السيمر / فيينا / الاربعاء 04 . 11 . 2020
د. مصطفى يوسف اللداوي
لم تعد المقاومة الموجعة المؤلمة، المكلفة المضرة، المؤذية المدمرة، العسكرية الدموية، التي يتأذى منها العدو الصهيوني ويشكو، ويخاف منها ويقلق، ويدفع ثمنها دماً ومالاً، وصحةً وعافيةً، واستقراراً وهدوءً، وأمناً وسلاماً، ومستقبلاً ووجوداً، حصراً على حملة البنادق ومطلقي الصواريخ، ولا على خبراء المتفجرات وقادة الفرق العسكرية، ولا على مجموعات الإرباك الليلي وراشقي الحجارة، أو على الذين ينفذون عمليات الطعن والدهس، فهؤلاء جميعاً يسهل على العدو أحياناً قصفهم واستهدافهم، وتدمير مقراتهم وقصف مخازنهم، وقتل رجالهم وتحييد أخطارهم، وإحباط عملياتهم وإفشال مخططاتهم.
ظهرت إلى جانب الجبهات التي ذكرت أعلاه جبهاتٌ قتالية جديدة، وهي جبهاتٌ مؤلمة وموجعة، وباهظة ومكلفة، تعطل الحياة العامة، وتربك الأنظمة والمؤسسات، وتجمد الأنشطة العلمية والبرامج الفنية، وتتسبب في تدهور الاقتصاد وركود التجارة، وتلحق خسائر مالية كبيرة في البنوك والبورصات، وفي الأسواق ومختلف المرافق الاقتصادية، وتفقدها الثقة والمصداقية، وتعرضها للقرصنة وسرقة المعلومات، وفضح الأسرار ونشر البيانات الخاصة والمعلومات الشخصية، فضلاً عن أسرار الدولة ومعطيات المختبرات والمفاعلات والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وبرامج الطيران وجداول المطارات، وبرامج التلفزيونات والمحطات الإعلامية، وشبكات الهاتف والكهرباء والصرف الصحي، وغيرها الكثير مما يعتمد على الشبكة العنكبوتية في الإدارة والتشغيل.
شكا الإسرائيليون من تعرض مختلف الأهداف السالفة الذكر إلى القرصنة والاختراق، وإلى التلف والعطب، والتعطيل والتخريب، وتبين لهم يقيناً أنهم باتوا في مرمى نيران القراصنة المحترفين، الكبار والصغار، العرب والعجم، المسلمين والمتضامنين، القريبين والبعيدين، الذين وضعوا المرافق والمؤسسات الإسرائيلية كافةً، العامة والخاصة، السياسية والعسكرية، الاقتصادية والأمنية، والعلمية والخدمية، والإعلامية والفنية، هدفاً مشروعاً لهم، فاجتاحوها بسهولة، وأخضعوها لأوامرهم بمهارةٍ، ووجهوها لخدمتهم بحرفيةٍ، وسحبوا ملفاتها ونسخوا بياناتها بخفةٍ وسرعةٍ، وأحالوا بعضها للمقاومة تستفيد منها، وتستخدم بعضها هدفاً لعملياتها، أو تعمل على تحويرها وتطويرها لخدمة أنشطتها وفعالياتها، خاصة الأمنية منها والعسكرية، والتكنولوجية والإليكترونية.
يشكو المسؤولون الإسرائيليون من مئات عمليات التسلل الاليكتروني إلى مختلف المواقع الإسرائيلية، من مختلف مناطق العالم، وليس من إيران ولبنان وغزة وحدهم، وإن كانوا هم الأكثر اهتماماً باختراق المواقع والمؤسسات والشركات والوزارات الإسرائيلية، إلا أنهم يشكون أيضاً من وجود محاولات اختراق ناجحة للعديد من المؤسسات الرسمية والخاصة، يقوم بها “هكرز” خطرون من مناطق مختلفة من العالم، بعضها يتم من دولٍ لا تصنف أنها معادية لإسرائيل، بل ومن دولٍ توصف بأنها حليفة وصديقة لها، الأمر الذي من شأنه أن يعقد محاولات الخبراء الإسرائيليين تتبع “الهكرز الأعداء” ووقف نشاطهم، والحد من اختراقهم، أو منعهم من الحصول على معلوماتٍ خطرة، تضر بأمن واقتصاد كيانهم.
أمام هذا الأخطار الكبيرة، لا تكف قيادة أركان جيش العدو الإسرائيلي، عن استدعاء الخبراء والمختصين في مجال العمل السيبرالي وتقانة الانترنت وفنون التواصل الاجتماعي، وتعلن من وقتٍ لآخر عن مسابقاتٍ وظيفية للمبدعين في مجال الانترنت والجيل الخامس من عالم الاتصالات، كما تقوم أجهزتها الأمنية بمتابعة المتفوقين والمبدعين ومراقبة النشطاء والموهوبين، وتستدعيهم إلى مراكزها الخاصة، وتطرح عليهم إمكانية العمل معها والالتحاق في صفوفها، علماً أن المشرفين على هذه الأقسام الفنية، هم مجموعة من كبار الضباط الإسرائيليين، من المهندسين والعاملين في سلاح الهندسة، وفي مجالات التقنية والتكنولوجيا، والمختصين في علوم الكمبيوتر والانترنت، وخبراء اتصالات الجيل الرابع والخامس.
رغم الجهود الضخمة التي يبذلها المختصون الإسرائيليون في هذا المجال، إلا أن جهودهم تبوء بالفشل، ويعجزون عن صد الهجمات الاليكترونية التي تزداد عدداً وشراسةً، وتتعدد مناطقها وتتنوع قواعدها وتتميز منصاتها، ويبرع فيها الصبية والشباب، والمرضى والأصحاء، والضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، والنساء والرجال، وغيرهم ممن تعوزهم اللياقة البدنية، والتجربة العسكرية، والخبرة القتالية، إلا أنهم يتقنون فنون الغزو المفاجئة، وغارات القنص السريعة، وسبل التسلل السرية، وهو ما أعيا الإسرائيليين وأفقدهم صوابهم، إذ لا حيلة لهم على مواجهة هذه الجيوش التي تمتاز بكل أشكال التنوع والتعدد.
يواجه الإسرائيليون في حروبهم السيبرالية الجديدة مهمتين صعبتين، الأولى تتمثل في صد الهجمات، ومنع الاختراق، والحيلولة دون سرقة المعلومات، وضمان أمن المؤسسات وسلامة العمل، وأمن الأفراد ومعلوماتهم الخاصة، والمهمة الثانية تقوم على سياسة الهجوم المضاد، والاختراق الاستباقي، والعمل على تدمير المنصات الهجومية، وتعطيل برامجها، واستهداف كوادرها، وقد فشلت حتى اليوم في كلا المجالين، بل إنها تلقت صفعاتٍ مذلةٍ من المقاومة التي اخترقت برامج طيرانها، ودخلت على محطاتها الإعلامية الرسمية.
لهذا تدعو السلطات الإسرائيلية المختصة كافة المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، في ظل التصعيد في الصراع السيبرالي، وتعدد الجبهات وتضاعف أعداد المهاجمين، وزيادة عناوين وأنواع الجبهات، وجهات الاختراق وساحات المواجهة، إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر، وأن تكون يقظة واعية، وحذرة متوثبة، وأن توظف ضمن طواقمها عدداً من الخبراء والمختصين في الفضاء السيبرالي، وأن تكثف أنظمة دفاعها وتأخذ بمختلف الاجراءات الاحترازية، خاصةً أن أغلب المؤسسات الإسرائيلية على مختلف أنواعها باتت تعمل عن بعدٍ، في ظل إجراءات وباء كورونا، التي فرضت التباعد والإغلاق وعدم الاختلاط، الأمر الذي يزيد من عدد الأهداف المقصودة.
في معركتنا مع المحتل الغاصب والكيان الاستيطاني القاتل، لم يعد أمام أي عربيٍ حرٍ أو مسلمٍ صادقٍ، أو أمميٍ غيورٍ، حجةً لترك المقاومة والتخلي عنها، والاستنكاف عن خوضها والتولي عن صفوفها، بحجة العجز وعدم القدرة، أو صعوبة الوصول إلى الجبهات والاشتباك مع العدو بالقوة العسكرية والوسائل القتالية، حيث أن جبهات القتال عديدة ومتنوعة، وممكنة وميسرة، وهي كثيرة ومتجددة، لا تحدها الحدود ولا تمنعها المسافات، وسلاحها الكلمة والحرف، والصورة والرسم، والكاميرا والشاشة، والحاسوب والموبايل وغيرها الكثير، وعليه فإننا جميعاً مطالبين بخوض المقاومة بالسبل التي تناسبنا، وبالأدوات التي بحوزتنا، وبوسائل الصمود التي نتقنها، والعمل على ابتداع الجديد المجدي، والقوي الفاعل، لنحقق الهدف ونصل إلى الغاية، وما ذلك على شعبنا المقاوم وأمتنا المجاهدة بعزيزٍ.
بيروت في 4/11/2020
*كاتب من فلسطين العربية المحتلة