسيس تختلف بين إنسان وآخر، ولكنها في المحصلة النهائية تفتح عنده المغاليق النفسية ولو بقدر، مما ينعكس إيجابا على سلوكه ولو آنيا، ولهذا كان من سعادة المرء الماء والخضراء والوجه الحسن، فالماء يعكس وجه الناظر بما يحب أن يرى نفسه على صفحته، والخضراء تزيح عنه غبار الحياة ونصبها فتجعله يرفل في جلباب الحبور، والوجه الحسن هو الضد النوعي لخضراء الدمن، تشحن فيه من بطاريتها قوة ونشاطا وتفرغ منه الطاقة السلبية.
ولكن ماذا لو اجتمعت معارض الزهور والنباتات في القارات الخمس في حديقة واحدة مترامية الأطراف للفصول الأربعة؟
ربما قد يعتبرها البعض من المستحيلات، ولكنها حقيقة لمستها بباصرتي في زيارة إلى حدائق النباتات الملكية جنوب غرب لندن في 24/7/2016م الشهيرة بحدائق كيو (Kew Gardens) الغنّاء التي تم افتتاحها سنة 1759م، كنت أسمع عنها وحينما وقفت عليها تكورت القارات الخمس في حدقة العين، فالمرء وهو يتجول بين الأزهار والنباتات يشم عطر المناطق الإستوائية والقارة الأفريقية والقارة الأميركية والهند وكندا وآسيا، فهي ليست ورود ونباتات يتم استيرادها كل فصل، بل هي مزروعة وتم أقلمتها ضمن ظروفها البيئية والجوية كأنها في منابتها ومحتدها، فكل ناحية من الحديقة المترامية الأطراف تنبئك إلى جانب عظمة الرب الخالق، عن الخبرة والفن في تجميع الأزهار والنباتات المختلفة المواسم في مكان واحد، كل شيء فيها يدل على عقلية زراعية وجيولوجية ومناخية وهندسية متناهية في الفن والخبرة.
لم يكن الجو الربيعي هو الذي أعادنى بالذاكرة إلى حديقة كيو الباهرة، وإنما مجموعة قصائد تضمنها ديوان “أفانين شعرية” للأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في 336 صفحة من القطع الوزيري هو الذي فجر في ناظري بالون الذكرى، لكون الناظم والأديب الكرباسي استطاع في 120 قصيدة أن يطلع قراءه على العشرات من الفنون النظمية توزعت على البحور القديمة والبحور الحديثة التي استولدها، فجاءت القصائد روضات جنائنية تمكن ناظمها في أقلمتها بين دفتي هذا الديوان مما يسحر كل قارئ على سبيل متعة وكل شاعر على سبيل صنعة.
أفانين وأفنان وفنون
الفن حرفان دال على المهارة والحذاقة والحبكة وكل ما هو على مستوى عال من الأداء قولا أو فعلا بما يؤدى إلى إبهار الآخر مستمعا أو قارئا أو حاضرا، وإذا تعدد الفن صار أفانين وأفنان وفنون، مثلما هو الغصن الأفنون إذا اجتمعت وتعددت صارت أفانين وأفنان تعجب الزارع وتبهر الداخل والراجع، ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. ذَوَاتَى أَفْنَانٍ) سورة الرحمن: 46- 48، أغصان نضرة حسنة ذات ثمار طرية شهية.
ولأن ديوان الكرباسي الجديد في كل قصيدة منه غصن فن جديد، فصارت أفانين شعرية، وبتعبير الناظم في التمهيد من وزن الرجز المقبوض:
للشعر في كل اللغى ألوانُ *** ديواننا هذا به أفنانُ
ويضيف معلقا على عنوان الديوان: (هذا العنوان إنما اخترناه ليكون مطابقا مع الواقع، لأنّ الفن في اللغة هو النوع واللون والصنف والحال والضرب من الشيء) مستشهدا برجز الشاعر المرار بن منقذ العدوي الذي عاش في العهد الأموي:
قد لَبِسْتُ الدَّهْرَ من أفنانه *** كل فن ناعم منه حَبِرْ
مائة وعشرون قصيدة من فنون النظم توزعت على أربعة فصول هي:
الفصل الأول: القصائد الخالية من أحد حروف الهجاء أو عكسها.
وفيه 30 قصيدة، وكل قصيدة منها خلت من حرف من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، واثنتان من القصائد تكرر فيهما النقص.
الفصل الثاني: القصائد التي تحتوي كل مفردة من كل قصيدة على أحد حروف الهجاء.
وفيه 28 قصيدة، وكل قصيدة تلونت بحرف من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين.
الفصل الثالث: كل الأشطر تبدأ بحرف من حروف الهجاء وتنتهي به.
وفيه 29 قصيدة، وبداية كل شطر ونهايته تلون بحرف من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، وواحدة مكررة في حرف الخاء.
الفصل الرابع: في المتفرقات من أفانين الشعر.
ضم 33 قصيدة، وكل قصيدة انطوت على فن من فنون النظم أو لزوم ما لا يلزم، وبتعبير الشاعر العراقي الأديب عدي حسن كرماشة وهو يقدم للديوان: (تفنن الشيخ الكرباسي في نظم قصائد بالغة الصعوبة وتستغرق حصدًا لكل كلمات النوع المنتخب من المعجم العربي والتحكم بالإشتقاقات لتلائم النظم المنشود في قصيدة اللزوم .. وهذا اللون من الفن الشعري وهو من اللزوميات يعد من أهم خصوصيات اللغة العربية الإبداعية).
من رياض الأفانين
تمثل القصائد المائة والعشرون التي توزعت على صفحات هذا الديوان نتاج أدب الطريق والمسير اليومي بين منزل الناظم المستأجر ومركز العمل المرهون للبنك والموقوف لدائرة المعارف الحسينية، وهي قصائد كثيرة في دواوين غير قليلة، انتخب الناظم من بعضها هذه القصائد المتشحة بفنون النظم التي قلّمها يجيد نضد عقدها الشاعر الأريب والناظم الأديب، فجاءت القصائد من الدواوين التالية: ظلال العروض (مطبوع)، وقود سقر (مخطوط)، زلّة الأقلام (مخطوط)، الإبريز في المصرّعات والأراجيز (مخطوط)، وسفائن الأمل في الحسين والقلل (مطبوع).
أما عناوين القصائد فقد جاءت في الفصل الأول كالتالي: الرفيق شقّاي، العزف والعُزُف، رحلي، الهمسة والعقاب، الأوطان المستباحة، الدعوات والصلوات، الهنا والوفاء، المستقبل الحليف، فلاح المستنهض، المسيح بلا والد، مقرى الأيتام، المجاملة والمجادلة، ذلُّ السؤال، الأولاد غَرْس، المرأة ريحانة، الرفيق اليقظ، لا يغيب عنه شيء، الظلوم المتجبِّر، الأسير يسير، الغازي الكنود، خطفُ العين، عمروٌ جارى يزيدا، العمل والمثل، الهلاك بالموبقات، من كوفة عمروٌ أتى، فهد وليف يزيد، شر العمل، المراودة الحلال، حسن الصبايا، وسفن النجاة.
وضم الفصل الثاني القصائد التالية عناوينها: مَن يسحر زُليخا، البلاءُ بالتباهي، الغزو واليُتم، الليث والثرثار، الجامعة والمجون، سحر الحليم، خيل الخيال، البلد الرائد، الكذبُ المُستذلبُ، ثرى الرِّضا، زوى زُبير، سناء السهيل، المشاعرة والمعاشرة، صارمي ناصرٌ، رُضاب الرضا، الخاطر والطائر، ظل الظعان، تعبير العين، غادر الغدر، الفطن الفخور، القائد والساقطون، كذب الكلام، إله الخلق، الأمين والمغيثُ، إنسان العين، هلال الهنا، نكثُ العهود، ودنياك.
وضم الفصل الثالث القصائد التالية عناوينها: النبأ، غيُّ عمران، التائه في العشق، صخرة العلم، جمال الصبا، فجاجة عمرو بن الحجاج، خذوا عَمْرا، الخالد والمخذول، تسلق المرتقى، الأرض والذهب، السهم والقلب، ابن صبيح آثمٌ، سنا البرق، شلو تميم طانش، صُدعت حجب القصص، ضمور عيهمة، للطواغيت طيور، ظلال المها، عنان السماء، الغلام الغبي، فساد الدنيا، الصدِّيق والزِّنديق، الولف والخصم، منى الشعوب، اليأس والغدر، نذر النفوس للوطن، النَّبهُ والرَّفِهُ، سريعٌ في الرضو، والصفاء والوفاء.
وأما الفصل الرابع والأخير ففيه جمالية تعكس واقع عنوان الديوان “الأفانين الشعرية”، حيث اختصت كل قصيدة بفن من الفنون، فجاءت عناوين القصائد على النحو التالي ولكل قصيدة فنّها: الأسد والظبا (كل بيت فيه الحروف الهجائية كاملة)، المسلك الوسط (إلغاء الحروف المعجمة)، زينب الشغف والشفاء (الإلتزام بالحروف المعجمة)، جفاء الحكم (إلغاء الحروف الشمسية)، ضي نشر السُّم (إلغاء الحروف القمرية)، قطع المنى (إلغاء حروف الهمس)، الصَّكَّةُ والكَشَّةُ (الإلتزام بحروف الهمس)، مدنٌ في اللبِّ (إلغاء حروف الإستعلاء)، الوقاية والدراية (الإلتزام بحروف الإستعلاء)، الخلوص لآل الرسول (إلغاء حروف العلة)، وارث المصطفى (الإلتزام بحروف العلة)، خسئت نفوسٌ (إلغاء حروف القلقلة)، المواطن العربي (الإلتزام بحروف القلقلة)، القدرة والقَدر (إلغاء حروف الغّنَّة)، الموت نعمة (الإلتزام بحروف الغَنَّة)، غُصص بالقلب (إقصاء الحروف اللثوية)، الثناء الظافر (الإلتزام بالحروف اللثوية)، عُمَرٌ فجر (إقصاء حروف الصفير)، صفير الحروف (الإلتزام بحروف الصفير)، الكريم يُقصد (إتحاد البداية والنهاية)، نجل عبد الله (ما قبل الروي متطابقان)، أزدٌ خطا قدما (شطر بالميم والنون)، من مغرب إلى يثرب (كل الأشطر مشطرة بحرف القافية)، ابن سعد ناصر (كل شطر مشطر بأحد الحروف)، ابن القيس (كل شطر يبدأ بأحد الحروف الهجائية)، النجل الكريم (الإلتزام بقافية واحدة في الصدور)، خديجة علي (كل بيت مدور ما بعده)، جمانة هاشم (استخدام الجناس)، أحمد يُحمد (الحروف الهجائية متسلسلة في بداية ونهاية الأشطر)، نور حسنية (خلو الشطر بالترتيب من الحروف الهجائية)، مسح القلم (الحرف الأول والآخر متجانسان معاكسان)، ليلي نهار (التصريح بحرف الصاد)، والرضا (المدور اثنتا عشرة مرة).
من كل قصيدة فن
وحتى نقف على ما أتى به الأديب الكرباسي من فنون الشعر ولزومياته، نستهدي بعدد من النماذج من الفصول الأربعة.
من نماذج الفصل الأول حيث خلت كل قصيدة من أحد حروف الهجاء، ينشدنا الكرباسي من ديوان وقود سقر تحت عنوان: “من كوفة عمروٌ أتى” وهو يهجو عمرو بن حريف الكوفي والذين شارك في قتال الإمام الحسين(ع) في كربلاء، من بحر الرجز المسدس المرفوع (مستفعلن مستفعلن فاعلن × 2):
من كوفةٍ عمروٌ أتى نِينوى *** يسعى بحقدٍ ذبحَ مَن قد صفا
أعني حُسينًا سبط طاها وذا *** مَن حيدرٌ هذا أبٌ مرتضى
وتستمر القصيدة إلى البيت العاشر والأخير خالية مفرداتها من حرف اللام.
ومن نماذج الفصل الثاني حيث احتوت مفردات كل قصيدة على أحد حروف الهجاء، ينشدنا الكرباسي من ديوان الإبريز في المصرعات والأراجيز تحت عنوان: “كذب الكلام” وهو يطلعناعلى بيان حال المجتمع من بحر الرجز المطوي المثمن (مفتعلن × 8):
كلُّ كلامٍ كذبٍ يكشفُهُ كاذبُهْ *** كم نكدٍ يكتمه كيدَ كرًى كاتبُهْ
كم مَلَكٍ يكتبُ أقوالكمُ كاملةً *** كم كتفٍ كَلَّ كريمٌ مَلَكٌ كافلةً
وتستمر القصيدة على هذا المنوال حتى البيت العاشرة والأخير وكل مفردة فيها حرف الكاف.
ومن نماذج الفصل الثالث حيث يبدأ كل شطر من كل قصيدة بحرف من حروف الهجاء وينتهي به، ينشدنا الكرباسي من ديوان وقود سقر تحت عنوان: “شلو تميم طانش” وهو يهجو عمرو بن نهشل التميمي الذي أقدم على قتل عون بن عبد الله بن جعفر الطيار يوم عاشوراء بكربلاء، من بحر الرجز المسدس (مستفعلن مستفعلن مستفعلن × 2):
شِلْوَ التميم المُزدرى ذا يغبشُ *** شاءَ الفتى عمروٌ يقي مَن يبطشُ
شرٌ جرى مِن نهشلٍ إبنًا حُشي *** شؤمًا فأمسى في ظلام يَفحشُ
وتستمر القصيدة على هذا المنوال حتى البيت العاشر والأخير وكل شطر من صدر وعجز يبدأ بحرف الشين وبه ينتهي.
ومن نماذج الفصل الرابع والأخير، التزم الشاعر بأن أتى في كل بيت بحروف القلقة (القاف والطاء والباء والجيم والدال = قطبجد)، فانشدنا الكرباسي تحت عنوان: “المواطن العربي” في بيان حال المجتمع العربي من بحر المتدارك المثمن (فاعلن × 8):
قد قضى والدي حاجةَ الطالبِ *** جدّتي عالَجت كِذْبَة الكاذبِ
بيئتي جدَّدَت فِطْرَتي قوةً *** دلّني سيّدي حُجَّةُ الثاقبِ
وهكذا تستمر القصيدة على هذا المنوال حتى البيت العاشر والأخير ولم يخلو بيت من حروف القلقلة.
إن التجوال الروحاني والعرفاني في رياض (الأفانين الشعرية) يشبه إلى حد بعيد التجوال العياني والجسماني في حديقة كيو الملكية، فكما يرى الناظر من زهور ونباتات الفصول الأربعة مجتمعة في مكان واحد، يستأنس بالفصول الأربعة من فنون النظم المجتمعة في ديوان الأفانين الشعرية، وهو ما جعل الشاعر عدي كرماشة في نهاية التقديم يدعو: (المتخصصين والدارسين والشعراء وطلاب العربية إلى اقتناء مجموعة مؤلفات الشيخ الكرباسي في علم العروض والإطلاع على نماذجه الشعرية فيها، فإن بها مرآة صافية عن مدى طواعية اللغة العربية العظيمة في توظيف المعاني وتحديدها من جهة أو جعلها موحية بحرية معان متعددة أو مختلفة مؤولة من جهة أخرى في الوقت النفسه).
وحيث بدأ الشاعر كرماشة بمقدمة نثرية أنهاها بتقريظ شعري من 38 بيت من بحر الهزج المسدس المحذوف ومطلعها:
رفيقُ النورِ مَسراهُ الضياءُ *** ويوصلُهُ لغايته المضاءُ
ثم يُنشد قائلا:
وأهداني (أفانين القوافي) *** فأذهلني بروعتها العلاءُ
وفي الختام يخبرنا الشاعر:
لو التفت (الخليلُ) إلى المباني *** لقالَ إليكَ ينعقدُ اللواءُ
إشارة إلى 210 بحور استطاع صاحب الديوان أن يولدها بالإضافة إلى ما أتى بها الخليل بن أحمد الفراهيدي (100- 175م)، على أن الأديب الكرباسي يرى الفضل في الذي اكتشفها أولا وفي بيته البصراوي انعقد اللواء.
الرأي الآخر للدراسات- لندن