السيمر / فيينا / الخميس 26 . 10 . 2023
توفيق التونجي
التعددية الثقافية في مجتمع مدينة كركوك تكاد ان تكون نادرة بالمقارنة مع المدن المعمورة الأخرى وربما تشبها مجتمع العاصمة أربيل رغم انها تغيرت في الآونة الأخيرة. اللغة الثقافية ليست اللغة القومية للشعوب بل هي لغة دارجة يومية وما يسمى لغة الشارع تستخدمه جميع القوميات. مجتمع مدينة كركوك تحت الحكم العثماني وحتى نهايات الحرب العالمية الاولى تعددي من النواحي القومية والدينية وكذلك الطائفية. هنا عاش المسلم السني والشيعي والمسيحي السرياني والكلداني واليهودي الموسوي والكاكائي والايزيدي والعربي، الكردي، التركماني، السرياني والارمني معا في امن وامان ووئام تام. المجتمع في هذه المدينة كمتحف ثقافي يلتقي فيه جميع الامم. مع انتشار الافكار اليسارية في العراق بعد اعلان قيام جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ونتيجة لتواجد الجيش الروسي في مدن حدودية مثل خانقين تزايد وتيرة الانتماء الى اليسار وتأسس لاحقا في الاربعينات الحزب الشيوعي العراقي واحزاب يسارية كردية ك حزب هيوا و شورش. تأثر شباب كركوك كذلك بالأفكار اليسارية وبدا تجمعاتهم الثقافية تأخذ طابعا امميا في هذه المدينة ذو التعددية القومية والثقافية. تجمع الشباب ومن جميع القوميات ينهالون في قراءة ما انتجه الادب العالمي ومناقشة القضايا السياسية وطبعا انباء الحرب العالمية الثانية وصراع الافكار في العالم. كانت ثورة 14 من تموز عام 1958 كبوابة كبيرة فتحت على مصراعيها فيما يخص حرية الراي والتعبير. كان احد اهم افرازات تلك الفترة تجمع ما يسمى ب جماعة كركوك الادبية (راجع مادتنا المنشورة حول المجموعة في الحوار المتمدن تحت الرابط:
www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=210105&nm=1
لكن ظروف المدينة تغيرت بعد مرور عام على الثورة وتغير المجتمع اذ بدا الاستقطاب القومي ينتشر شيئا فشيئا بين ابنائها اثر الحوادث المؤسفة ابان الاحتفال بمرور عام على الثورة. كانت من ابرز نتائجها نمو ما يسمى الشعور القومي وخاصة بين القوميات الثلاث الاساسية اي العرب والكرد والتركمان وبدرجة اقل بين المسيحيين من السريان.
هكذا استمرت حال المدينة بعد صعود التيار القومي العربي لسدة الحكم ابان حكم عبد السلام عارف وحتى نهايات حكم البعث القومي 2003. الجدير بالذكر ان المعلمين في المدارس كانوا يستخدمون اللغة الثقافية اي التركمانية في شرح الدروس وكان القلة منهم من القومية العربية الا ان بعد انقلاب شباط عام 1063 وتبني السلطة الفكر القومي العربي وافكار الاتحاد الاشتراكي العربي المصري وبتأثير الرئيس جمال عبد الناصر استقدم بعض المعلمين المصرين للمدينة و كذلك تم تعين العديد من رجال الدين لمعرفتهم العربية قراءة وكتابة كمعلمين في المدارس الابتدائية. كانت مدينة كركوك حتى بدايات السبعينات يعيش فيها ابنائها في شبه خصام لكن لم يحصل اي اشتباكات بين ابنائها. ثم بدأت بالتغير والانقسام حيث بدا كل قومية تنعزل لصالح اللغات القومية للأبنائها كنتيجة مباشرة لاتفاقية آذار من عام 1970 حيث اعلن انذاك الحكم الذاتي ل كردستان ولينتهي الصراع المسلح الذي خاضه الكرد من اجل نيل حقوقهم العادلة ومنذ عام 1961 وفي نفس المسار حصل التركمان و السريان على حقوقهم الثقافية.
اللغة التركمانية السلسة كانت لغة المدينة الثقافية وبقت جزئيا لحد يومنا هذا يتحدث بها الكرد والعرب والسريان والأرمن وهذا ادى الى الاعتقاد لاحقا بان ابناء المدينة كلهم من التركمان. الا ان الحال تغير بعد اتفاقية آذار وكما اشرت لصالح تبني اللغات القومية حيث كان للاتفاقية تأثيرا مباشرا على ما يسمى الوعي القومي لقوميات المدينة حيث بدا كل قومية تدرس لغتها القومية وتكون شخصيتها الثقافية المستقلة. هذه الحقيقة يتناساه ابناء المدينة عند الحديث عن عائديه المدينة القومية والسياسية. أما الإحصائيات التي اجريت لسكان المدينة فقد اعتمدت على اللغة المتداولة في البيت وليس على الأصل القومي للأفراد مما ادى الى نتائج متضارب وعلى خلاف لا يزال نقاشاتها قائمة ومستمرة لحد يومنا هذا.
الدولة العثمانية رغم كل سيئاتها لم تعتمد القومية في تأسيسها بل كانت إسلامية بحته وبذلك وصل الكثير من القوميات الغير تركية للقيادة وحتى المماليك الذين قادوا المنطقة بأسرها هم من ارومة قوقازية وأوربية ومن البلقان والعديد من امهات السلاطين لم تكن من القومية التركية بل من اوربا ومن البلقان ومن الجدير بالذكر في هذا السياق ان والدة السلطان محمد الفاتح هما خاتون هي من رومانيا وكانت جارية اسلم والدها واطلق عليه تسمية “عبد الله” . الدولة العثمانية بقت تعددية ثقافيا حتى سنوات ما قبل الحرب العالمية الاولى حيث بدا السوس القومي يدخل الى هيكل الدولة وشعوبها وانتهى بسقوطها واحتلالها وتقاسم البريطانيين واليونانيين والفرنسيين و الروس على معظم أراضيها. اللغة العثمانية القديمة تركيبة هجينة من لغة المغول والأرمن والفارسية والعربية والكردية والسريانية والرومية اليونانية وتدرس لحد الان كلغة مستقلة في مدارس تركيا وهي مغايرة تماما عن اللغة الرسمية لتركيا الاستانبولية. الجدير بالذكر ان حملة الفكر الاسلامي في تركيا والحزب الحاكم يحبذون استخدام اللغة العثمانية القديمة أما التركمانية فهي لغة مستقلة بتركيبتها اللغوية والصوتية وقواعدها (راجع كتاب عبد اللطيف بندر اوغلو في قواعد اللغة التركمانية) مستقلة تماما من لهجة إستانبول اي اللغة الرسمية لتركيا الحديثة رغم وجود كلمات مشتركة ذو أصول لغوية مغولية. وتعتبر الأذرية الأقرب لغويا الى التركمانية . المدينة تمكنت وعبر العصور التحدث بلغة التركمان وحتى في القرى والأرياف وكان السيدة التركمانية مفضلة للزواج ولذا نرى العديد من اغوات الكرد تزوجوا من تركمانيا ت وحتى العرب منذ ان انتقل عاصمة الخلافة العباسية من بغداد الى سر من رأي “مدينة سامراء ” تقربا من الأتراك حيث أهل زوجته الخليفة السلجوقية التركية “شجاع” اَي الخليفة العباسي المتوكل (أبو الفضل جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور) .
اللغة الثقافية انتج ادبا مكتوبا بالتركمانية وكان الشعراء مع انتمائاتهم القومية المختلفة ينشدون بالتركمانية وحتى يغنون بتلك اللغة. اليوم يقوم القوميين الغلات من المستتركين اعتبارهم تركمانا لكونهم كتبوا بالتركمانية وتغنوا بهذه اللغة الجميلة و الكركوكيين ادرى بشعاب مدينتهم لذا لا اذكر أي اسم لشاعر أو أديب أو مطرب. اما جماعة كركوك الادبية فان جل انتاجها الادبي باللغة العربية التي كانت لغة المطبوعات والكتب وحتى النشر ان كان في القاهرة او في بيروت وغالبا نرى بعض النصوص بلغات القومية لأعضاء المجموعة ولكنها حديثة.
يبقى ان نعلم بان اللغة ليست لها اي ارتباط قومي بل هي مجرد اداة للتخاطب والتفاهم فها هي ملاين من الشعوب تتحدث بلغات ليس لها صلة بها وربما هي لغة المحتل والمستعمر ان كانت تلك اللغة انكليزية واسبانية وفرنسية وعربية وبرتغالية وايطالية والكثير الكثير.