السيمر / فيينا / السبت 04 . 07 . 2020
هاتف بشبوش/شاعر وناقد عراقي
وتستمر شاعرتنا في مسيرتها مع الفقد والتيتم وماشاكله بهذا المنحى المؤلم :
زمنٌ وكابوسٌ
وهذا الموتُ يخطو
بينَ اوردةِ الدروبِ
ويقرعُ الأبوابَ
يُفزِعُها
وينشرُ لوعةَ اليُتمِ
هذا الردى يمشي على قدمينِ
تحتَ العينِ
يُوقِظُ الأحزانَ
حتى فوقَ راحاتِ الموائدِ
الحرب الأخيرة إنداحت على كاهل الشاعرة سميا ولم لا فهي إبنتها ومنها ولذلك نراها توصف لنا هذه الحروب بأنها على قلقها ضفة أوجاع ، وصفحات لاتستجدي غير الأمان ، لاتخلّف غير اليتم المهول والفقد المريع كما حال أخيها أعلاه . ولذلك في الفلم الدرامي المبكي ( ليون Lion ) ، الذي حاز على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم ، تمثيل ( نيكول كيدمانNicol Kidman ) مع الشاب( ديف باتل Dev Batel (نرى نيكول قررت هي وزوجها عدم الإنجاب رغم كونهما ليسا عقيمين إنطلاقاً من أنّ العالم مليء بالناس والأطفال ويزداد يوما فيوما وفكرة التبني لطفل يتيم هي الأفضل لمساعدة الأيتام الآخرين باعطائهم فرصة للحياة وتعويضهم عن آبائهم الذين فقدوهم في الحروب أو الأزمات الإقتصادية . ولذلك نرى سميا ذات الحس الوطني في ديوانها ( رقص على إيقاع المطر) كانت بارعة في إنثيالها التي توفقت به بشكل مبهر حين تتأرجح بين حاء الترجي ونقطة الباء فياليت بديل الحرب يكون حبا أبديا وهوية لهذا العالم الذي بات لايطاق في هذا الصدد كما البوح الناري هذا :
حرفان من ماء التهجد
على قارعة الروح
تبللني حاء الترجي فألوذ بنقطة الباء
أصرخ يا نار كوني نارا
فما بيننا ليس ملحا فائضا
من بحره على جرح الرمل
وأنا أقرأ لسميا أشعر وكأن ذاكرتي ترحل الى العظيم اليوناني ( كزانتزاكيس ) حين يقول ( الشعر هو الملح الذي يحول دون تفسح العالم ) ، الى حديقة الأمازون حيث تشكيل الكلمات كما الأزاهير الملوّنة . في كل مرة أرى منها أصيصاً له لونه الذي يختلف عن الآخر في كل شيء في الشذى في التفتح في مدى حبه للشمس و أفيائها ، رائق ومتشعب ومهما دام واستدام فلا أشم غير عبيره المنثور على كل أرجاء الشعر وعشاقه . كل هذه الأيقونات مزروعة في لب حشاها . بل هي جذورها الضاربة في العميق وفينا نحن الذين مازالت عيوننا على دروب الإدراك وكسب المنفعة لأرواحنا وذواتنا ، نعيش بإبداعها وبها ، ننحني لها كإمرأة في مهب أعاصير الشرق وتقاليده البائسة فتطول قاماتنا ، ويتوجب علينا أن نقول لها ماقاله المثل الإيطالي ( البيت لايؤسس على الأرض بل على المرأة ) .
الحب لدى سميا يتخذ عدة مناحي ، ومنه حب الجمال والطبيعة والبحارالتي تجول بنا الى عوالم المجاهيل وعباب الأهوال والمتاهات مثلما نراها في صباحها البحري :
آهٍ .. یا بَحَرَ بانیاسَ!
كیفَ تسكنُ فینا
حینَ یَستبِدُّ بنا الیأسُ.
صباحُكِ بَحْريٌّ!
بالسِّرِّ یَهْذي.
یَنهَضُ النَّهارُ على عُكَّازیهِ
وَهوَ یُنادي:
یا سَادةُ! القَهوةُ سَادةْ!
وفي مقامِ آخر لها عن هذا المدى المائي اللامتناهي تقول :
غنى لها الموج واحتارت بها السحبُ
بنياس يا دهشة بالعطر تُكتَتَبُ
من هنا نستدل انّ سميا ابنة الساحل البانياسي مع المشاعر التي تظهر جيّاشة بدون تهويل وتضخيم ، فهي شاخصة أمامنا كشاعرة أينما كانت وتكون ، عاشقة لبحر بانياس و لخلودها بكأس الحتف والفناء القسري ، ولم لا فأدباءٌ عظام إفتتنوا بالبحر بطرقٍ أخرى كما ( آرنست همنغواي) وروايته الشهيرة ( الشيخ والبحر) التي تلاقفها الفن السابع في القرن العشرين لإنتاج فلمٍ هرائيٍ خلاب . أو النهاية الروماننتيكية للحبيبين في فيلم الحب في زمن الكوليرا رائعة (غارسيا ماركيز) وهم على مركبٍ سكران في منتصف البحر وهم غارقون في عصارة الحب المتبقي مع الغناء الجميل للمغنية الشهيرة شكيرا . لذلك نرى سميا قد تماهت مع زرقة الشطّ والماء في زورتها للعراق في مهرجان المربد وهي تناغي روح الشاعر الشهير والمجدّد ( بدر شاكر السياب) :
عَلَى ضِفَّةِ الشَّطِّ
خاطَبَني الماءُ
بَينَ مُويجَةِ شَوقٍ، ورشَّةِ عِطرٍ
وكانتْ مَلامِحُ (بَدرٍ)عَلَيهْ
وكانتْ تَفوحُ القَصائدُ
من مُقلَتَيهْ علَى ظَمأٍ
في رَسائِلِ حُبٍّ
لـ(بَصرتِهِ)
في حَنينِ الرَّحيلِ
وعِطرِ الإِيابِ
بُويبُ بُويبْ..
أَيعلمُ (بدرٌ) بأنَّ الضُّلوعَ الَّتي
كوَّنتْها قصائدُهُ
أَلهمتْ كُلَّ نَهرٍ
يَتوقُ إلى الجَرَيانِ
.
المفاهيم لدى سميا راسخة كرسوخ ضوء القمر فوق سطح بحر هائج ، سميا ثروة هائلة من التشبيهات الشعرية ، انها الأهوال ، فهل هو السحر في فن الكتابة ، هل هو المعنى ، أم التشكيلة الرائعة لسطوره ، أم البنية ، أم الموسيقى التي تنداح أثناء قراءة نصوصها ، أم الحب الذي ينبعث وكأنه السيل الجارف الذي لانستطيع مقاومته ، أم الهدفية الصافية لدى شخصها وشعرها على السواء . الكثيرون من الشعراء يسوقون أنفسهم على أنهم علمانيون أو يساريون ، لكننا لم نجد مايشير الى ذلك في تصرفاتهم وأشعارهم. إنهم أصحاب أقنعة متنوعة لاتستطيع أن تؤسس لشعر هدفي خالص كما أيام زمان والشعراء الرموز الذين بقوا في الذاكرة أمثال مظفر النواب ، وسعدي يوسف ، وأدونيس الذي أعلنها قبل أيام أمام الملأ وقال ( إني لستُ متديناً ) . الشاعرة سميا توزعت أشواطها بين رثاء الأخ ومديح الوطن وعشقها للبحر والشعر المتمثل في نصها هذا الباهر عن بدر شاكر السياب . تتداعى سميا مرة أو مراراً ، لكنها الحياة حينما تلعبُ بنا على الحبلين ، وما حيلةٌ لقلب الشاعر سوى أن يقوم بالتفريغ للشحنة القاسية التي قد تصدأُ في شريانه الأبهر .
الشاعرة سميا مثلما تمتلك روحاً وطنية تنشد بها لوطنها السوري ، نراها تمتلك روحاً والهة أخرى ولذلك نراها بين إستراحةٍ وأخرى تعود كي تنشد لهذا الصرح الروحي بكل شقشقياته :
حين قبلت أصابعك الخمسة
وباطن كفك
وهبتك صفة القدسيه …
فلا تكرر لمس الاخطاء
(المرأة تسامحُ أحيانا من ينتهز الفرصة لكنها لاتسامح أبدا من يضيّعها .. شارل موريس) .
النساء نوعان إحداهما شوكولاتة والأخرى رصاصة فأيتهما تعجبك فالطريقة الصفيقة لاتنفع في التعامل معهن وعلى وجه الخصوص إذاما ثبتت في القلب منها محبة /كما ثبتت في الراحتين الاصابعُ . تطربنا النساء بأغانيهن الهادرة فعلينا أن نستمع ولو بشطرٍ من زماننا الى الحناجر الشيفعة والشفيقة بذات الوقت :
انا في عشقك غنيت فدع
كل شيء واستمع ذاك الغِنا
إعطني الناي وغني / فالغنا سر الوجود/ وأنين الناي يبقى / بعد ان يفنى الوجود ، هذا (جبران خليل جبران) شيخ الأسى والأنين ، أكلما مرت به وخزة ألم وارهاصة عصية راح يغني . فهنا سميا راحت ترتل بين يدي الله هذه الأغنية الصوفية التي تنجيها من رهبة الوجع الساكن في سريرتها . إذاً هي المرتلة للرومانس على الدوام :
بينَ الــــــــحبِّ
وبينَ الفجرِ
عـــــــطرُ النغمِ
ونغمُ العطرِ
يعزفُ عزفَ جــــــداولِ ماءِ
الى اخر بيت في القصيد …
يا صـــــوتكَ يا نغمي الآتي
يا مانحَ ملحمةِ العطرِ……
فعلا للعطر ملحمة سطرها الآلماني (باتريك سوزكيند) بروايته الرائعة التي مثلت الى فلم عظيم بنفس العنوان ( العطر) تمثيل الشاب (بن ويشاو Ben Whishaw) مع شيخ الممثلين والتمثيل )داستين هوفمان Dustin Hoffman ) ، حيث يوضح لنا الفلم كيف تصنع العطور من جلد النساء وكل إمرأةٍ لها عطرها الآخاذ المختلف ، وبهذه الطريقة إستطاع الرجل الفقير المعدم الذي يولد في القمامة حتى يكبر فيكون له شأناً كبيراً في إبتكار نوعيات العطور بأعدادٍ لاتحصى ولاتعد بإسطورة وفنتازيا خلابة لايتصورها العقل . ويبقى زبرجد الحب هو الصادح في أغلب إنثيالات سميا مثلما هذه العقيقة أدناه :
طلبتُ منكَ وِصالاً
ألا أفوزَ بوصلِ
إن كان غيرك بعضا
فأنت في الحبّ كُلي.
الوصال هو الدواء و الشفاء من داء سرمدي الا وهو الوجد والهيام ولذلك نرى في رواية (مارتين إيدن ( Martin Iden للكاتب الأمريكي الإشتراكي (جاك لندن) والتي مثلت الى فيلمِ إيطالي إنتاج 2019 فاق كثيرا في صناعته وإخراجه وموسيقاه على أفلام هوليوود ، نرى كيف بقي( مارتين) الشاعر الشاب صادياً عليلا خمارا ، يشكو عدم وصاله من محبوبته الإرستقراطية الأديبة الشاعرة ( روث) حتى وفاته يائساً منتحراً في عمق البحر الذي عشقه أيام كان جائعا . وبهذا فضّل العدمية على البقاء بعد إن وصل الى ذروة الإبداع والشهرة العظيمة .
قيس وليلى ماتا من داءٍ عضال ومن أثر شكوى هذا المسمى بالوصال . بينما هو نفسه كان الشفاء العظيم لعمر إبن أبي ربيعة ووضاح اليمن. الوصال بنى عالما غربياً مذهلاً خالياً من أمراض السيكولوجيا حتى أصبح لديهم في الشوارع في المقاهي في المقاصف والحانات عوضاً عن ممارسته حينما تسدل الستائر في البيوت والغرف الضيقة بعيدا عن أعين المتربصين والمتلصصين . بينما عدم الوصال في بلداننا أعطى الذريعة لإنتشارالمواخير فالغالبية العظمى من بلدان الشرق البائس ولأن المرأة عصيّة المنال بسبب التقليد المميت ، فلايمكن لهم ان يحققوا صبواتهم الاّ في المبغى ، أو أنّ الواحد منهم مجبرٌ على دخول الماخور لغرض التجربة قبل زواجه وخوفه من الفشل المريع والمُذلّ.
سطور أخيرة لابد منها :
من بين ماتكتبه سميا نستطيع أن نستنتج القصدية والهدفية من الشعر الا هو صنع فكرة او إحساس من داخل روح الإبداع في بناء متسق من اللفظ يدغدغ النفس الأخرى وأعماقها من غير ملل وهو من الفنون التي هي أقرب الى اللاشعور ، كما انّ هبة الشعر هي منحة الطبيعة والبيئة المحيطة تصحبها مؤثرات خارجية لدى الشاعر أولها اللغة التي تعتبر النـَفَس لإعطاء الديمومة والحركة الإبداعية للشعر . فكلما إزداد الشاعر من الكم اللفظي إستطاع انْ يوظف صورة دقيقة لما يريد قوله بشكل موسيقي حيث انّ اللغة هي رداء الأدب بشكل عام وهذا الرداء يختلف من حقبة زمنية وأخرى إعتمادا على الذائقة وما توصّل اليه المجتمع من تطور في كافة المجالات ، التكيف الإجتماعي اضافة الى الطاقات الفنيه تتعاون هده مجتمعة على تكوين الجانب العقلي للشاعر مع القريحه الشعرية وقدرتها الفنية التي تيسر للإنسان النبوغ في الشعر و الذكاء الخاص بإبداعه .
الشاعرة سميا وجدانية البوح ووطنية المنحى وضمن البيئة الشرقية التي تحد من الولوج في أبواب أخرى ولهذا فضّلت المكوث عند أبواب الرومانتيكية تلك المدرسة التي تأسست في ألمانيا كردّة فعل على السلطة المطلقة للعقل خلال عصور النهضة والتنوير فبعد (إيمانؤيل كانط) وفلسفته وجد الشباب أنفسهم بحاجة الى هواء نقي فظهرت كلمات عناوين رومانسية جديدة كمثل الشعور ، الخيال ، الحنين مما أدى الى ظهور فكرة العبقرية الفنية كجوهر للروح الرومانسي .
سميا صالح سورية الماء والمنبع إتخذ لها الأهل والخلان مدينة بانياس وساحلها الأبيض مرتعاً ومولداً ، إستطاعت أن تطلّ علينا كشاعرة فنسمع صوتها من فوق أعالي قاسيون . بكالوريوس تربية لها سبع مجموعات شعرية ، لها الكثير من المشاركات في المهرجانات المحلية والعربية ومنها مهرجاني المربد وبابل . تكتب الشعر الفصيح والعامي أحيانا. إنها الميّاسة التي تتخذ من العيون دليلها في حب الطبيعة والجمال ، ومن الوطن قلبُ سرمدي هام واستهام حتى نزفَ لدمشق الأوطان :
قَـدَرٌ بِـأَنَّ الْشـَّامَ مِثـْلُ سَحـَابَةٍ
مَطَرَتْ ، وإنَّ دِمَشْقَ فِيْهـَا الْبَرْقُ
صـَيَّرْتِ قـَلْبِي فِي هَواكِ مُعَذَّبـَاً
وَجـِراحُ قـَلْبِي خَابَ فِيْـها الْرَّتْـقُ
وبكل رقّة، حين يطيب لها عناقها تتساءل:
رِقِّـي عَـلَيَّ ، فـَإِنـَّنِي بـِكِ مَغـْرَمٌ
إِنْ لَمْ تَـرِقِّي،مَنْ تـُرَى سـَيـَرِقُّ ؟
نسيج خيالي في حب دمشق لكنه يبدو للقاريء وكإنهُ حب إمرأةٍ خالصٍ محظ مثلُ ذاك الذي يقول ( سمراء رقي للعليل الباكي / وترفقي بفتىً مناهُ رضاكِ) . وتبقى الشاعرة سميا لؤلؤة الحب السوري تكتب بدمها وأناملها البحر ، ومهما حاولتْ الإبتعاد عن حب الوطن ، نراها قد تشرّبت به كما الإسفنجة .