د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
بعد مضي قرابة شهر على اندلاع انتفاضة القدس الثانية، واتساع نطاقها، واشتداد أوارها، وتعدد وتنوع عملياتها، وتنافس شبانها وشاباتها، مخطئٌ من يظن أن الأوضاع في فلسطين المحتلة من الممكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، وإن كان هذا هو حلم حكومة الاحتلال، التي باتت تعض أصابعها ندماً، وتتمنى أن ما كان ما صار، وتتحسر على أوضاعٍ كانت تسيطر عليها، وظروفٍ كانت تصنعها وتهيمن عليها، ولكنها تفاجأت أن سحرها قد انقلب عليها، وأن خيوط اللعبة قد أفلتت من بين يديها، وأن كرة اللهب تكبر يوماً بعد آخر، وأن إمكانية السيطرة عليها أصبحت صعبة، فضلاً عن العجز التام عن إطفائها وإنهاء فعالياتها، وقد بدأت أصواتٌ إسرائيلية عديدة تعلو وترتفع، وتنتقد وتعترض، وتحمل الحكومة ورئيسها كامل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد.
وعليه فقد بدأت الدبلوماسية الإسرائيلية تنشط في السر والعلن، مع الحلفاء والأصدقاء ودول الجوار ومع السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تحاول فيه مخاطبة عواصم القرار الدولية الكبرى، وتطلب منهم التدخل السريع والفاعل، ليساعدوها في الخروج من هذا المأزق، وإقناع الفلسطينيين بضرورة التراجع عن انتفاضتهم، والكف عن فعالياتهم، حفظاً لحقوقهم، وحقناً لدمائهم، وصيانة لمنجزاتهم، في الوقت الذي يهددون فيه السلطة الفلسطينية ورئيسها بضرورة استنكار الانتفاضة وإعلان عدم تأييدهم لها، وضرورة التنديد بعمليات الدهس والطعن ووصفها بأنها عمليات إرهابية.
تشعر الدول الكبرى الراعية للكيان الصهيوني والحريصة عليه، أن نتنياهو وحكومته قد أضروا بمصالح شعبهم، وأنهم أساؤوا استخدام سلطاتهم، وارتكبوا في القدس حماقاتٍ كبيرة، وتصرفوا في السياسة بخفةٍ وسذاجةٍ وسخفٍ، دون تقديرٍ حكيمٍ للظرف والمخاطر المحتملة، وأدخلوا المنطقة في دوامةِ عنفٍ جديدة كان من الممكن تجنبها، فكانوا بقراراتهم سبباً في انفجار الأوضاع وتصاعد عمليات القتل المتبادل بين الطرفين.
وترى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية أن هذه الحكومة بسياستها قد أحرجتهم، ووضعتهم في مواقف محرجة ومآزق صعبة، ولهذا بادرت عواصمها إلى إرسال وزراء خارجيتها إلى المنطقة، للاجتماع بمسؤولي الطرفين معاً، والتوسط بينهما لإيجاد حلولٍ مشتركة من شأنها أن تضع حداً للأحداث، وأن تنقذ المنطقة من انهياراتٍ أكبر، وأن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل انفجارها، وهو ما يأمله الكيان الصهيوني ويتمناه، ويدعو أن تكلل جهود الوسطاء بالنجاح، وأن يتمكنوا من إخماد ألسنة النيران التي تتصاعد، والتي يبدو أمامها عاجزاً وغير قادرٍ على تطويقها أو الإحاطة بها.
كان بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة من أوائل المسؤولين الكبار الذين أطلقوا صيحة الخوف والقلق على الكيان الصهيوني ومستقبله، وإن بدا أنه حريصٌ على الفلسطينيين أيضاً وقلقٌ على مصالحهم، ومنزعجٌ من حوادث القتل التي يتعرضون لها يومياً، ، وخائفٌ على مستقبل المفاوضات والحوارات بينهما، إلا أن زيارته كانت في حقيقتها استجابة للنداءات الإسرائيلية الخفية، التي صدرت عنهم بصوتٍ خافتٍ، لكنه وغيره من المسؤولين الكبار يستطيعون سماعها، ويدركون جديتها، ويؤمنون بضرورة الإصغاء لها، فهب على عجلٍ لزيارة المنطقة، واجتمع مع المسؤولين من الجانبين، ودعاهما إلى التهدئة وضبط النفس.
عودة الحياة في المنطقة إلى طبيعتها، وإلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة، حلمٌ إسرائيلي حقيقي، فهم يريدون الخروج من هذا المأزق، وضبط الأوضاع كما كانت، والعودة إلى سياسة الخطوات التدريجية المتدحرجة، التي يستطيعون من خلالها تنفيذ ما يريدون بصمتٍ وهدوء، دون صخب الزوار وجلبة المستوطنين، وتطرف المتدينين وعنصرية وعنف طلاب المدارس الدينية.
كلف الإسرائيليون بان كي مون أو هو أدرك هذه المصلحة بنفسه وتطوع لها من تلقاء ذاته، وأراد أن ينقلها إلى المنطقة بلسانه، وكأنه حريصٌ حكيمٌ، ومسؤولٌ أمين، فإنها في النهاية مصلحة إسرائيلية ومنفعة يهودية أو صهيونية لا فرق، فما كان قبل الانتفاضة بالنسبة لهم مكسبٌ ومنفعة، والعودة إليه حكمة بالغة، وإلا فإن المضي والاستمرار، والتعنت والتصلب، سيؤدي بهم إلى خسارة ما بين أيديهم وما كان قبل الانتفاضة لهم، وعلى هذا يجد بان كي مون ويسعى.
إنها نصيحة شعبيةٌ فلسطينيةٌ صادقةٌ خالصةٌ، نقدمها إلى بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، بأن يكف عن دعوته الفلسطينيين والإسرائيليين إلى وقف الاعتداءات المتبادلة، والقتل المشترك، والعودة إلى طاولة المفاوضات، فهو بدعوته هذه يظلم الشعب الفلسطيني، ويساوي بين المقاومة الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي، ويصف عمليات الطرفين بأنها عمليات عنفية، في محاولةٍ منه لاسترضاء الإسرائيليين ومنع غضبهم، في حين أنه يعلم ويرى أن الإسرائيليين جميعاً، جنوداً ومستوطنين وعامةً، يقتلون الفلسطينيين في الشوارع، ويدعون أنهم يدافعون عن أنفسهم، ويصدون الخطر عن مواطنيهم.
وعليه أن يعلم أن الفلسطينيين ليسوا يائسين ولا محبطين، وأنهم لجأوا إلى خيار القهوة تعبيراً عن يأسهم من مسار التسوية، بل إنهم لا يريدون العودة إلى طاولة المفاوضات، ولا إلى الحوار مع العدو الصهيوني، وأنهم قد ثاروا على خيار التسوية، ورفضوا التنسيق الأمني، وطالبوا السلطة الفلسطينية بالامتناع عن لقاء الإسرائيليين والتفاوض السياسي معهم، ودعوها إلى وقف كل عمليات التنسيق الأمني معه، ويخطئ أكثر عندما يحذر الشعب الفلسطيني من مغبة الاستمرار في الانتفاضة “العمليات العنفية”، التي يرى أنها تضر بمصالح الفلسطينيين وتقوض مساعيهم للوصول إلى دولة مستقلة.
وندعوه إلى أن يكون عادلاً ومنصفاً، وأميناً وصادقاً، فهو في موقعٍ يوجب عليه أن يكون نزيهاً وجريئاً، فلا يخاف ولا يجبن، ولا يداهن الإسرائيليين ولا يتملقهم، فهو يعلم أن الشعب الفلسطيني مظلومٌ ومضطهدٌ، وأنه يعاني ويقاسي من الاحتلال الجاثم على صدره، ويعلم أن العدو الإسرائيلي ظالمٌ وباغي، وقاتلٌ ومعتدي، فلا ينبغي أن يكون بوقاً له، ولا أداةً في يده، ولا لساناً يعبر من خلاله، وملا مسؤولاً أممياً يشرع لهم جرائمه، ويسكت عن انتهاكاتهم وتجاوزاتهم.