السيمر / فيينا / الخميس 29 . 09 . 2022
أحمد فؤاد
“كيف يمكن للأشخاص والأماكن أن يتغيروا، إلى الدرجة التي يفقدون صلتهم بما كانوا عليه؟!”
عبد الرحمن منيف- مدن الملح.
لا يحتاج أي مواطن قلق، أو متابع مشغول، للكثير من الشواهد والمقدمات، حتى يخلص مطمئنًا إلى أن النظام الرسمي العربي قد دخل مرحلة الإفلاس، بكل ما تحمله الكلمة الأخيرة من دلالة، وأن مشاركة أصحاب الفخامة والسمو في جنازة ملكة بريطانيا السابقة ليست إلا مشهدًا واحدًا ضمن الجزء الأخير من مسلسل السقوط والتعري.
وشهدت جنازة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، مشاركة عربية هي الأكبر والأرفع، في حدث نادر جدًا، تحولت فيه عاصمة الضباب إلى قبلة للعديد من الملوك وممثلي الأنظمة العربية. وهذا المستوى من المشاركة لم تكن غايته التشاور أو الحوار أو رسم سياسات جديدة، كما هي العادة، لكنه جاء كاشفًا لمدى سيطرة الإمبراطورية الغاربة نفسيًا على أدواتها، والعمق الذي وصل إليه أغلب الحكام العرب في الارتباط المعنوي بالغرب.
من إعلان الحداد الرسمي إلى المشاركة بأرفع المستويات في الجنازة، ثم برقيات التعازي والتعبير عن المشاركة الوجدانية، جاءت المواقف العربية الرسمية كخليط بين الانسحاق والتذلل، والتقزم أمام الغرب وتقاليده، والارتماء على عتبة قصور حكامه، وانمحت فجأة من الإعلام الرسمي جرائم بريطانيا في حق كل الشعوب العربية، ماضيًا وحاضرًا، وانتهت مؤامراتها ودسائسها، وتحول المشهد العربي إلى ما يشبه تمثيلية في الحانة، الكل يحاول تلبس دوره، وسط انبهار غريب بالعادات الراسخة للعائلة المالكة البريطانية.
ومن المهم هنا التفرقة الواضحة بين اجتماعات في حدث دولي يتطلب المشاركة الرسمية والواسعة فيه وعلى هامشه، مثل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تشهد فيها مدينة نيويورك -مثلًا- اجتماعات ثنائية قادرة على رسم السياسات أو تغيير المسارات، وتشارك بها أطراف دولية بهدف طرح وجهات نظرها واستكشاف رؤى غيرها من القوى الدولية الفاعلة، وبين حدث خاص، تضفي عليه التقاليد البريطانية الملكية أبّهة من خارج هذا العصر، ويقع كله على بعضه خارج مجرى نهر الأحداث العالمية المهمة.
في الأسبوع ذاته، كانت ثمة مياه متدفقة في نهر الحوادث، جاءت عبر إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعبئة جزئية لقواته المسلحة، في إشارة لتطويل أمد الحرب المشتعلة في أوروبا، والتي هزت الاستقرار العالمي الهش عقب جائحة كورونا، وهذه الحرب بدورها تفرض تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة، تمر بكل بيت وتصفع كل مواطن، وتهدد كل إجراءات الحماية الاجتماعية المهترئة بالأصل بالدول العربية المفعول بها، وفيها.
وعوضًا عن النظر في الجبهة الحقيقية، وخوض صراع الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد والعباد من شر قد تحقق، اختارت الدول العربية المشاركة والحداد على ملكة بريطانيا، رغم الأشباح التي تتهددها، وضمنها 4 من الدول الداخلة ضمن مؤشرات الإفلاس الفعلي، لبنان ومصر وتونس والسودان، والواقفة على عتبة صندوق النقد الدولي، عله يقرر مد يده في اللحظة الأخيرة ومنح حكوماتها فرصة شراء الوقت والكرسي بالقروض.
في لبنان كسرت القروض الأجنبية حاجز الممكن، وباتت تشكل نحو 69.7 مليار دولار، أي ما يفوق 200% الناتج المحلي الإجمالي، وفي مصر تقترب النسبة من حاجز 100% برصيد يزيد عن 157 مليار دولار، ويقدر بند خدمة الدين العام في الموازنة للعام المالي الحالي 2022/2023 بنحو 110% من إجمالي الإيرادات العامة، أي 1.66 تريليون جنيه مصري، وفي تونس وصلت الديون الأجنبية إلى 35 مليار دولار، مع رصيد من العملات لدى البنك المركزي يبلغ 8 مليارات دولار، لا يغطي سوى 4 أشهر من فاتورة الواردات، وبلغ العجز الحد الذي تعطلت فيه الشحنات في الموانئ نتيجة لعدم قدرة المستوردين على الوفاء بالعملة الخضراء لتمويل عملياتهم، وفي السودان لا توجد بيانات محدثة عن الديون والعجز التجاري، لكن الدولة كلها تمر بمرحلة العجز المزمن والمستمر، ولا تستطيع توفير الغذاء حتى لشعبها.
لكن الفشل المتحقق على الأرض وفي الواقع اليومي المعيش، لم يقنع رئيسي وزراء لبنان أو مصر، بأن الوطن الذي يوشك أن يتحول إلى جثة أهم من جثة الراحلة إليزابيث، وأن التأوهات العربية الصادرة من قلوب مواطنيهما والمشبعة بالنيران التي تندلع في صدورهم، أكثر إيلامًا من ويليام الباكي أو دموع أطفاله على رحيل الملكة.
يبقى درس واحد من العقل العربي الدائر حول جنازة إليزابيث، وبلدها وعصرها، وهي أن مفردات التنمية والتطور ليست سلعة يمكن شراؤها من السوق العالمية، مهما بلغ المعروض أمامها، لكنها حقائق موضوعية قائمة ومستمرة بين شعب يملك ميزة التطلع والحلم ووطن يتمتع بخصوصيته، ثم علاقة ممتدة وحيوية مع المحيط المتداخل، القريب والبعيد، وعملية التطور هي نتاج هذا التفاعل الخلاق بين الأرض والبشر، والحوار الخصب غير المنقطع بين الإمكانيات والأماني الوطنية، وكله في النهاية يصنع آثاره التي تصب في تقدم المجتمعات ونهضتها، وينعكس على أدواتها الحضارية، من فن وثقافة وهوية وطنية جامعة، ودون مراعاة أو توفر الحد الأدنى من هذه الثوابت، فإن أي عملية تحديث هي خيال محض وأحلام تسعى للطيران، دون أن تمتلك أجنحة ترفعها في السماء.
المصدر / موقع العهد الاخباري اللبناني