بعد مضي 19 عاما على تحرير الشريط الحدودي الجنوبي من الاحتلال الإسرائيلي (25 أيار 2000)، باتت نتائج هذا التحرير وتداعياته الاستراتيجية والتاريخية، أكثر تألقاً. فالحديث عن محطة مفصلية في لحظة تشكلها يختلف جذرياً عن الحديث عنها بعد تبلور مفاعيلها وردود الفعل عليها. وكلما امتد الزمن الفاصل عن موعد أي محطة تاريخية، ترتفع معها امكانية خفوت الكثير من أبعادها ورسائلها المتصلة بسياقاتها والظروف المحيطة. إلا اذا بقي من يحرص على أن تبقى حاضرة في وعي الناس وادبياتهم. لكن خصوصية التحرير أنه شكّل ايضا محطة تأسيسية في حاضر لبنان ومستقبله، وغيّر مسار التاريخ في المنطقة. شكّل تحرير الاراضي اللبنانية المحتلة تتويجاً لمسار أسقط أهداف الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982، وساهم، مع انتصار العام 2006، في اعادة صياغة وعي قادة اسرائيل، لجهة إدراكهم حدود قوتها ونظرتها الى ذاتها والى الآخر المعادي. والاهم أنه ايضا أحدث تحولاً في نظرة اللبنانيين الى مقاومتهم التي غيرّت معادلات الصراع وواجهت بأقل الامكانات وأصعب الظروف، قوة اقليمية عظمى تشكل تهديدا وجوديا لهم.

تجاوزت مفاعيل التحرير من كونه اخراجا للاحتلال من مساحات جغرافية محددة، الى اخراج اسرائيل (بالمعنى المباشر) من المعادلة الداخلية في لبنان (تعزَّز هذا الجانب لاحقاً بانتصار العام 2006). ونجحت المقاومة في هذه المهمة بعدما حولت الاحتلال الى مشكلة داخلية اسرائيلية، تطور الى ضغط متصاعد على القيادة الاسرائيلية من أجل الخروج من المستنقع اللبناني.
لم يتبلور هذا الواقع، إلا بعد عدد من المحطات والمراحل والمواجهات المتعددة التكتيكات والاساليب. ومن أبرز ما تميز به حزب الله في هذا السياق، أنه أبدع تكتيكاً صاروخياً حوّل بموجبه الاحتلال لمنطقة الشريط الحدودي الى عبء على مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، بدلا من أن يكون حزاما أمنياً لها. ونجح من خلال فرض معادلة الصواريخ التي كانت تنهال على المستوطنات رداً على استهداف المدنيين والعمق اللبناني، إلى تحويلها الى قيد اضافي على صانع القرار السياسي والأمني. واضطرت القيادة الاسرائيلية، بعد فشل جيش الاحتلال في كسره (القيد) خلال عدواني 1993 و1996، إلى الالتزام بالمعادلات التي فرضها حزب الله. وهو ما وفر للمقاومة المظلة التي مكَّنتها من مواصلة عملياتها، وصولا الى تبلور قرار الانسحاب من لبنان.

تحول في وعي القادة الاسرائيليين
تميّزت مرحلة المقاومة ضد الاحتلال في منطقة الحزام الامني، بأكثر من بُعد، من ضمنها ضيق المساحة الجغرافية وطبيعة تضاريسها، وهو ما وفر الارضية لجيش العدو للاستفادة من هذه الميزة، بما يساهم في تقليص خسائره البشرية. في نفس الاطار، شكلت عصابات انطوان لحد أكياس رمل لجيش الاحتلال، وهو ما وفر عليه الكثير من الخسائر البشرية، الأمر الذي ساهم في اطالة امد الاحتلال. ومن مزايا الاراضي التي كانت محتلة أنها ملاصقة لحدود فلسطين، وهو ما اضفى عليها بعداً استراتيجيا اضافياً يتصل بالعمق الاسرائيلي. واستنادا الى هذه الخصوصية يمكن فهم منسوب التمسك الاسرائيلي باستمرار احتلال هذه المنطقة، والاصرار على عدم التخلي عنها من دون أثمان سياسية وأمنية كان العدو يراهن على انتزاعها من لبنان، الى أن اضطر للاندحار خائباً.
في ضوء هذه الخصوصيات لم يكن قرار الانسحاب من لبنان ليتبلور في تل ابيب إلا بعد تحولات داخلية جذرية في وعي صناع القرار في تل أبيب، وهو ما تطور تدريجياً، تحت ضغط المقاومة. ونجح حزب الله في تحقيق هذا الانجاز عبر إسقاط الرهان على الجمع بين الاحتلال والامن. ثم تطور هذا التحول الى «وعي جمعي» سلمت بموجبه اسرائيل بحدود قوتها، رغم ما تتمتع به من تفوق نوعي على المستويات التكنولوجية والعسكرية والدولية.

نجح حزب الله في تحقيق التحرير عبر إسقاط رهان العدوّ على الجمع بين الاحتلال والامن


استنادا الى هذه التحولات في وعي قادة العدو وجمهوره، نجحت مقاومة حزب الله في أن تسلبهم التلويح بخيار الاحتلال البري، وهو أهم رعب كان يسيطر على سكان لبنان لدى الحديث عن أي مواجهة مع كيان العدو. في المقابل، انتقل الرعب الى الداخل الاسرائيلي، وهو ما تم التعبير عنه على ألسنة النخبة الاسرائيلية بأشكال مختلفة، لدى طرح أي سيناريو ينطوي على فكرة اعادة احتلال اجزاء من لبنان. ومع تجذر التسليم بحدود قوة سلاح البر الاسرائيلي في مقابل مقاومة حزب الله، أقرت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية – بقلم النائب السابق رئيس الاركان، اللواء يائير غولان – بصورة صريحة ومباشرة، بعدم ثقة القيادة العليا بالجيش البري.
في المقابل، تعقَّدت مشكلة اسرائيل أكثر مع اتضاح حقيقة انه بعيدا عن البر، لا فرصة للحسم العسكري مع المقاومة، وهو ما أقر به الرئيس السابق لأركان جيش العدو غادي أيزنكوت للجمهور الاسرائيلي، عشية مناسبة رأس السنة العبرية، بأن «الانتصار في الحرب سيأتي حصراً عبر مناورة القوات البرية التي ستحتل الأرض وتهزم العدو».
هكذا وجدت اسرائيل نفسها أمام خيار جوي عقيم ومكلف جداً لعمقها الاستراتيجي، بفعل نجاح حزب الله في إبداع تحويل الجبهة الداخلية الى جبهة قتال حقيقية. وبحسب تعبير غولان «تنتظر الجبهةَ الداخلية سيناريوات لم تشهدها طوال تاريخها في كل الحروب التي خاضتها في مواجهة الجيوش العربية». وعلى المقلب الآخر، هي أمام خيار بَرّي متعذر – ومن دونه لا يوجد حسم عسكري – بعدما أدركت أنه مكلف الى المستوى الذي ترى فيه قيادة حزب الله فرصة لتدمير سلاحي المدرعات والمشاة في جيش العدو.

بديل استراتيجي
لم يكن تحرير العام 2000 انتصارا للبنان وحده. بل كان انتصارا ايضا لفلسطين والشعوب العربية. فقد قدمت المقاومة في لبنان ابداعاً ناجعاً في مواجهة تفوق الاحتلال على كافة المستويات، من موقع التجربة المدوية في نجاحها. وأثبتت أن بالامكان الانتصار عليه من دون انتظار استراتيجية عربية مشتركة، المطلوبة بدورها في كل حين على قاعدة التحرير. وأظهرت أن لدى الشعوب العربية خياراتها البديلة عن التسليم بالوقائع التي فرضها الاحتلال، وهو ما يُفسر محاولات تطويق حزب الله في لبنان، ومعه المقاومة في فلسطين، وتشويه صورتها «منعاً لاستكمال انتشار العدوى» القادرة على اعادة صناعة التاريخ بالاتجاه المعاكس لما تدفع نحوه الولايات المتحدة والعدو الاسرائيلي.