السيمر / فيينا / الاحد 21 . 07 . 2019
د . لبيب قمحاوي / الأردن
هنالك فرق كبير بين إستعادة الدولة الأردنية لعزيمتها أو إستعادتها لعافيتها . فالعافية عادة ما ترافق الصحة ، في حين أن العزيمة ترافق نزعة اللجوء إلى القهر أو القوة أو الإستبداد . ومن الواضح أن إستعادة العزيمة تؤشر إلى نوايا إعادة تأكيد وتكريس مسار فَرْض إرادة الحكم من خلال الدولة المستبدة دون الشعور بالحاجة إلى تغيير مسارها وإصلاح نهجها . تزداد مؤخراً المؤشرات على عزم الدولة الأردنية على إثبات وجودها في مجالات مختلفة وعلى مستويات متعدده ، ومنها مثلاً فرض سياسات وإستعمال أساليب رفضها الشعب . إن نهج الدولة في محاولة إستعادة هيبتها المفقودة وإثبات وجودها يجب أن لا يكون ذريعة أو مدخلاً لمزيد من التعدي على الحقوق الدستورية والديموقراطية للمواطن الأردني ، أو أن يكون مدخلاً إضافياً لتعزيز مسار تَغَوُّل الدولة وأجهزتها الأمنية على مواطنيها تحت حجة وذريعة تعزيز سلطة الدولة وفرض هيبتها على مواطنيها . يتساءل الأردنيون فيما إذا كانت الدولة في خدمة الشعب أم أن الشعب في خدمة الدولة ؟ وفي المقابل هنالك اعداد متزايدة من الأردنيين الذين يتساءلون فيما إذا كان الحاكم في خدمة الشعب والدولة أم أن الشعب والدولة في خدمة الحاكم ؟ أسئلة مباشرة وبسيطة ولكنها تعكس عمق الأزمة التي يعيشها الأردن والأردنيون . وإذا كان هنالك مَنْ يرى بأن للدولة حقوقاً على الشعب ، فأين حقوق الشعب على الدولة ؟ هل الأولوية أن يُمَول الشعب الحكومة أم أن تخدم الحكومة الشعب ؟ وإذا كانت المحكمة الدستورية إمتداداً للحكم ، فمن يحمي الشعب من التغول الحكومي على حقوقه الدستورية ؟ أين حق المواطن ومقدرته على مقاضاة الدولة إذا تعسفت أو أساءت أو قَصَّرت في حقه ؟ وعلى أية حال فإن الوضع الحالي في الأردن يشير إلى أن الشعب في خدمة الدولة حتى ولو قَصَّرت في واجباتها تجاهه ، وهي سمة الدولة المستبدة الظالمة ، وهو واقع الحال الذي يعيشه الأردنيون الآن . ما يجري مؤخراً في الأردن هو أقرب ما يكون إلى عملية إعادة طلاء الدولة الأردنية لإخفاء ما علق بها من عيوب وشوائب ، وهي كثيرة . إن هذا لا يعني أن التغيير قادم وأن الأردن بصدد تغيير في الجوهر والنهج وهو المطلوب فعلياً وجماهيرياً، بقدر ما يعني الإيحاء بوجود مثل ذلك التغيير فقط . طالما شعر المواطن الأردني أن الحكومة نفسها ومؤسسات الدولة هي خصم له في قوت يومه من خلال سياسات الحكومة الجبائية الجائرة دون رحمة ، وأن الدولة تكيل الأمور بموازين مختلفة عند معالجتها لنفس القضايا والحقوق والجرائم ، مما يعني أن الأمل في عودة الأمور إلى سابق عهدها عندما كانت الدولة دستورية في مسارها يكاد يكون أمراً شبه مستحيل . فعصا الدولة الأمنية الغليظة ليست بديلاً عن الضوابط الدستورية والحقوق الديموقراطية ولن تكون أبداً بديلاً عنها . والحكم في سعيه لإجراء عمليات تجميل لنفسه ولنهجه وأدواته لن ينجح في الإدعاء بأن هنالك فعلاً تغييراً في نهج الحكم وأدواته. فمثلاً لا يجوزأن يكون نهج مكافحة الفساد نهجاً إنتقائياً وإلا فَقَدَ مصداقيته وأصبح مدخلاً لفساد من نوع آخر . وفي حين أن أحداً لا يريد التقليل من إنجاز هيئات مكافحة الفساد ، إلا أن تصحيح المسار يبقى أمراً مطلوباً . ما يثير شكوك الأردنيين الآن هو التناقض الواضح في مسار الحكم . فسياسة إضعاف الدولة وهيبتها ومؤسساتها الدستورية كانت سياسة الحكم غير المعلنة وكانت على ما يبدو تهدف لخدمة مرحلة ما . والمحاولات التي تجري الآن وبأسلوب أمني وليس قانوني ودستوري ، لإعادة تلك الهيبة المفقودة تبدو وكأنها تمهيداً لخدمة مرحلة أخرى جديدة . لماذا تم العمل على إضعاف الدولة سابقاً ويجري العمل الآن على محاولة إستعادة عزيمتها وهيبتها ؟ ما الذي حدث حقيقة واستوجب كل ذلك ؟ يميل العديد من الأردنيين إلى ربط ذلك المسار المتناقض باستحقاقات خارجية سوف تُفرض على الدولة الأردنية وتتطلب مساحات سياسية تسمح للحكم الأردني بالتحرك في إتجاهات تتناغم مع ما هو مطلوب منه . والحديث هنا يشير بشكل أساسي إلى محاولات أمريكا وإسرائيل وبعض الدول العربية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الفلسطينيين والأردنيين وفلسطين والأردن . وموضوع قوة الدولة الأردنية أو ضعفها ، مع أنه أمر داخلي ، إلا أنه مرتبط بطريقة أو بأخرى بسياسات إقليمية وأوامر ورغبات خارجية تُريد إستعمال إما ضعف الدولة الأردنية أو قوتها ، أو كلا الأمرين في مراحل مختلفة ، لتمرير سياسات مرسومة في الخارج وسيتم فرضها على الأردن وفلسطين لصالح الصهيونية . وهكذا يحق للأردنيين أن يتساءلوا فيما إذا كان واقعهم السيء ومستقبلهم الغامض مرتبطين بما هو مطلوب من الأردن القيام به على مستوى المخططات الأمريكية – الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية . وفي هذا السياق فإن المطلوب لم يعد يُرَكز على القبول العلني بصفقة القرن بعد أن تم تنفيذها فعلاً على أرض الواقع ، بل التعامل مع ذيولها ونتائجها خدمة للمشروع الصهيوني دون الحاجة لأخذ موقف علني برفض تلك الصفقة أو قبولها ، وبالتالي لا داعي للأردنيين لإنتظار مثل ذلك الموقف أو تعليق آمال النجاة عليه . إن مخططات تصفية القضية الفلسطينية على حساب فلسطين والأردن تتلازم مع محاولات واضحة للبعض لإعادة تقديم وطرح شعارات قديمة بالية تمهيداً لشرذمة وتفتيت المجتمع الأردني وخلق مبررات زائفة لتبرير ذلك المسار . إن تقسيم الأردن طولاً وعرضاً ثم عرضاً وطولاً لا يخدم إلا مخططات أعداء الأردن . فالعشائرية والطائفية والمذهبية والعرقية وغيرها من الظواهر قد تصبح وبالاً على الوطن إذا ما تم تسخيرها وإساءة إستعمالها لغايات تخدم النظام وسياساته عوضاً عن خدمة الوطن . فالعشائرية مثلاً هي جزء من تراث البلد وواقعه ولكن إستعمالها كأداة سياسية لخدمة أهداف وسياسات محددة للنظام تعني أن أي تغيير في سياسات النظام قد تؤدي إلى تغيير في موقف الحكم من العشائر ، وهذا ما نشهده حالياً . والطائفية هي ظاهرة سلبية لم يعرفها الأردن سابقاً والسكوت عليها أو السماح بها لغايات التلاعب بالطوائف وبالعواطف الدينية لأسباب سياسية هي سياسة أقرب ما تكون إلى اللعب بالنار في أجواء متفجرة . وتمزيق الشعب إلى أصول ومنابت يهدف إلى خلق فتنة لن تفيد أحداَ سوى دعم سياسات خرقاء أو حماية منافع صغيرة قد تفيد البعض ولكنها بالنتيجة تضر بالمجموع . الأردن مِلكٌ لأبنائه على إختلاف أصولهم ومشاربهم ودياناتهم دون أي تمييز . فالأخطار واحدة لن تميز ، عند حدوثها ، بين هذا وذاك . والبحث في أصول المواطنين الأردنيين لغايات سياسية أو لمكاسب أنانية مرحلية أمر يتناقض ومصلحة الوطن الأردني بشكل مباشر . الأردني أردني سواء أكانت أصوله شامية أو فلسطينية أو شركسية أو عراقية إلخ ، والتلاعب بتلك الحقيقة أمر سيؤدي إلى تفتيت المجتمع الأردني وخلق نمط من الصراعات التي لن يكسب منها أحد شيئاً بينما خسارتها مضمونة للجميع وعلى الجميع . البحث في الأصول وعن الأصول أمر يتعارض والدستور وحق المواطنة وسوف يؤدي إلى تفكيك المجتمع وخلط أوراقه وقلب أولوياته بشكل سيؤدي بالتأكيد إما إلى تمزيق وإضعاف الجبهة الداخلية في الأردن إلى حد الخطر ، أو إلى دفع المواطنيين لإتخاذ مواقف متناقضة تجاه نفس القضايا مما سيؤدي بالتالي إلى إستقطاب سلبي لن يفيد أحداً سوى المخططات الصهيونية ونواياها السيئة تجاه فلسطين والأردن . وبالنتيجة فإن جميع الأردنيين سوف يخسروا ويدفعوا الثمن غالياً بغض النظر عن أصولهم . فالنار سوف تأكل الجميع دون أن تسألهم عن أصولهم . إن الرد الحقيقي على محاولات تفتيت المجتمع الأردني من خلال تلك الدعوات الإقليمية العنصرية المشبوهة لا يمكن أن يتم إلا من خلال رفع شعار ” كلنا في الأردن أردنيون” . أما أصحاب الجنسية الفلسطينية من الفلسطينيين ، سواء أكانوا في فلسطين أو في الأردن أو في أي بلد آخر ، فهم فلسطينيون وسيبقوا كذلك ويجب أن يبقوا كذلك . وبخلاف ذلك تصبح أي دعوة أخرى في هذا السياق مشبوهة يجب إيقافها ووضع حد لها خصوصاً إذا كانت تهدف إلى خلط الأوراق والمصطلحات بشكل خاطئ ومقصود يؤدي إلى إفتعال مبررات زائفة لتصنيف المواطنين الأردنيين تمهيداً لتفتيت المجتمع وشرذمته وجعل الوطن لقمة سائغة للأعداء .
*مفكر عربي
21 . 07 . 2019