فيينا / الجمعة 07 . 02 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
كفاح الزهاوي
جلست على الشاطئ عند الشفق قبل أن يعلن الغسق عن حضوره؛ أنظر إلى الأفق، لأرى قرص الشمس يوشك على الاختفاء، إنه يوازي حواف مياه البحر الملتصقة بقبة الفراغ الأزرق، يغرق تلك المساحة لهبًا حمراء يفيض اشتعالًا واتقادًا.
تأملت جمال ذلك المشهد الرهيب الذي أثار في نفسي مشاعر مختلطة، وصراعًا داخليًا وسط التحديات العاطفية والنفسية، وفي ظل التوتر بين الذكريات القديمة والحياة الجديدة حيال قراري بمغادرة الأرض التي أمضيت فيها أكثر من نصف حياتي إلى الأبد.
كنت أناقش الأمر مع نفسي:
ــ كيف لي العيش بعيدًا عن هذا الهواء المنعش، والماء الصافي العذب، والكرامة الإنسانية التي استعدتها هنا خلال فترة إقامتي الطويلة، على الرغم من العلاقات الاجتماعية المتنافرة والقانون الصارم الذي يحدد المسافة بين الأفراد؟
وردّ صدى صوتي:
ــ لا أستطيع أن أتصور صباحًا بدون ابتسامة النهار، ولا ليلة بدون حلم تنقلني إلى عالم الجمال.
بعد أن زفرت كل أنفاسي قلت:
ــ فهل قوة المثابرة والإصرار كافية لمواجهة المد المجهول القادم؟
الطقس الكئيب خلال فصل الشتاء الطويل يخفف من الرغبة في البقاء بسبب البرد الشديد، وتساقط الثلوج، والعواصف العاتية، حيث تختبئ الشمس خلف السحب الداكنة، فيجعل النهار شبه مظلم. حلَّت العتمة وأرخت سدولها على الكون، واختفى هزيز الريح في البحر، وبدأت النجوم تتلألأ في السماء شيئًا فشيئًا…
هكذا بدأت رحلتي الطويلة نحو عالمي الجديد، عالم يمتلئ بالتناقضات في لغته وثقافته وتقاليده وقوانينه. لم تكن رحلتي هذه غير متوقعة، فقد سبق لي أن زرت هذا البلد عشرات المرات كسائح، مما يعطيني بعض الألفة مع الوضع الجديد ويخفف من صدمة الانتقال.
منذ اليوم الأول لوصولي إلى منزلي الجديد، بدأت بتنظيم حياتي في هذه البيئة المختلفة. عشت في منزل واسع يضم أربع غرف نوم وغرفة معيشة كبيرة ذات أسقف عالية. قمت بإعادة ترتيب غرفة النوم بوضع السرير في منتصف الغرفة، بعيدًا عن الباب، مما أضفى على المكان شعورًا بالانسجام. وضعت الكمبيوتر في زاوية الغرفة والتلفزيون في الجدار المقابل للسرير، مما وفر مساحة مريحة للتفاعل اليومي. تنظيم المكان كان مصدر راحة وأمان نفسي، وأمرًا ضروريًا للاستقرار في هذه البيئة الجديدة.
استيقظت صباحًا على صوت موسيقى جنائزية صادرة من مكبرات الصوت في مكان ما بالقرية، معلنة خبر وفاة أحد سكانها. في هذه القرية، للحياة طابع مختلف ينقلك إلى عالم من الدفء والحنان، عالم ترتبط فيه القلوب بروابط اجتماعية وثيقة، لتوجه رسالة مفادها أن الناس لا يمكنهم الاستغناء عن بعضهم البعض، وأن الألفة والسلام هما أساس الاستقرار النفسي والجسدي. في هذه المناسبات الحزينة، يتوافد الناس لتقديم احترامهم والمساهمة بمبلغ صغير من المال، وهو تقليد متجذر بعمق في المجتمع.
كل صباح بعد الإفطار أخرج وأتجول حول القرية، بين الأزقة والبيوت، بعضها لا يزال قديمًا. أنا أسميها قرية، نظرًا لطبيعة الحياة البسيطة وأيضّا لوجود الكثير من الكلاب المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة، فإن بعضها ضالة ووحشية. إنهم لا يتوقفون عن النباح عندما يتجاوز أحد حدودهم. هذا يجعلني أشعر بالقلق، لذلك يجب أن أحمل عكازًا يخص والد زوجتي حتى أتمكن من الدفاع عن نفسي، إن حاول أي منهم الاقتراب مني.
في الأوان الأخير، بدأت أقلل من خطواتي وأبتعد عن الأماكن الخالية من الناس والمنازل، خاصة على الطريق المطل على النهر. يحد هذا الطريق الترابي منطقة غابات كثيفة من الجانب الآخر للنهر. في أسفل منحدر الطريق، رأيت كوخًا طينيًا يتسرب منه دخان أسود من فتحة في الأعلى. علمت لاحقًا أنهم يصنعون الفحم للشواء.
وفي تلك اللحظة، أثناء سيري على الطريق الرملي بجانب النهر، لم أكن أعلم ما ينتظرني في هذا العالم الجديد. تركت خلفي كل شيء، ومع ذلك، كانت الحياة هنا تبدأ من جديد، برائحة الفحم ودخان المستقبل المجهول.
الحياة هنا تحمل طابعًا خاصًا، فالناس طيبون ويعرفون بعضهم البعض والعديد منهم أقارب. على الرغم من وجود بعض الشباب المدمنين على المخدرات، إلا أنهم يتصرفون بحذر خشية من الشرطة. تجارب الحياة تقوي الإنسان وتجعله لا يخاف من العواصف تحت أي ظرف، وهذا الشعور بالقوة الذاتية والقدرة على الصمود أمام اختبار الزمن كافٍ ليجعلني أتأقلم بشكل أفضل مع الحياة في القرية الجديدة.
ومع كل خطوة اتخذتها في تلك القرية الجديدة، شعرت بأنني أترك شيئًا من نفسي في كل زاوية. كان ذلك قرارًا لم يكن من السهل اتخاذه، لكنه منحني الإحساس بأنني أخيرًا تمكنت من تجاوز الامتحان الصعب.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات