السيمر / فيينا / الأربعاء 22 . 05 . 2019
د . ماجد احمد الزاملي
تهدف إجراءات السلطة الادارية إلى المحافظة على النظام العام، والسلطة الإدارية هي صاحبة الاختصاص الأصيل في تنفيذ القانون، ولديها الإمكانيات البشرية والمادية التي تعينها على وضع التشريعات موضع التنفيذ، ولهذا تحرص الدساتير والتشريعات على منح السلطة الإدارية الاختصاص بإصدار قرارات الضبط الإداري من أجل حماية النظام العام، ولما كانت الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية مسؤولة عن تلبية وإشباع حاجات المجتمع فإنها لا تترك المجال مفتوح للنشاط الفردي بل نجدها تفرض نوع من الرقابة عليه بهدف حماية النظام العام من الأنشطة الفردية التي قد تخل أو تهدد هذا النظام العام، وهذا ما يعرف بالضبط الإداري . إن دراسة تدابير الضبط الإداري تستلزم معالجتها من خلال ثلاثة محاور، المحور الأول يدور حول فكرة الضبط الإداري بتعريفه تشريعا وفقها ومن خلال هذه التعاريف يمكن إبرار الجوانب الأخرى المتعلقة بأهداف الضبط الإداري، وتمييزه عن المفاهيم الأخرى، وكذلك معرفة السلطات التي تمارس هذا النشاط الإداري. إن التركيز على هذه الجوانب التي قد يكون لها جانب نظري أكثر منه عملي يستدعي التطرق إلى جانب مهم عملي يتمثل في دراسة التدابير التي يباشر بها الضبط الإداري، ولا يكون لهذه النقطة أهمية إلا من خلال ربط هذه التدابير بالحريات العامة، ومدى تأثير هذه التدابير على الحريات العامة المكفولة قانونا. إن سلطات الضبط الإداري لا تكون حرة في تصرفها وتكون خاضعة لمبدأ الشرعية في إصدار قراراتها، ولكن في الجانب الآخر هناك سلطة تقديرية لهذه السلطات وبذلك تنحصر تدابير الضبط الإداري بين التقييد والتقدير. تأثر الظروف الاستثنائية تأثير مباشر على مبدأ الشرعية، فيتوسع بذلك نطاقه ليصبح أكثر مرونة وتلائما مع هذه الظروف، فما يخرج من أعمال الإدارة عن إطار الشرعية في الظروف العادية يعد شرعيا في ظل الظروف الاستثنائية إلا أنه حتى تبرر الظروف الاستثنائية عدم خروج الإدارة عن مبدأ الشرعية، يتعين توافر شروط أعمال نظرية الظروف الاستثنائية أو حالة الضرورة التي شيدت من طرف القضاء الإداري الفرنسي حيث وضع شروط تطبيقها وبالتالي فرض رقابة على توافر هذه الشروط من وجود حالة تمثل خطرا جسيما يهدد المصلحة العامة أو يعوق سير المرافق العامة بحيث لا تستطيع الإدارة دفع هذا الخطر بإتباع قواعد الشرعية العادية، لتعذر إتباعها أو عدم كفايتها أو أن يكون من شأن إتباع تلك القواعد تعريض المصلحة العامة للخطر كما يجب أن تكون الإجراءات المتخذة من جانب الإدارة هدفها حماية المصلحة العامة . إن نشاط الضبط الإداري يختلف ممارسته في الظروف الاستثنائية عن الظروف العادية، حيث أن مواجهة الظروف الاستثنائية تقتضي السرعة للمحافظة على النظام العام ودفع الأخطار، فمن الضروري إعطاء قرارات الضبط الإداري بعض الصلاحيات الخاصة وإن كان يتعارض ذلك مع مبدأ الشرعية إلا أنه يظل مع ذلك أمرا قانونيا وشرعيا، في إطار شرعية استثنائية وبذلك فإن قرارات الضبط الإداري تتأثر بهذه من السيطرة على الوضع، فلو اتبع ذلك الشكل أو الإجراء لكان تدخل سلطة الضبط الإداري بدون جدوى لفوات الوقت فتظهر بذلك سلطة تقديرية في إتباع الشكل أو عدم إتباعه، فمن حيث المبدأ ليس لسلطة الضبط الإداري أية سلطة تقديرية في عنصر الشكل، لكن الظروف الاستثنائية تملي هذه السلطة التقديرية التي على ضوئها يمكن تقرير عدم إتباع الشكل اللازم لصحة القرار الإداري، فيمكن بذلك أن تصدر سلطة الضبط الإداري قرارها شفويا بدون كتابة، ويمكن لها كذلك عدم استشارة جهة معينة، كذلك يمكن إغفال إجراء قانوني استوجبه القانون ، ففي هذا الصدد قضى مجلس الدولة الفرنسي شرعية قرار ضبط إداري يخص الاستيلاء حيث يلزم القانون ضرورة الاتفاق الودي المسبق، نتيجة للظروف الاستثنائية (مجلس الدولة الفرنسي 1 حزيران1949). إن عدم إتباع الإدارة لشكل معين أو إجراء تفادي هذا الشكل إذ أن العمل وفقا لهذا الشكل قد يؤدي إلى عدم جدوى القرار. وبذلك فإن شروط عدم إتباع سلطات الضبط الإداري لشكل تتمثل فيما يلي: -1-ضرورة توفر ظروف الحالة الاستثنائية -2-حماية المصلحة العامة قد تجد سلطة الضبط الإداري نفسها أمام حالة استثنائية لا يمكن أمامها أن تستمر هذه السلطة في إتباع ذلك الشكل أو الإجراء، فقد يتطلب القرار إجراء أو شكل يتطلب وقت معين، وأمام تفاقم الوضع أو الحالة لا يمكن انتظار استيفاء ذلك الإجراء، فيستحيل بذلك إتمام ذلك الشكل .إن هذه الحالة تجد نطاق تطبيقها في القرارات الضبطية التي اتخذت في حالات عادية، حيث أن خروج هذه القرارات لحيز التنفيذ يتطلب وقت معين بسبب شكليات معينة، ولكن يحدث أن تتدخل ظروف استثنائية تعجل بصدور القرار، فما يكون على سلطة الضبط الإداري إلا أن تقطع ذلك الإجراء الشكلي، وتصدر القرار بشكل فوري. فالرقابة القضائية على الخروج على قواعد الشكل في الحالات الاستثنائية تكون هي نفسها الرقابة على الخروج على قواعد الاختصاص، حيث أن القضاء الفرنسي الإداري كان يراقب شروط توافر الظروف الاستثنائية، وبذلك يطبق نظرية الضرورة التي بموجبها يمكن للإدارة بصفة عامة الخروج على مبدأ الشرعية ومن ثم الخروج على قواعد الشكل سواء كانت جوهرية أو ثانوية، وتصبح بذلك القرارات شرعية بسبب شرعيتها أي اتخاذ هذه القرارات في ظروف استثنائية ومن أجل المصلحة العامة. الرقابة على الشرعية الداخلية: نتحقق من مخالفة القانون والانحراف بالسلطة والإجراءات، أي مطابقة موضوع العمل القانوني، على اعتبار أن المحل هو موضوع العمل بقوله “هذه الرقابة لها أهمية وأن السبب والغاية هما شروط الموضوع، ويقدرها الأستاذ رقابة الشرعية الداخلية بالغة، إذ تتيح للقاضي اختيار الوسيلة السهلة التي يكشف بها عن أخف عيوب الشرعية بواسطة فحص طفيف في العمل المطعون فيه” . وعلى كل حال فإن عناصر الشرعية الداخلية هي وحدها التي تحمل خصائص نظرية الضبط الإداري ونظامه القانوني الخاص به الذي ميزه القضاء بسلطته التقديرية والمقيدة معا. يحدث عيب المحل عند الخروج على أحكام القانون ومخالفة القواعد القانونية أيا كان مصدرها سواء كان المصدر مكتوبا أو غير مكتوب، وبذلك فإن النظر لهذا العيب من زاوية شمولية، نجده يشمل جميع العيوب التي تجعل القرارات الإدارية باطلة لأن مخالفة الاختصاص المحدد بالقانون، أو الخروج على الشكليات المقررة، أو إساءة استخدام السلطة والانحراف بها تعتبر في جميع الأحوال مخالفة للقانون. بيد أن فقه القانون العام والقضاء الإداري درجا على استخدام اصطلاح مخالفة القانون. فهذا العيب يقع إذن في محل القرار الإداري، أي يصيب مضمون القرار أو الأثر القانوني الذي يحدثه القرار في المراكز القانونية للأفراد . المحل في قرارات الضبط الإداري يجب أن يكون مطابق للقانون أي احترام القواعد القانونية سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة وقد فرض القاضي الإداري الفرنسي رقابة كاملة على عنصر المحل في قرارات الضبط الإداري. وأعلن عدم شرعية القرارات الضبطية التي يكون مجالها مخالف للقانون سواء كانت هذه المخالفة ناتجة عن تجاهل تام لقاعدة قانونية، أو ناتجة عن تفسير خاطئ . وإلى جانب المخالفة المباشرة لنص أو القاعدة القانونية يمكن أن توجد مخالفة غير مباشرة تتمثل في حالة وجود خطأ في تفسير وتطبيق القانون خاصة في حالة الغموض حيث يصدر القرار . بناءا على تفسير أو تأويل خاطئ لمضمون القاعدة القانونية . ففي هذه الحالة تكون قرارات الضبط الإداري المتخذة بناء على تفسير أو تأويل خاطئ للقانون غير شرعية، وقد أعلن القاضي الإداري الفرنسي عدم شرعية قرار رفض الترخيص بلعبة “الروليت المبني على نص “لعبة الكرة والألعاب المماثلة” لأن لعبة الروليت والكرة ليستا لعبتان متماثلتين. ” استخلصت المبادئ العامة للقانون من عبارة أو روح النصوص وكذلك من المبادئ الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية بواسطة مجلس الدولة الفرنسي من خلال خلقه لقضاء مستقل . وقد مرت هذه المبادئ بمرحلتين من حيث قيمتها، إذ نجد المرحلة الثانية منذ دستور 1958 صدرت بموجب المادة 38 من الدستور الفرنسي تخضع لاحترام المبادئ العامة للقانون ، وبذلك يمكن رفعها فوق القانون. وقد عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر المبادئ العامة للقانون بأنها “قواعد غير مدونة مستقرة في ذهن وضمير الجماعة يعمل القاضي على كشفها بتفسير هذا الضمير الجماعي العام، وتلك القواعد المستقرة في الضمير تمليها العدالة المثلى ولا تحتاج إلى أن يقررها”، وبذلك تتميز المبادئ العامة للقانون عن المبادئ الدستورية بحيث إذا نص الدستور على مبدأ من المبادئ العامة للقانون وأصبح ذلك المبدأ دستوري مباشرة . ولا شك أن النص على المبادئ العامة للقانون في الدستور يقلل من فرص ظهورها في أحكام القضاء ورغم ذلك فإن القضاء الإداري الفرنسي ما زال يبني أحكامه على مخالفة هذه المبادئ للقانون وتكون هذه القواعد القانونية الغير مكتوبة في طائفتين طائفة متصلة بفكرة الحرية وطائفة متصلة بفكرة المساواة. أولا : المبادئ العامة المتصلة بفكرة الحرية أ- مبدأ احترام الحريات العامة يحمي القضاء الفرنسي الحريات العامة من تعسف سلطات الضبط الإداري، فحمى ، حرمة المسكن، وحرية الاجتماع حرية تكوين الجمعيات، حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية. ومن بين الحريات التي حماها بقوة القضاء الإداري الفرنسي نجد مبدأ حرية الصناعة والتجارة حيث شغل هذا المبدأ حيزا خاصة في القضاء الإداري الفرنسي، وقد استخلص القضاء الفرنسي هذا المبدأ من المادة 7 من قانون 14 مارس الذي وضع مبدأ أن النشاط المهني الخاص حر. ب- مبدأ حرية التجارة والصناعة أمام هذا المبدأ لا يمكن لسلطات الضبط الإداري أن تمنع النشاط المهني الخاص ولا تخصه لنظام الترخيص السابق، بل تستطيع تنظيم النشاط فقط، وبذلك أقر مجلس الدولة الفرنسي عدم شرعية قرارات الضبط الإداري المخالفة لهذا المبدأ فأقر عدم شرعية القرار الضبطي المانع لمهنة التصوير الفوتوغرافي. ثانيا : المبادئ المتصلة بفكرة المساواة يقيم القضاء الإداري الفرنسي قيمة كبيرة لهذه المبادئ المتصلة بفكرة المساواة ومن بين هذه المبادئ نجد: أ- مبدأ المساواة أمام القانون وقد طبق كثيرا هذا المبدأ في قرارات الضبط الإداري ورتب القضاء عدم شرعية القرارات المخالفة لهذا المبدأ، ومن بين أحكام القضاء الإداري الفرنسي عدم شرعية قرار ضبط اتخذه إحدى العمد بمنع المواكب والمظاهرات لممارسة شعائر العقيدة، لأن العمدة قد خالف مبدأ المساواة، مساواة المواكب الدينية ببقية المواكب والاستعراضات ( مجلس الدولة 4 ديسمبر )1927 ب- المساواة في استعمال المال العام طبق القضاء الإداري الفرنسي هذا المبدأ في عدة أحكام تخص قرارات الضبط الإداري وخصوصا المتعلقة بقرارات الضبط التي تنظم أماكن انتظار السيارات، فقد قضى بعدم الشرعية نتيجة للتمييز في المعاملة وكذلك بالنسبة لتراخيص استعمال الطرق. حجية الشيء المقضي فيه: تصدر الأحكام الإدارية مشمولة بصيغة تنفيذية ، بالرغم من هذه الصيغة فإن تنفيذ الأحكام الإدارية تثير عدة مشاكل ميدانية، باعتبار أن أحد أطراف التنفيذ هو الإدارة,شخص عام يتمتع بامتيازات السلطة العامة وبخاصة إذا كانت . محكوم عليها وبذلك تثار مسألة حجية الشيء المقضي فيه إذ برفض الإدارة تطبيق الحكم الحائز على حجية الشيء المقضي فيه، فإنها ترتكب مخالفة تعادل مخالفة القانون، ويجوز لصاحب المصلحة أن يرتكز على هذه المخالفة في رفع دعواه أمام القضاء وينجر على ذلك الطلب من القاضي بإلغاء جميع القرارات المتخذة بصورة مخالفة للحكم المنطوق به.في قرارات الضبط الإداري يكون المحل المخالف لحكم قضائي له حجية الشيء المقضي فيه غير شرعي، حيث نجد أن هذه الفكرة لم يضعها أي نص قانوني في القانون الفرنسي وبذلك يمكن وصفها بأنها مبدأ عام للقانون، وكذلك بسبب قدم هذه الفكرة وصفتها الضرورية والمنطقية. في قرارات الضبط الإداري فإن القاضي الإداري لا يتحقق من الوجود المادي للوقائع فقط، بل يتحقق كذلك من أن طبيعة الوقائع الثابتة تصلح لتبرير التصرف وفقا للشروط التي حددها القانون، إذن المشكلة في التكييف هي الإجابة على السؤال هل الوقائع الثابتة تعد إخلال أو تهديد بالنظام العام ؟ وطبعا فإن الإجابة على هذا السؤال لا تنسينا صعوبة التعريف بالنظام العام خاصة في جانبه الأدبي، والأمثلة على ذلك كثيرة فهل لمشاركة القصر في المراقص العامة لها طبيعة تخل بالأخلاق العامة.غير أن القاضي الإداري الفرنسي حل مشكلة التكييف بصفة نهائية ويسلم في الموضوع بقرينة تخلف الأسباب فيها مثل المسيرات الدينية، موكب جنائزي، مسيرة خاصة بعادة محلية، الصلاة الجماعية في مكان طلق، فمجلس الدولة هنا أقام قرينة على أن المسيرات الدينية لا تهدد السكينة العامة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن القضاء الإداري الفرنسي امتنع عن التكييف القانوني في بعض القرارات الضبطية واكتفى بالرقابة على الوجود المادي للوقائع فقط، ففي مجال الضبط العام استثنى الرقابة على التكييف القانوني في الضبط في مادة الأجانب وكذلك بالنسبة لتدابير المنع المتعلقة بدخول وتوزيع الجرائد والمجلات الأجنبية، أما مجال الضبط الخاص نجده قد امتنع عن التكييف في القرارات التي تتسم بطابع فني معقد يستلزم فيه الاستعانة بالخبراء ومن ثم التحقق من الوجود المادي للوقائع، دون التكييف القانوني. امتدت رقابة القضاء في كل من فرنسا ومصر في الرقابة على عنصر السبب لتشمل–إضافة إلى ما ذكر- فقضى مدى تناسب أهمية وخطورة الوقائع والإجراء المتخذ من قبل سلطة الضبط الإداري، وبذلك فإن عملية الرقابة تمتد إلى رقابة ملائمة القرار الذي اتخذته سلطة الضبط الإداري، وبذلك فإن عملية الرقابة تمتد إلى رقابة ملائمة القرار الذي اتخذته سلطة الضبط الاداري. فقد وجد مجلس الدولة الفرنسي أن رقابته التقليدية على سبب القرار الضبطي المتمثلة في رقابة الوجود المادي للوقائع وتكييفها القانوني غير كافية لمواجهة الخطورة التي قد تنجم عن القرارات المقيدة للحريات العامة لذلك مد نطاق رقابته إلى تقدير مدى ملائمة إصدار القرار حيث لا يكفي لإقرار شرعيته أن يكون قائما على سبب موجود ومتفق مع القانون، بل يجب أن يكون سبب هذا القرار متناسبا مع محله، وإلا كان هذا القرار غير مشروع. فالرقابة على القيمة الذاتية للأسباب تكتسب أهمية بالغة في تقرير شرعية قرارات الضبط الإداري فالتدبير الضبطي يستلزم أن يكون فعال وضروري ومتناسب مع الحالة الواقعية التي تريد سلطة الضبط مواجهتها، أي أن يكون الإجراء المتخذ كفيلا يتوقى الاضطراب أو الإخلال بالنظام العام. فمن غير المنطقي أن تواجه مسيرة أو تظاهرة سلمية انقلبت إلى أعمال شغب بسيطة لا تتعدى منطقة صغيرة يسهل السيطرة عليها باستخدام الأسلحة النارية فيعتبر هذا الإجراء غير متناسب مع القيمة الحقيقية للسبب أو الوقائع، فالسبب هو إخلال بسيط بالنظام العام وقرار التصدي لها كان قاسيا، في حين يمكن التصدي لذلك بطرق أخرى كاستخدام الهروات أو الغاز المسيل للدموع. إذا كانت جميع الأعمال الإدارية تستهدف تحقيق المصلحة العامة، فإنه إلى جانب هذا الهدف العام قد يتحدد العمل الإداري بهدف معين داخل نطاق المصلحة العامة، يتعين تحقيق هذا الهدف عملا لقاعدة تخصيص الأهداف، وبذلك يعتبر القرار الإداري مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة إذ خرج عن الغاية أو الهدف المخصص الذي رسم له . فالفرق بين الانحراف عن المصلحة العامة والانحراف عن قاعدة تخصيص الأهداف، أنه في حالة الانحراف عن مبدأ تخصيص الأهداف يكون صاحب القرار حسن النية لا يبغي إلا تحقيق الصالح العام ، ولكنه يستخدم من الوسائل ما لا يجوز لذلك. وقد يستخلص الهدف المخصص من روح التشريع أو طبيعة الاختصاص وبذلك فإن المشرع حدد لسلطات الضبط الإداري هدفا محددا وهو المحافظة على النظام العام، فإذا استعملت الإدارة سلطاتها في هذا الخصوص لغير هذا الهدف كان قرارها مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة حتى ولو كان الهدف لا يجانب المصلحة العامة. فقرار الضبط الإداري المتخذ لمصلحة عامة ولكنها أجنبية عن النظام العام ليس كافيا لسلطات الضبط الإداري لكي تأمن الانحراف بالسلطة إذ يجب أن يكون قرار الضبط من أجل الغرض الذي حدده القانون خصيصا، فقط أو إعادة النظام العام. هذه هي حالات الانحراف بالسلطة التي قد تصيب قرارات الضبط الإداري، فالملاحظ أن هذه الحالات حالات يغلب عليها طابع الغموض، ومن الصعب اكتشافها، خاصة إذا كانت تتعلق بالبواعث النفسية، ومن ثم فإنها تعقد مهمة القاضي في إثبات هذا الانحراف. إثبات الانحراف بالسلطة أمر بالغ الصعوبة بالنسبة للقاضي والمدعي على حد سواء، فالقاضي لا يمكنه التوصل بسهولة إلى ما يؤكد انحراف الإدارة بسلطتها، حيث أن هذا العيب ليس من العيوب الشكلية يسهل كشفها كما أنه ليس كعيب المحل والسبب بحيث يمكن استخلاصه بسهولة ولكنه على خلاف ذلك هو عيب شخصي يكمن في نوايا ومقاصد سلطة الضبط، وهنا تنبعث صعوبة إثباته، ويزيد من الصعوبة أن القاضي لا يحكم بالإلغاء استنادا إلى هذا العيب إلا إذا تأكد فعلا من وجود هذا الانحراف لما يترتب على القضاء به من خطورة تتمثل في المساس بهيبة مصدر القرار وتهديد الاحترام الواجب له . إن نقطة الضعف التي تلازم عيب الانحراف هي صعوبة إثباته ولقرارات الضبط الإداري خصوصيات فيه، وبذلك فإن سلطات القاضي في الكشف عن عيب الانحراف بالسلطة تحكمه حدود تتعلق بعيب إثبات عيب الانحراف، وأخرى تتعلق بوسائل البحث التي يستخدمها القاضي الإداري في عملية الكشف. فقد ربط الفكر الكنيسي بين النظام والسلطة، مما يعني أنه من أجل أن يكون النظام حقيقيا ومفضيا إلى السلم لابد أن تصحبه سلطة حاسمة تقوم على أساس من التجاوب بين الذين يأمرون والذين يطيعون ، وذلك باستعمال القوة التي توضع في خدمة القانون ؛ وزيادة ازدواجية هذا النظام ، كما أنه يعتبر عند الكنيسة ضبط ديني يقوم على العقيدة، وعند الأمراء ضبط على أساس السلطة ويقيد الحرية في آن واحد، وهكذا كان الحال حتى انهيار نظام الإقطاع وقيام الدولة الأوروبية. فعند قيام الدولة الأوروبية الحديثة في نهاية القرن الخامس عشر، ظهر الضبط الإداري بصورة إدارة تؤدي خدمات بانتظام للأفراد ، ففي هذه المرحلة تطورت وظيفة الدولة حيث بسطت سلطتها على جميع المجالات كتعبير عملي على المناداة بالسلطة المطلقة لسيادة الدولة اقتصاديا وسياسيا. وبظهور السلطة البوليسية في القرنين السادس والسابع عشر أصبح للدولة دور يتمثل في الرعاية وتحقيق الخير المشترك للأفراد ولوعن طريق الإكراه ، مما أدى إلى تدخل السلطة العامة في المجالات الخاصة للمواطنين وهو أمر بالغ الخطورة ، إذ لم يكن يحد هذا التدخل في البدء أي حد قانوني، ومن هنا كان المجهود القانوني الكبير منصب في إرساء إدارة للدولة مبنية على قواعد قانونية ثابتة عن طريق إخضاع بعض نشاط الإدارة (البوليسي) لحكم القانون . يتبين من كل ما سبق أن الضبط الإداري قد نشأ في ظل الحكم حتى أنه أدمج فيه لمدة طويلة، ورغم تميزه جزئيا عنه في مراحل لاحقة، إلا أنه ظل أداة من أدواته . وبعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789 تناقص مدلول الضبط الإداري كثيرا وعمد به إلى الهيئات المحلية، وهذا المدلول ترجمته المادة 51 من مرسوم 14 ديسمبر 1789 التي تعهد للهيئات المحلية أن تكفل للسكان مزايا ضبط حسن، خصوصا الملكية، الصحة، أمن الشوارع والأماكن والمباني العامة، كما تردد هذا المضمون أيضا المادة 16 من قانون 3 شباط السنة الرابعة إذ تنص هذه المادة على: (أن الضبط مقام من أجل النظام العام ،الحرية والأمن وخصوصيته الأساسية اليقظة والمجتمع كله موضوع عنايته ) ثم ازدادت أهمية الضبط الإداري أهمية بالغة نتيجة تزايد تدخل الإدارة في الكثير من المجالات بإدارة العديد من المرافق العامة في ظل ازدهار الفكر الاشتراكي وما ترتب عنه من تدخلالدولة، فانعكس هذا التدخل على حريات الأفراد مما ازداد في اتساع أفق الضبط الإداري كأداة لتدخل الدولة ، شأنه شأن المرفق العام وذلك للسيطرة على الأوضاع الاجتماعية وإشباع حاجات الأفراد وبعد أن زال عهد الاشتراكية وساد مفهوم الدولة القائم على أساس ديمقراطي ليبيرالي، بقيت الجهة الأساسية للضبط الإداري قائمة ومرتكزة على المحافظة على النظام العام بعناصره الثلاثة، الأمن العام، الصحة العامة و السكينة العامة، وهو ما خلق نوع من الجدل القائم على الموازنة بين حريات الأفراد في ظل التوجه الديمقراطي الليبرالي وأداء الدولة لمهامها في الحفاظ على النظام العام ، ويبرز هذا الجدل بشكل أقل في دول العالم الثالث التي ما زالت لم تظهر وجهتها بعد فهي من جهة تتبنى احترام الحريات العامة ومن جهة أخرى تضمن وتكفل النظام العام باستمراريته.الأفراد إزاء ما تطرحه الإدارة من حلول لتلك النزاعات، إذ أنه من مقتضيات العدالة ألا يكون الحكم. خصما في النزاع، وبذلك وجب أن يعهد حل هذا النوع من النزاع إلى القضاء . لقد عرفت الرقابة القضائية على نشاط الإدارة تطورات كبيرة وهامة في القوانين المقارنة وخاصة القانون الفرنسي، فوصلت إلى مستوى أصبح فيها النشاط الإداري موضوع تحت مجهر القضاء الإداري يراقب من خلاله شرعية هذا النشاط من خلال الوسائل المتاحة للأفراد للطعن في شرعية الأعمال الإدارية الخاضعة للرقابة القضائية، هذا بصفة عامة، وبصفة خاصة فرض القضاء على أعمال الضبط الإداري رقابة صارمة وهذا لسببين: -1 أن أعمال الضبط الإداري لها ارتباط وثيق بحريات الأفراد -2 تميز أعمال الضبط الإداري بطابع خاص يتمثل في تمتع سلطات الضبط الإداري بالسلطة التقديرية في اتخاذ قرارات الضبط الإداري. فلا ريب في أن أخطر وسائل الإدارة التي من شأنها المساس بالحريات العامة للأفراد، تتمثل في تدابير الضبط الإداري، ولا يخفف من هذه الخطورة خضوع تلك التدابير لمبدأ الشرعية، فلئن كان في تدابير الضبط الإداري، ولا يخفف من هذه الخطورة خضوع تلك التدابير لمبدأ الشرعية، فلئن كان صحيحا أنه لا يمكن القول بوجود حريات عامة إلا في الدول القانونية، وأن هذه هي أولى ضمانات الحريات العامة، إلا أن ذلك غير كافي لضمان هذه الحريات، ولا شك كذلك في أن الرقابة القضائية هي أقوى ضمانة لهذه الحريات في الدول التي لا يزال الرأي العام فيها في طور التكوين والمجلس التشريعي لا يباشر دوره الرقابي إزاء السلطة التنفيذية ، أي تستلزم كذلك وجود سلطة قضائية مستقلة من الجانب التشريعي لا يباشر دوره الرقابي إزاء السلطة التنفيذية ، أي تستلزم كذلك وجود سلطة قضائية مستقلة تباشر عملها من منطلق حماية حريات الأفراد وتضع الإدارة والفرد في نفس المستوى، ولا ينظر للإدارة على أساس أنها دائما صائبة، وبالتالي خلو ها من عدم التوازن في حل المنازعات التي تثور بين الإدارة والأفراد. إن تدابير الضبط الإداري لا تعدو أن تكون قرارات إدارية تتوفر فيها العناصر المكونة للقرار الإداري من اختصاص، شكل، سبب، محل، هدف، ومن ثم فإن القاضي الإداري يتولى فحص الإجراء الضبطي والتأكد من توافر الأسباب أو الظروف الواقعية والتي تمثل إخلالا جديا وحقيقيا بالنظام العام وبعدها يتحقق من أن الإجراء محل النزاع قد تم اتخاذه بهدف الحفاظ على النظام العام، وكذلك يتم البحث عن أن هذا الإجراء كان لازما وضروريا ومشروعا لتحقيق الهدف، وبذلك تشكل هذه العناصر أوجه الطعن في قرارات الضبط الإداري، حيث انتهى مجلس الدولة الفرنسي إلى تقسيم هذه الأوجه إلى طعون شرعية خارجية وتشمل عدم الاختصاص وعيب الشكل، المحل، السبب و الغاية. انطلاقا مما تقدم يتبين أن الرقابة القضائية على تدابير الضبط الإداري تكون أكثر فعالية بواسطة دعوى الإلغاء التي تكون مبنية على مخاصمة القرار الضبطي في أوجهه التي ذكرناها، ومن ثم يتم التحقق من شرعية تدابير الضبط الإداري من عدمها و بدرجة أقل يمكن تقرير شرعية هذه التدابير بواسطة دعوى تقدير المشروعية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهنا يبرز دور القاضي الإداري في حل هذا النزاع الذي يتميز عن النزاعات الأخرى التي تدخل في ولاية القضاء حيث أنه نزاع يرتكز أساس على ضرورة التوفيق بين حرية الأفراد المكفولة لهم قانونا، وضرورة المحافظة على النظام العام، وهنا تكمن براعة القاضي الإداري في حل هذه الإشكالية . إن القضاء يمارس الرقابة على تدابير الضبط الإداري، وبذلك فإن هذه الرقابة يكون مضمونها في عناصر القرار الإداري من اختصاص، شكل، محل، سبب وغاية، وعلى هذا الأساس تشكل هذه العناصر أوجه دعوى الإلغاء لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل قرارات الضبط الإداري تختلف عن القرارات الإدارية الأخرى لكي نميزها عن بقية القرارات القضائية؟ وقد أنقسم الفقه الفرنسي إلى رأين، رأي يرى أن قرارات الضبط الإداري ليست فيها ما يميزها عن بقية القرارات الإدارية الأخرى، ورأى أخر وهو الأرجح يقول أن قرارات الضبط الإداري تتميز عن غيرها، وعنصر التمييز يكمن في السبب. حيث أن السبب في قرارات الضبط الإداري يكمن في اضطراب النظام العام أو تحديدا له، وعلى هذا الأساس تتخذ قرارات الضبط من طرف السلطات المختصة بذلك، لكن تقدير هذا السبب لا يكون دائما صائبا، لأن عملية التقدير قد تتدخل فيها عدة عوامل تجعل قرار الضبط الإداري مبني على أسباب غير جدية أو غير حقيقية أو حتى وهمية هذا بالنسبة لتهديد النظام العام، أما بالنسبة للاضطرابات فقد يكون هذا الاضطراب غير موجب وليس من الداعي أمام هذا الاضطراب تدخل سلطات الضبط الإداري وخاصة عندما يكون التدبير الضبطي له طابع تنفيذي (قمعي). وقد يؤدي الخطأ في تقرير السبب إلى الخطأ في تقدير محل القرار الإداري.