السيمر / فيينا / الاثنين 28 . 10 . 2019
مصطفى منيغ
الخذلان شعار مُعْدَمِ الحيلة ، والسَندان ليس له بالخنوع صلة ، إحساس وجماد موضوعان في نفس السلَّة ، متى غاب التمييز بين الكثرة والقلة ، ومقارنة الإبرة بالمَسَلَّة ، عند البحث بالسياسة عن المُهلة ، لإيقاف مثل المهزلة ، الجاعلة شعباً راضخاً لمذلَّة ، تتآكل حقوقه من سنين غير قليلة ، نخشى أن نصْبِحَ يوماً ولم تبقى منه إلا قِلََّّة ، لها ولها ولها بتكرار يُنْهِي قوانين دولة ، فيُسْتَبْدَلُ ركوب الدواب بركوب ظُهْرَانِ مَن كانوا بالأمس بشراً فأصبحوا وَسيلة ، لاستمرار رواد الفساد يكسبون بين نهار وليلة ، الملايين تؤَهِّلُهُم لإبقاء الحال كما هو لعهود استثنائية أخرى طويلة ، فلا نفعت صحوة بما ردَّدَت على لسان معتنقيها قائلة ، بتكسير القيود وفك عُقدة الخوف وتَبْدِيل الدوائر بأشكال مستطيلة ، ولا نجحت أضواء شموع في الصمود لحرارة مفرطة عليها مُقبلة . والحَلّ مَتروك ككل مرَّة لالتحام فاضِل بفَضِيلة، ساعة العزيمة عن الخذلان مُسْتَقِلَّة ، والسِّنْدان مستعد لضربات مطرقة بإرادة كاملة .
… القصر الكبير على جباه الأزمنة دَقَّ رَمزَهُ ، شيخاً وقوراً انفرًدً بالمجدِ حَيْزُه ، قبل النتيجة وبعدها ساحق هو فوزُه ، الوافدون على أهله نوعان أحدهما لعفته وعلمه وأخلاقه لا يمكن تجاوزه ، وثانهما لعفونته وعِلَلِهِ وأَسْلاَقِه يَتِمّ للإِبْعَادِ فَرْزُه .
————————–
قريبا من الفندق وجدتُ الأستاذة ازابيل تنتظرني داخل سيارتها الفاخرة فتوسَّمتُ أمراً جللا يُدَبَّر لإبعادي عن العزيزة كارمين ثمرة التين لأطول مدة ممكنة عسى أن ينتقل اهتمامي بها لمن كل خطوة أخطوها في اتجاهها أحسُّ أنني مقبل على ارتكاب خطيئة لن أستطيع التخلص منها خاصة والمرأة مسموعة الكلمة نفوذها يصل لتحريك ما ينغص حياتي إن تشبثتُ بمواقفي المبدئية ، ولقد كانت كارمين مُحقة حينما تتبّعت أثأري لتخرجني من بيت صديقتها ازابيل يوم الأحد الفارط ، فتمنيتُ أن تظهر فجأة وتَحُولُ بيني وذاك المجهول الذي يجذبني لأدْخله ضحية مغامرةٍ هو أدرى بها ، لكن الواقع ترجم ما حصل و ازابيل خارج السيارة تستقبلني مُظهرة لهفة تعوَّدتُ عليها ولا مناص من تقبُّلها تمشياً مع طبيعة المجتمع في هذا البلد الذي مهما أقمتُ فيه أبقى غريباً عنه ، طلبت مني الركوب بجانبها دون الإفصاح عن الوِجْهَةِ التي قررت الوقوف عندها ، سايرتُها فيما طلبت وانطلقنا دون مبادلة الكلام إلى أن وصلنا بعد ساعة زمنية قرية فلاحية لأجد نفسي داخل ضيعة واسعة المساحة يتوسطها بيت يُشَم منه رائحة الارستقراطية المتمكنة من حالها بما يضعون أنفسهم في خدمة المنتسبين إليها في هدوء مُبرمج وفق تعاقد يَطَّلِع كل طرف بمسؤولياته في نظام وانتظام ، شعرتُ بها و ازابيل تقدمني لوالدتها المستقبلة إياي بابتسامة عريضة صادرة من القلب تيقنتُ معها أن المرأة كانت على علم بمثل الزيارة بل مهيأة لها بأتمِّ ما يلزم . أشارت ازابيل لإحدى الخادمات بإحضار الحقبتين من السيارة والتوجه بهما لمكان معلوم مُسبقاً لديها ، بينما التحقت الأم بالمطبخ قصد الإشراف المباشر على طعام عشاء يليق بالمناسبة التي لا زالت في طي الكتمان بالنسبة إلي ، ولم أخرج من دوامة الأسئلة المُختمرة في ذهني إلا ويد ازابيل تمسك بيدي لنتسلق السلم الرخامي المفروش بسجاد غالي أخضر الملتصق درجا درجا بأعواد صلبة مدهونة بلون الذهب الموصل للطابق الأول المتفرع لمسلكين أخذنا الواقع على اليمين لنلجَ غرفة نوم مجهزة بما يوحي إمكانيات أصحابها المادية وأن الأسرة مؤمنة نفسها عن الفقر بما لا يستطيع التقرب منها مهما حاول ولقرن أو يزيد ، بغثة سألتها إن كنا سنعود من حيث أتينا ؟، فأوأمت بالنفي لتشرح أكثر: “سنقضى هنا عطلة آخر الأسبوع ، ما تبَقَّى من يومنا السبت هذا وكل الأحد و يوم الاثنين ستكون في شُغلك َساعة البدء بالضبط . قلت لها: “لم أحضر معي أي شيء أخَذتَني بملابس العمل” ، أجابت : “لقد فكرت في ذلك فأقدمتُ على إحضار ما يلزمك” . واتجهت نحو الحقيبة المتوسطة الحجم وقدمتها لي قائلة : “هي لك بكل ما فيها . الآن أترككَ لتأخذَ حماماً ساخناَ وتُغيِّر ملابسك . الخادمة ستطلعكَ على كيفية التعامل مع آليات الغرفة بما فيها الحمام، إن احتجتَ أي شيء طالِبْها بإحضاره لك فوراً ، تذَكَّر أنكَ في بيتكَ مهما كنتَ هنا عند والدتي بالضيعة أو عندي في برشلونة . بعد خروج الخادمة التي لم تجد أي صعوبة لأتعامل مع التجهيزات كلها ، فتحتُ الحقيبة لأجد ملابس داخلية وبذلتين كاملتين ، المهم ما يُقَرِّبُ مظهري إلى الوالدة الارستقراطية وإن بدت لي أنها جد متواضعة .
… بعد العشاء انتقلنا لصالون ندردش ونحن نشرب القهوة المحضرة من البن الأمريكي الجنوبي المستورد القادر على ابتياعه أصحاب الدخل المحترم. عكس ساعة العشاء فُتِحت شهية السيدة الوالدة للكلام المركز الراغبة صاحبته معرفة العلاقة بيني وابنتها وصلت لأي حد، سبقت ازابيل للحديث من أجل إعطائي فرصة استحضار ما يُقنع والدتها كأفكار تَبني عليها ما يؤكد أننا على القاعدة الصلبة نقف كبداية موفقة لنهاية سعيدة ، حيث قالت :” تعلمين أُمَّاه أن السيد من طينة أخرى أرضها شمال إفريقيا ، من المغرب تحديداً ، أراد الالتحاق بدولتنا اسبانيا مجربا حظه بعدما خذله وطنه للحالة التي يعيشها الأخير بين صراعات جعلت من النظام التدخل بقوة سحقا لكل طامع للسلطة تحت مظلة الدفاع عن حقوق الشعب في حكم نفسه بنفسه ، الشيء الذي أثر سلبا على مجالات متعددة منها العناية بالشباب وفتح ما يضمن له الاستقرار كالشغل العمود الفقري لكل نهضة كما تعلمين، ٌقاطعتها الوالدة: ” وماذا بعد ؟ ، أتمنَّى سماع صوت الضيف المحترم الذي لا أشك لحظة أنه فهم انشغالي بموضوع يخصني كأسرة أعملُ ما استطعت لتبقى متماسكة بعيدة عن المشاكل” .
لم أتركها تنتظر بل خاطبتها مباشرة : “قبل كل شيء أشكر لك سيدتي حسن الاستقبال الذي شعرت به ومعه أنني وسط أهلي ، حدسي طمأنني منذ الوهلة التي تشرفت بمعرفتك ، بل شجعني لمبادلتك نفس الانشغال بالنظر لما تتمتع به أسرتك الكريمة من ماضي عريق مكنها من الفوز باحترام ما جعلتم الأقدار حولها يتمتعون بجزء من خيراتها كعمال في حقل الزراعة لا يذهب عرقهم هباء بل تترجم رواتب مستحقة مدفوعة من طرفها بما يُرضي الضمير قبل أي شيء آخر ، لذا كل ما يتعلق بهذه الأسرة من المفروض أن يشبهها احتراما وجدية ومعرفة دقيقة لحدوده ، لقد نفذت بصيرتي لكل ما يشكل ملامح محياك فاستطعت التوصل لا أقول لعمق شخصيتك وإنما للسطح وبه اكتفيتُ لأتيقَّن أن الكآبة والحزن المتسلِّلَ لروحك المرحة لسبب وجيه مستمر لسنوات مُصْطَدِمٌ مع عزيمة موروثَة لا تلين أمام أي عقبة من العقبات بل تتجاوزها بالتفكير غير المنقطع في الإنتاج المُطوِّر للدخل أساس الإزهار الضامن استقرار الأسرة بمن حضر منها أو غاب على أمل العودة من جديد ، فبدا سنك يتراجع للخلف حافظا على شبابك غير معترف بمرور الزمن مسرعا بل بتوقيت يتعامل مع حياتك بتؤدة جاعلا منك ريحانة مطبوع شذاها بطابع هذا البيت المجهز بمجازك المحافظ على رونقه وأنت طفلة تنقشين فوق ذهنك الطري رسم كل زاوية من زواياه ، فشدنى إليك سيدتي المحترمة ، ما تجدينه من وقت بالرغم من مشاغلك الكبيرة والكثيرة دون مشارتك أحد ، للاهتمام بابنتك ازابيل بالرغم مما وصلت إليه من شخصية لا تقل عن شخصيتك نبوغا وكفاءة فكرية ، ومن مستوي تعليمي كأستاذة جامعية تُدَرِّسُ القانون العام وهي مَرٍتَبَةٌ تُدركُ معها جيداً وبالقانون ما لها وما عليها ، ومع ذلك منشغلة أنتِ بما قد تَقْدِمُ عليه دون اللجوء لتجربتك كي لا يتكرر معها ما تكرر معك ، إنني أمامك سيدتي إن أردتُ المقارنة بين إنسان بسيط غريب يتحسَّسُ مستقبله بصعوبة ، وامرأة عظيمة شَرَّفته بإجراء مثل المناقشة التي ستبقى نبراساً ينير لي صور المتواضعين الأجلاء الذين قابلتهم في حياتي وأنتِ طليعتهم” .
قفزت بغير شعور من مكانها لتعانقني بشدة أمام ذهول ابنتها ازابيل لتمتزج دموعها بدموعي كخلاصة حديث نابع من القلب في اتجاه قلب تأثر بما نقله إليه العقل .