السيمر / فيينا / الثلاثاء 25 . 08 . 2020 —- أياً كان سبب انفجار مرفأ بيروت، فإنه يأتي في وقت تبلورت فيه رؤية غربية وعربية لتغيير مسارات التجارة الشرق متوسطية، بحيث تتحول المرافئ السورية واللبنانية إلى مجرد مرافئ محلية لا مكان لها على خريطة التجارة الإقليمية والدولية
أعاد انفجار مرفأ بيروت تسليط الضوء مجدداً على الصراع الإقليمي والدولي، الرامي إلى السيطرة على تجارة شرق البحر المتوسط، ولا سيما أن الانفجار تبعه بأيام قليلة حدث استثنائي، تمثّل في الإعلان عن اتفاق إماراتي – إسرائيلي على تطبيع العلاقات، ما يعني بنظر كثيرين فتح الباب أمام تجارة عربية متوسطية عرّابها مرفأ حيفا الإسرائيلي، الذي شهد خلال الفترة الماضية عمليات توسعة وتحديث.
والصراع المشار إليه لا ينطلق من غايات اقتصادية فقط، بل له حسابات ومصالح سياسية خاصة بجميع الأطراف؛ فمثلاً هناك حرص غربي إسرائيلي على منع إيران من الوصول إلى البحر المتوسط، يقابله سعي من بعض الدول العربية للحيلولة دون تمكّن إسرائيل من التواصل أو التطبيع التجاري مع العمق العربي للأردن. الخبير الاقتصادي زياد أيوب عربش، يرى، في حديث إلى «الأخبار»، أن «محاولة السيطرة على ميناءي البصرة وطرطوس من قبل الولايات المتحدة، والسيطرة على ممرات العبور واستبدالها بموانئ أخرى من الإمارات إلى حيفا المحتلة، هدفها: منع نجاح مبادرة الحزام والطريق، ومحاصرة الصين في بحرها، وعزلها مع الهند وروسيا بخط أوكرانيا دمشق، ومحاصرة الأوراسية، إضافة إلى السيطرة على منابع النفط والغاز، ليس فقط لضمان إمداد الغرب بالطاقة، ولكن لكبح جماح الدول الصاعدة».
من البر والبحر!
لسنوات عديدة، كانت المنافسة على تجارة شرق البحر المتوسط، والتي تخدم سوقاً يبلغ عدد مستهلكيها أكثر من 200 مليون مستهلك، تنحصر بين ثلاثة مرافئ رئيسية، هي: مرفأ طرطوس، ومرفأ بيروت، ومرفأ مرسين. سوريا كانت بمنزلة «حجر القبان» في تلك التجارة، بالنظر إلى كونها تمثّل الممر البري – الاقتصادي لتلك التجارة المتجهة إلى العراق والأردن ودول الخليج العربي. لكن مع بداية النصف الثاني من العقد الماضي، بدأت تظهر ملامح مشروع إسرائيلي، قوامه إدخال مرفأ حيفا على خط التجارة الإقليمية لتخديم كل من الأردن والعراق ودول الخليج العربي، مستفيداً في ذلك من عاملين اثنين:
الأوّل، وجود رغبة أردنية، تجلت بوضوح في الطلب الذي تقدّم به وزير النقل الأردني في اجتماع ضمّه إلى وزيري النقل السوري والسعودي قبل نحو 11 عاماً للحصول على موافقة البلدين لإدراج مشروع يهدف إلى إنشاء خط للسكك الحديدية يربط مرفأ حيفا بالأردن، على اعتبار أن مشاريع ربط السكك الحديدية بين البلدان العربية هي مشاريع متضمنة ضمن اتفاقية «الأسكوا» حول السكك الحديدية الدولية بين الدول العربية، وإدراج أي مشروع ضمنها يحتاج إلى موافقة بالإجماع من الدول الأعضاء في «الأسكوا»، وهو ما قوبل آنذاك، وفق ما صرّح به مصدر مطلع لـ»الأخبار»، بالرفض من الوزيرين السوري والسعودي، ما دفع بمؤيدي المشروع داخل الأردن إلى التفكير في خيارات أخرى، مع العلم أن الربط السككي بين الدول الثلاث كان قد تعثّر بسبب تأخر تنفيذ الأردن الجزء المتعلق به، في الوقت الذي كانت فيه كل من دمشق والرياض قد أنجزتا الجزء المتعلق بهما.
الثاني، يتعلق بالوجود العسكري للولايات المتحدة ونفوذها السياسي الواسع في العراق، حيث كانت تل أبيب تعوّل على موافقة عراقية على مشروع لمد سكة حديد يبدأ من مرفأ حيفا فالحدود العراقية الأردنية ثم العاصمة بغداد، وهذا سيكون كفيلاً بفتح طريق تجاري جديد لاستيراد احتياجات العراق المقدرة سنوياً بأكثر من 40 مليون طن عبر مرفأ حيفا. إلا أن طول الخط المقدر بنحو 1200 كلم، وما يتطلبه من ضخ استثمارات كبيرة، ومعارضة القوى الوطنية العراقية لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، حالا دون السير في هذا المشروع، الذي أعيد طرحه بشكل غير رسمي في العام 2015، وهو ما جعل وفداً من وزارة النقل السورية يطير إلى بغداد للوقوف على رأي الحكومة العراقية، والذي جاء رافضاً لأي مشروع من هذا القبيل (راجع «الأخبار» 27 شباط 2015).
في ظل الحرب
مع بدء الحرب السورية، وما شهدته من خروج للمعابر الحدودية عن سيطرة الحكومة وفرض الغرب عقوبات اقتصادية على مرفأي طرطوس واللاذقية، تعرّض المشروع السوري للربط السككي والتجاري مع دول المنطقة لانتكاسة كبيرة، تجلت في التوقف شبه التام لحركة الترانزيت القادمة من تركيا ولبنان أو عبر مرفأ طرطوس. وحتى عندما عادت الحكومة لتسيطر على معبري نصيب مع الأردن والقائم مع العراق، فإن حركة الشاحنات القادمة والمغادرة بقيت محدودة جداً مقارنة بالفترة التي سبقت سيطرة المجموعات المسلحة عليها، بسبب الإجراءات الأميركية التي تحركت باتجاهات عديدة لضمان استمرار عزل دمشق. فوجود القوات الأميركية في منطقة التنف مثلاً لم يكن أكثر من محاولة لقطع الطريق أمام أي محاولة لإحياء مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا. وقد قام تنظيم «داعش» في العراق بتخريب السكة الحديدية الممتدة من بغداد حتى منطقة العكاشات. كما أن الضغوط التي مارستها واشنطن على الحكومة الأردنية للحيلولة دون السماح لدمشق باستثمار إعادة سيطرتها على معبر نصيب الحدودي، تعزز من فرضية الجهود الغربية لإعادة تشكيل خريطة التجارة المتوسطية عبر إخراجها مرفأي طرطوس وبيروت من حسابات المرحلة القادمة، أو على الأقل تحجيم دور كل منهما. و هذا ربما ما شجّع الحكومة السورية على الدخول في شراكة استثمارية مع شركة روسية لاستثمار مرفأ طرطوس، بغية محاولة إخراجه من دائرة العقوبات وتذليل الصعوبات التي تحول دون استعادة دوره في استقبال البضائع ونقلها باتجاه دول الجوار. وفيما كان مرفأ حيفا ينتظر تطبيع مزيد من الدول العربية مع إسرائيل، كان مرفأ مرسين يستثمر تطورات الحرب السورية وتأثيراتها الجيوسياسية، ويستثمر حتى التفجير الأخير الذي تعرض له مرفأ بيروت، ليرفع من حجم البضائع التي يستقبلها لصالح دول عديدة، أبرزها إيران والعراق وسوريا، بأسواقها الخاضعة لسيطرة الحكومة أو المجموعات المسلحة، فضلاً عن نشاطه المتزايد في إعادة تصدير بضائع مختلفة نحو مرفأي طرابلس في لبنان، وحيفا في فلسطين المحتلة. وبحسب خبير سوري في مجال النقل، فإن منع السفن التركية من دخول المرافئ السورية منذ بداية الحرب لأسباب سياسية، كان له تأثيرات اقتصادية على مرفأ طرطوس، وفي المقابل تعزيز مرفأ مرسين بالتجارة المتوسطية، إذ إن هناك الكثير من البضائع، وأبرزها القادمة من إيران ووجهتها الأسواق السورية، تنقل بعد وصولها براً من مرفأ مرسين إلى مرفأ طرابلس ومنه تدخل إلى الأراضي السورية. وهذا ما دفع بوزارة النقل السورية إلى أن تطلب من الحكومة الموافقة على شراء سفينتي «رورو»، لتسد جزءاً من حاجة المرافئ السورية في تفعيل دورها داخل الإقليم، وذلك عبر نقلها جزءاً من البضائع بين مرافئ كل من تركيا ولبنان ومصر وقبرص وروسيا والقرم وبين مرفأي طرطوس واللاذقية.
غياب التعاون
أسهم غياب التنسيق والتعاون الاقتصادي السوري – اللبناني في إضعاف موقف مرافئ البلدين في هذه المعركة، التي تتضح ملامحها بجلاء اليوم مع ما تعرّض له مرفأ بيروت وما تشهده المرافئ السورية من عقوبات أميركية وغربية تستهدفها بالاسم، ليكون البديل الوحيد المتاح أمام التجارة المتوسطية بنظر الغرب، هو إما مرفأ مرسين بالنسبة إلى العراق وإيران والدول المحيطة بهما، أو مرفأ حيفا بالنسبة إلى الأردن ودول الخليج العربي، وهو خيار يتعزز اليوم مع خطوات التطبيع المتسارعة بين بعض دول الخليج وإسرائيل.
وعلى خلاف ما روّج في الآونة الأخيرة، فإن ازدهار مرفأ بيروت خلال السنوات القليلة الماضية حمل معه أيضاً فائدة اقتصادية لسوريا، إذ إن المرفأ، بحسب خبير اقتصادي، «لم يكن له قبل الحرب السورية ذلك الحضور المؤثر في التجارة المتوسطية في ظل طرق الترانزيت البرية النشطة بين أوروبا والمنطقة عبر الأراضي التركية والسورية، حيث لم يكن عدد السيارات الشاحنة المحملة بالبضائع، والمتجهة من لبنان إلى الأردن عبر الأراضي السورية، يتجاوز آنذاك 700 شاحنة سنوياً. لكن مع خروج معبر باب الهوى من الخدمة، وتوقف حركة الترانزيت البرية بين دمشق وأنقرة، نشطت التجارة المتوسطية عبر مرفأ بيروت، وهذا ما تظهره البيانات الإحصائية التي تؤكد أن عدد السيارات الشاحنة القادمة من لبنان باتجاه الأردن في العام 2015 وصل إلى حوالى 18 ألف شاحنة». ويضيف الخبير أن «زيادة حجم التجارة الواردة عبر مرفأ بيروت سوف ينعكس إيجاباً أيضاً على سوريا من خلال ارتفاع حصيلة الإيرادات المتحققة من جراء عبور شاحنات الترانزيت، ولهذا جاء القرار الأخير بإعفاء السيارات الشاحنة اللبنانية، والتي يكون مقصدها الأخير سوريا، من أي رسوم تشجيعاً للتجارة الثنائية بين البلدين».
وتأكيداً لما سبق، تكشف مصادر في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية السورية أن مستوردات سوريا عن طريق لبنان أو من لبنان، لا تشكل وسطياً خلال السنوات الثلاث الأخيرة أكثر من 8 إلى 10 في المئة في أفضل الأحوال، لا بل إن تلك المستوردات تراجعت في العامين الأخيرين والنصف الأوّل من العام الحالي لتصبح أقل من الرقم المسجل في العام 2017، وهي في طريقها إلى التراجع مع تطبيق برنامج إحلال بدائل وترشيد المستوردات. وعليه فإن تأثر المستوردات السورية بحادثة انفجار مرفأ بيروت محدود، خصوصاً أن المستوردات الرئيسية للبلاد تتم عبر المرافئ السورية كما تؤكد تلك المصادر.
قبل الحرب
مقابل المساعي الإسرائيلية، المدعومة غربياً وعربياً، كانت دمشق تحاول قبل حربها المدمّرة تعزيز حضورها على خريطة تجارة الترانزيت الإقليمية، من خلال العمل على عدة مشروعات استراتيجية، أبرزها مشروع للربط السككي مع كل من العراق وإيران، كان من شأنه أن يرفع من حجم البضائع الإيرانية والعراقية المستوردة عبر مرفأ طرطوس. كان المشروع قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز لولا بعض الصعوبات التي واجهته، ثم اندلاع الحرب السورية، إذ لم يكن قد تبقى سوى جزء صغير بحاجة إلى استكمال في كل من سوريا والعراق. ففي سوريا باتت شبكة الخطوط الحديدية جاهزة حتى منطقة خنيفيس، التي لا تبعد عن الحدود مع العراق سوى قرابة 120 كلم، أمّا في العراق فإن المسافة الفاصلة بين العكاشات والتنف السورية لا تتجاوز 80 كلم، وتالياً فإن المسافة التي تحتاج إلى استكمال في كلا البلدين لا تتجاوز 200 كلم، خاصة أن طهران كانت أنجزت بالكامل القسم المتعلق بها. ولم تكتفِ دمشق بذلك، فقد سعت قبل الحرب إلى طرح مشروع لشق طريقين دوليين بمواصفات دولية يربطان شمال سوريا بجنوبها، وشرقها مع غربها، ويُنفَّذان وفق نظام الـ B.O.T، بغية تحديث البنية التحتية لاستقبال المزيد من السيارات الشاحنة المحملة بالبضائع القادمة من مرفأ طرطوس أو من تركيا ولبنان والمتجهة نحو دول المنطقة شرقاً وجنوباً. ووفق البيانات الرسمية السورية، فإن عدد السيارات الشاحنة التركية العابرة للأراضي السورية كترانزيت، وصل قبل الحرب لأكثر من 54 ألف شاحنة سنوياً، فيما لم يكن يتجاوز عدد السيارات الشاحنة السورية المتجهة إلى أوروبا عبر الأراضي التركية سوى ما يقرب من 1200 شاحنة سنويا .
الاخبار اللبنانية