السيمر / فيينا / الخميس 15 . 12 . 2022
كفاح الزهاوي
كانت مدينة لينينغراد تنساب في الأفق كمتحف اسطوري تحت سماء صافية، تأملتها هكذا وأنا أرنو إليها من خلف نافذة عربة القطار. عدت الى مقر إقامتي بعد ان انتهيت من زيارتي التطبيقية في المستشفى في المدينة السياحية عند ميناء مورمانسك المشهورة بظاهرة الشفق القطبي. حدث هذا في عام 1966.
وانا في طريق العودة إلى المنزل مررت على السوق لشراء بعض الحاجات الضرورية. كان السوق يعج بالناس والحركة بطيئة. وفي وسط هذا الحشد البشري، صادف ان التقيت صديقي عادل الذي يسكن في الطابق الخامس وبينما كنت أنا اسكن في الطابق الرابع من مباني الطلاب، بعد ان رحب بعودتي من السفر. قال وهو يمد يده ليصافحني:
- مرحبا قاسم، متى عدت من رحلتك؟
اجبته:
- اهلا عادل. لقد عدت توا. فكرت ان اشتري بعض المواد الغذائية وانا في طريقي الى المنزل.
قال:
- بالمناسبة هناك فتاة تنتظرك منذ ساعات في الطابق الثاني. كما تعلم ان طوابقنا لازالت قيد الترميم، والأصباغ لم تنشف بعد.
قلت:
- فتاة!… كيف تبدو؟
قال:
- نعم. اعتقد انها ليست روسية لان ملامحها أقرب الى الشرقية وشعرها اسود.
بعد ان انتهيت من التسوق عدت ادراجي الى المنزل. كانت المفاجأة عظيمة وغير متوقعة، شعرت بالنهار ينهمر على كياني كحلم بحيث ازال الارهاق الذي رافق رحلتي، ان أجد صديقتي بارنو في انتظاري، تعلو كشمس الصباح: وهي فتاة من طشقند عاصمة اوزبكستان. حالما ظهرتُ أمامها منتصبا ارتسمتْ ابتسامة عريضة على شفتيها النديتين وتعانقنا.
نظرت الى عينيها السوداوين الواسعتين والدموع الرقراقة فيهما تعكس ابتسامتي فرحا بوجودها بعد غياب طال زمنا. تكاثف الصمت في الطابق الثاني لبرهة وكأن الخطوط اللامرئية بيننا تنقل مشاعر الود عبر الأثير، تحمل بين طياتها اكوام الاشتياق.
لقد أعادني هذا اللقاء غير المرتقب الى زمن جعلني افتح صندوق ذكرياتي مجددا، وان اتطلع الى بدايات الستينيات، عندما كنت شاباً في مقتبل العمر يخوض غمار تجربة فريدة في بحر الحياة الجديد المشرق، في بلد طالما حلمت بزيارته. بلد يتطلب من الفرد ان يتأقلم مع ثقافات جديدة، ولغة اجنبية غريبة عني، بل هو عالم يفتح امامي طريق المستقبل الواعد والطموح الممهد.
يجب على المرء ان يتعلم اللغة الروسية قبل دخول الجامعة. لذلك بدأت مسيرتي الأكاديمية في جامعة اللغات كمرحلة تحضيرية في طشقند. في هذه الجامعة بالإضافة الى اللغة الروسية، كانت هناك أقسام للغات أخرى بما في ذلك اللغة العربية. لقد ضمت الجامعة في اروقتها طلاب من جميع انحاء العالم وكذلك من جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
قررت عمادة الجامعة تخصيص يوما للطلاب من اجل التعرف على بعضهم البعض. وقد تم ذلك بالفعل في أمسية احتفالية لا يمكن للذاكرة محوها، خاصة عندما سقطت عيني في وسط هذا التجمع الطلابي على فتاة متوسطة القامة ذو مظهر شرقي، تتميز بالرصانة والاتزان. لا يلفت لبسها اي انتباه، كانت ترتدي فستان بني اللون مزركش بمربعات حمراء يغطي جزء قليل من الركبة. اما شعرها فكان يميل الى اللون الكستنائي.
مشيت نحوها بخطوات بطيئة حتى دنوت منها حيَّتها باللغة الروسية لانني كنت قد تعلمت بعض الجمل البسيطة. قلت:
- ازدراستڤويتيَ. تعني مرحبا باللغة الروسية.
رددت بنبرة نسائية لطيفة:
- ازدراستڤويتيَ
قلت بالروسي:
- ممكن ان نتعرف.
قالت وهي تمد يدها الناعمة باتجاهي:
- بارنو.
قلت بالروسية:
- اسمي قاسم من العراق.
فاجأتني بقولها وابتسامة عريضة على محياها:
- إذن أنت تتكلم العربية… نطقت هذه الجملة باللغة العربية.
ساورني شعور الفرح عندما تحدثت العربية لان كلماتي الروسية قد نفدت وقلت:
- هل تدرسين هنا في الجامعة قسم اللغة العربية.
قالت:
- نعم.
عندما رأيت بعض الشباب يرقصون مع معارفهم وصديقاتهم، تجرأت على دعوتها للرقص معي.
قالت وابتسامة بهيجة تضيء وجهها:
- بكل سرور.
وأثناء الرقص قالت:
- اذن انت تتكلم اللغة العربية وهذا شيء جيد.
وأردفتْ قائلة:
- نستطيع ان نساعد بعضنا البعض انا بالروسي وانت بالعربي.
بعد هذه الأمسية الجميلة استمرت لقاءاتنا وتضاعفت جهودنا نحو تطوير لغتنا. لقد ساعدتها كثيراً في تطوير اللغة العربية وتنمية تقبلها الحسي لجوهر اللغة حتى تمكنت من الحصول على وظيفة بصفة مذيعة في قسم اللغة العربية في إذاعة اوزبكستان. لقد تم تكليفها بقراءة النشرة الإخبارية باللغة العربية.
مكثتُ في طشقند لمدة عام لدراسة اللغة وانتهت المرحلة التمهيدية، عدت الى دراستي الحقيقية في كلية الطب في لينينغراد. خلال تلك الفترة تواصلنا مع بعضنا البعض عبر الرسائل البريدية، وكانت هناك فترة انقطاع عرضي بسبب دراساتي العديدة والتطبيقات العملية في المستشفى.
قلت لها:
- مفاجأة سارة جدا يا بارنو.
قالت:
- شكرا، فلنتحدث بالروسية بعد الآن.
قلت لها:
- اعتقد انت منهكة جدا الان بعد ان قطعت مسافة طويلة من طشقند.
قالت:
- كلا، لقد سافرت الى موسكو اولاً حيث زرت زوجي الاوزبكي. اخبرته انني ما دمت قريباً من هنا، أود ان أزور صديقاً قديماً درس في طشقند سابقا وهو الآن في لينينغراد، فقلت له انني عرفتك قبل ان اتعرف عليه. وها تجدني امامك هنا الان.
كان هذا اللقاء لقاءً حميميا بل أستطيع القول الوفاء اللامتناهي الذي يتسم به هؤلاء الناس. أمضينا وقتا ممتعا ونحن نمشي جنبا الى جنب في هذا الليل المعتدل والرائع في شوارع لينينغراد.
طفقنا نتحدث ونتذكر ايام طشقند وحدائقها الجميلة ومطاعمها المتميزة بأكلة البلوف ومراقصها البهية الهادئة ومسابحها الواسعة. ثم افترقنا في المساء واتفقنا على ان نلتقي غدا عند محطة القطار الى موسكو.
وفي اليوم الثاني بالفعل التقينا وجلسنا في بوفية جميل وتناولنا الافطار وتحدثنا عن حياتها الحالية ومشاريعها المستقبلية. ومشينا نحو رصيف القطار المتجه الى موسكو. توقفنا للحظة في انتظار وقت المغادرة. وبينما كانت تتحدث، وفجأة تهدج صوتها فاكتست هيئتها سيماء الحزن. كان تتكلم والكلمات تنسال من بين شفتيها بتأنِ وأسى. قالت:
- عزيزي قاسم سوف يكون هذا آخر لقاء بيننا وربما لن نلتقي ابداً.
انهمرت الدموع من عينيها. شعرت بغصة وحسرة في نفسي. وسالت المشاعر في متاهة الحزن. التقطتْ صورة لها من حقيبتها اليدوية وسلمتها لي ولكن قبل ذلك كتبت عليها.
- اذكرني واذكر ايام طشقند كلما تنظر الى صورتي. وانا لن انساك ابداً.
ثم قالت:
- إذا انجبتُ ولداً، فسأسميه قاسم. وإذا ولدت طفلة سأعطيها اسماً اوزبكياً.
في هذه اللحظة امتزجت العواطف وأصبح ذهني مشلولاً، وكأن كلماتي غرقت في لعاب فمي امام كلماتها الصادقة والمعبرة عن ذاتها الإنسانية.
قلت لها:
- كم انت عظيمة يا بارنو سوف افتقدك حقا… انتظري لحظة رجاءً.
كانت امرأة في الخمسينيات من عمرها واقفة على جانب الرصيف تبيع الزهور. اشتريت منها باقة من الورود الحمراء وقدمتها لها كهدية لذكرى هذا اللقاء الرائع. قبلتني وقبلتها فكان ذلك اللقاء هو الوداع الأخير.