السيمر / فيينا / الجمعة 11 . 03 . 2022 ——- هذا النص أجزاء مختارة من مقال لسمير أمين (1931 – 2018) بعنوان «الإمبريالية المعاصرة»، نشرته مجلة «مونثلي ريفيو» في الأوّل من تموز 2015 .
لا يزال العالم المعاصر يواجه التحدّيات نفسها التي واجهتها ثورات القرن العشرين. لا يزال التعميق المستمر للتناقض بين المركز والأطراف، والذي يميّز انتشار الرأسمالية المعولمة، يؤدّي إلى النتيجة السياسية الرئيسية نفسها: إن تغيير العالم يبدأ بالثورات الوطنية الشعبية المناهضة للإمبريالية ـــــ وربما المناهضة للرأسمالية ـــــ والتي هي الثورات الوحيدة المطروحة في المستقبل المنظور. لكن هذا التحوّل لن يكون قادراً على تجاوز الخطوات الأولى والمضيّ قدماً على طريق الاشتراكية بعدها إلّا عندما تبدأ شعوب المراكز بدورها؛ النضال من أجل الشيوعية التي يُنظر إليها على أنها مرحلة أعلى من الحضارة الإنسانية العالمية. والأزمة النظامية للرأسمالية في المراكز تقدّم فرصة لترجمة هذه الإمكانية إلى واقع.
أوّلاً، التنمية الرثّة التي تفرضها الرأسمالية المعاصرة على جميع أطراف النظام ليس لديها ما تقدّمه لثلاثة أرباع البشرية. على وجه الخصوص، يؤدّي هذا النمط من التنمية إلى التدمير السريع لمجتمعات الفلاحين في آسيا وأفريقيا، وبالتالي فإن الاستجابة للمسألة الفلاحية ستحكم إلى حد كبير طبيعة التغيّرات المستقبلية.
ثانياً، إنّ الجيوستراتيجية العدوانية للقوى الإمبريالية التي تعارض أي محاولة من جانب شعوب ودول الأطراف للخروج من مأزقها، تجبر هذه الشعوب على هزيمة السيطرة العسكرية على العالم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيّين واليابانيين.
في سبعينيات القرن الماضي، قدّمت أنا وسويزي وماغدوف أطروحة، صغتها أنا وأندريه غوندر فرانك في عمل نُشر عام 1978، قلنا فيها إن الرأسمالية الاحتكارية تدخل عصراً جديداً يتميّز بالتفكيك التدريجي ـــــ ولكن السريع ـــــ لأنظمة الإنتاج الوطنية. لم يعد من الممكن تعريف إنتاج عدد متزايد من سلع السوق بعلامة «صنع في فرنسا» (أو الاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة)، بل بعلامة «صنع في العالم» لأن تصنيع هذه السلع مقسّم الآن إلى أجزاء موجودة هنا وهناك في جميع أنحاء العالم. إنّ إدراك هذه الحقيقة، التي أصبحت الآن فكرة شائعة، لا يعني أنّ هناك تفسيراً واحداً فقط للسبب الرئيسي للتحوّل قيد الدراسة. من جهتي، أفسّر هذا التحوّل بالقفزة للأمام التي حقّقتها الاحتكارات في مستوى مركزية السيطرة على رأس المال، وهي القفزة التي وصفتها بالانتقال من رأسمالية الاحتكارات إلى رأسمالية الاحتكارات المعمّمة. توفّر ثورة المعلومات، من بين عوامل أخرى، الوسائل التي تجعل من الممكن إدارة نظام الإنتاج المشتّت عالمياً. لكن بالنسبة إليّ، لا تُطبّق هذه الوسائل إلا كاستجابة لحاجة موضوعية جديدة أوجدتها القفزة إلى الأمام في مَركزَة السيطرة على رأس المال. أدّى ظهور نظام الإنتاج المعولم هذا إلى إقصاء سياسات «التنمية الوطنية» المتماسكة (المتنوعة والمتفاوتة في الفعالية)، لكنه لم يستبدلها بتماسك جديد، يُفترض أن يمثّله النظام المعولم. والسبب في ذلك هو عدم وجود برجوازية معولمة ودولة معولمة، وهو ما سأقف عنده لاحقاً. بالتالي، فإنّ نظام الإنتاج المعولم غير متماسك بطبيعته.
يستخلص البعض نتيجتين ترتبطان بأطروحة نشوء نظام إنتاج معولم: ظهور برجوازية معولمة وظهور دولة معولمة، وكلاهما يُفترض أن يجد أساسه الموضوعي في نظام الإنتاج الجديد هذا. يقودني تفسيري للتغيّرات والأزمات الحالية إلى رفض هاتين النتيجتين.
لا توجد برجوازية معولمة (أو طبقة مهيمنة) في طور التكوّن، سواء على المستوى العالمي أو في بلدان الثالوث الإمبريالي. يقودني هذا إلى التأكيد على حقيقة أن مَركزَة السيطرة على رأس مال الاحتكارات تحدث داخل الدول القومية للثالوث (الولايات المتحدة، كل عضو في الاتحاد الأوروبي واليابان) أكثر بكثير ممّا يحدث في العلاقات بين شركاء الثالوث، أو حتى بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. تتنافس البرجوازيات (أو المجموعات الاحتكارية) داخل الأمم (والدولة القومية تدير هذه المنافسة، جزئياً على الأقل) وبين الأمم. لذا، فقد تولّت المجموعات الاحتكارية الألمانية (والدولة الألمانية) قيادة الشؤون الأوروبية، ليس من أجل المنفعة المتساوية للجميع، ولكن أوّلاً وقبل كل شيء لمنفعتها الخاصة. على مستوى الثالوث، من الواضح أنّ برجوازية الولايات المتحدة هي التي تقود التحالف، مرة أخرى بتوزيع غير متكافئ للمنافع. إنّ الفكرة القائلة بأن السبب الموضوعي ـــــ أي ظهور نظام الإنتاج المعولم ـــــ يستلزم بحكم الواقع ظهور طبقة مهيمنة معولمة تستند إلى الفرضية الأساسية القائلة بأن النظام يجب أن يكون متماسكاً. في الواقع، من الممكن ألا يكون متماسكاً، بل إنه بالفعل غير متماسك، بالتالي فإن هذا النظام الفوضوي غير قابل للحياة.
بالتالي، هناك اختلاف بين وظائف الدولة في المراكز الإمبريالية المهيمنة ووظائفها في الأطراف الخاضغة أو التي لم تخضع بعد. فالدولة في الأطراف الكومبرادورية غير مستقرّة بطبيعتها، وبالتالي فهي عدو محتمل، إن لم تكن عدواً بالفعل. هناك أعداء أُجبرت القوى الإمبريالية المهيمنة على التعايش معهم، على الأقل حتى الآن. هذا هو الحال مع الصين لأنها رفضت (حتى الآن) خيار الكومبرادورية الجديدة وواصلت مشروعها السيادي للتنمية الوطنية المتكاملة والمتماسكة. أصبحت روسيا عدواً بمجرّد أن رفض بوتين الاصطفاف سياسياً مع الثالوث وأراد عرقلة الطموحات التوسعية للثالوث في أوكرانيا، حتى لو لم يتصوّر (أو لم يتصوّر بعد؟) أن يترك قفص الليبرالية الاقتصادية. إن الغالبية العظمى من الدول الكومبرادورية في الجنوب (أي الدول التي تخدم برجوازياتها الكومبرادورية) هم حلفاء، لا أعداء، طالما بدت كل دولة من هذه الدول ممسكة بزمام الأمور في بلادها. لكن القادة في واشنطن ولندن وبرلين وباريس يعرفون أن هذه الدول هشّة، فما إن تهدّد حركة تمرّد شعبي ـــــ سواء كان لها إستراتيجية بديلة صالحة أما لا ـــــ إحدى هذه الدول، حتى يدّعي الثالوث الحق في التدخّل، ما قد يقود حتى إلى التفكير بتدمير هذه الدول، بل تدمير المجتمعات فيها. هذه هي الإستراتيجية المطبّقة حالياً في العراق وسوريا وأماكن أخرى. إنّ علّة وجود إستراتيجية الثالوث، بقيادة واشنطن، والمتمثّلة في السيطرة العسكرية على العالم، تكمن بالكامل في هذه الرؤية «الواقعية»، التي تتعارض بشكل مباشر مع النظرة الساذجة ــــــ على طريقة نيغري ــــــ لدولة معولمة في طور التشكيل.
جميع دول العالم خارج الثالوث هم أعداء أو أعداء محتملون، باستثناء أولئك الذين يقبلون الخضوع الكامل لإستراتيجيته الاقتصادية والسياسية. في هذا الإطار، تعتبر روسيا «عدوّاً». أياً كان تقييمنا لما كان عليه الاتحاد السوفياتي، فقد حاربه الثالوث لمجرّد أنه مثّل محاولة للتطوّر بشكل مستقل عن الرأسمالية/ الإمبريالية المهيمنة. بعد تفكّك النظام السوفياتي، اعتقد بعض الناس (في روسيا على وجه الخصوص) أنّ «الغرب» لن يعادي «روسيا الرأسمالية»، تماماً كما حدث مع ألمانيا واليابان اللتين «خسرتا الحرب لكنهما ربحتا السلام». لقد نسوا أنّ القوى الغربية دعمت إعادة إعمار البلدان الفاشية السابقة تحديداً من أجل مواجهة تحدّي السياسات المستقلة للاتحاد السوفياتي. الآن، بعد أن اختفى هذا التحدّي، أصبح هدف الثالوث هو الخضوع الكامل، أي تدمير قدرة روسيا على المقاومة. يوضح التطوّر الحالي لمأساة أوكرانيا حقيقة الهدف الاستراتيجي للثالوث: نظّم الثالوث في كييف (في 2014) ما يجب أن يسمّى بـ«انقلاب أورو-نازي». إنّ خطاب وسائل الإعلام الغربية، الذي يزعم أن سياسات الثالوث تهدف إلى تعزيز الديموقراطية، هو مجرّد كذبة. تم «دمج» دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي ليس كشركاء متساوين، بل كـ«أشباه مستعمرات» للقوى الرأسمالية/ الإمبريالية الكبرى في أوروبا الغربية والوسطى. إن العلاقة بين الغرب والشرق في النظام الأوروبي تشبه إلى حد ما العلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية!
إن بقاء سلطة الدولة الروسية ضمن الحدود الصارمة للوصفة النيوليبرالية يقضي على فرص نجاح سياسة خارجية مستقلة وعلى فرص أن تصبح روسيا دولة صاعدة حقاً تتصرّف كفاعل دولي مهم. لا يمكن للنيوليبرالية أن تجلب لروسيا سوى تراجع اقتصادي واجتماعي مأساوي، ونمط من «التنمية الرثة»، وتبعية متنامية في النظام الإمبريالي العالمي. بحيث تزوّد روسيا الثالوثَ بالنفط والغاز وبعض الموارد الطبيعية الأخرى، وتؤول صناعاتها إلى حالة من التعاقد من الباطن لصالح الاحتكارات المالية الغربية. في مثل هذا الوضع، الذي لا يبعد كثيراً عن وضع روسيا اليوم في النظام العالمي، ستظل محاولات العمل بشكل مستقل على الساحة الدولية هشة للغاية، مهدَّدةً بـ«العقوبات» التي ستعزّز الاصطفاف الكارثي للأوليغارشية الاقتصادية الحاكمة في صف مطالب الاحتكارات المهيمنة في الثالوث، والهروب الحالي لـ«رأس المال الروسي» إثر أزمة أوكرانيا خير دليل على هذا الخطر. إن الرد الفعّال الوحيد على هذا الخطر هو إعادة بسط سيطرة الدولة على تحرّكات رأس المال.