الرئيسية / ثقافة وادب / حفر حياتنا ومصائدها قراءة انطباعية في رواية “حفرة السلمان” لصالح مطروح السعيدي

حفر حياتنا ومصائدها قراءة انطباعية في رواية “حفرة السلمان” لصالح مطروح السعيدي

السيمر / فيينا / الاحد 23 . 06 . 2019

 

الدكتور صالح الطائي/ العراق

حتى قبل أن يمتهن أجدادنا العمل السياسي، كانوا قد ابتكروا لمناوئيهم ومنافسيهم حفرا ومصائد ليلقوهم بها، فيتخلصون من خطرهم، وكانوا أحيانا يلقون بها الأبرياء من وغيرهم، ومن لا ذنب لهم لكي يرهبون الناس بأفعالهم، ويزرعون في نفوسهم الخوف، ويدخلوا الوجل إلى قلوبهم والخشية إلى أرواحهم، لكي لا يفكروا بتحديهم أو الكيد لهم، أو مجرد معارضتهم، والعمل على خلاف مناهجهم، ولذا لا غرابة أن تجد السجن شاخصا في حضارتنا الجاهلية، حيث كان للحارث بن عبد بن عمر بن مخزوم سجن في جبل نفيع بمكة، كان يحبس فيه سفهاء قومه. وكان لحجر بن الحارث الكندي، والد أمرئ القيس، سجنا حبس فيه بعض سادات بني أسد لأنهم ثاروا عليه. وفي الشام حبس عمرو بن جفنة الغساني بعض القرشيين بطلب من عثمان بن الحويرث الأسدي بسبب رفض قريش تنصيب الأخير ملكاً عليها من قبل قيصر الروم. وفي الكوفة اتخذ المناذرة سجن الصنّين لسجن أشخاص من بينهم عنترة بن شداد وعدي بن زيد.

ولا غرابة في أن تجد حضارتنا الإسلامية وقد سارت منذ أيامها الأولى على النهج نفسه، صحيح ان النبي لم يكن له حبسا، ولا لأبي بكر، ولكن عمر الذي استخلف في شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية، أي بعد مرور ثلاث سنوات فقط على موت النبي؛ سرعان ما أحيا موروث السجون، واتخذ مكانا، وصيره سجنا، مثلما ورد في مجموع فتاوى ابن تيمية.

أما في زمن الأمويين فقد توسع الحكام في اتخاذ سجون عامة وخاصة، علل البعض وجودها بسبب تزايد الحركات السياسية المناوئة للسلطة، وكان معاوية بن أبي سفيان أول مَن أنشأ السجون بشكلها المعروف اليوم، وخصص لها حراساً.

وفي مكة تماهى معهم عبدالله بن الزبير، فبنى سجناً خلف دار الندوة، عُرف بسجن عارم نسبة إلى سجين قتل فيه.

وعلى منوال سجون معاوية، أنشأ الأمويون سجوناً في الحجاز، وحوّلوا دار عبد الله بن سباع الخزاعي في المدينة إلى سجن عُرف بسجن ابن سباع. كما تحوّلت دار ابن هشام في المدينة إلى سجن في أواخر العصر الأموي. وأنشئ سجن في عسفان بين مكة والمدينة في خلافة هشام بن عبد الملك، وسجن آخر في تباله قرب الطائف. وكذلك ظهر سِجن في العقيق من بلاد بني عقيل، وسجن دوّار في اليمامة.

أما في العراق فقد كان الحجاج خلال السنوات العشرين التي عين فيها واليا على العراق (السنوات 70ـ 95هـ) قد اتخذ سجونا عديدة، بعضها مطامير لا يعرف المسجون فيها ليله من نهاره، وبعضها لا تقي من حر ولا برد، وقد مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفا عزباوات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد. وبعد موته عُرضت السجون، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً، لم يجب على واحدٍ منهم قتلٌ ولا صلبً.

منذ عصر الحجاج فصاعدا وصولا إلى الاستعمار العثماني، ثم الحكم الملكي وحكم المستعمر الإنكليزي للعراق، تطورت السجون كثيرا، وتنوعت مصادر التعذيب، وكانت بعضها في منتهى السوء، حتى أن سماع اسمها يجعل الأعصاب تنهار، ومنها سجن (نقرة السلمان) الذي أنشأه الانكليز، وهو يقع في محافظة المثنى (السماوة ـ ناحية السلمان) في منطقة صحراوية على أطراف الحدود العراقية السعودية، في منطقة نائية تحميها الصحراء المترامية، التي تهدد من يفكر بالهرب بموت بطيء.

وقد أصبح سجن نقرة السلمان أنموذجا تقاس صعوبة باقي السجون نسبة إليه، وإلى ما يعانيه السجناء وعوائلهم، ولاسيما بعد أن قام النظام البعثي في صبيحة 3 تموز 1963 بإصدار مرسوم جمهور يقضي بترحيل سجناء السجن رقم واحد وهو أحد سجون معسكر الرشيد إليه، وغالبية السجناء كانوا من الشيوعيين، وقد أرسلوا إليه لغرض تصفيتهم.

امتدادا لهذا التاريخ المفعم بالأذى والعذاب، وإحياء لذكرى الوجع القديم السابت في النفوس، كتب الروائي الواسطي الأستاذ صالح مطروح السعيدي روايته الرمزية (حفرة السلمان) التي تؤرخ لهذه المرحلة الحساسة من تاريخ شعبنا وحركاته الوطنية، وأحزابه التقدمية، ومثلما تؤرخ لنظمه القمعية الإجرامية، لتكون لبنة أخرى في المنجز السياسي لهذا الكاتب اليساري المعروف، تؤرخ لصور تزدحم بها ذاكرته لأصدقاء وزملاء ورفاق ومعارف وأقرباء، طحنتهم طاحونة العجرفة السياسية، ولتكون (نقرة السلمان) صورة للحياة التي مرت على العراقيين في عقود ولت، بعدما تحول الوطن كله إلى (حفرة)، لا وجل ولا مانع من أن تسمى (حفرة السلمان).

حفرة السلمان استذكار لمرحلة تاريخية خطيرة وشائكة ومعقدة من مراحل تاريخ العراق الحديث، سطرها الأديب الواسطي الكبير صالح مطروح من ذاكرته كونه أحد المشاركين بصنع أحداثها، كانت أحداثها مزدحمة بالحب والعذاب، بالعلاقات السوية والمنحرفة، بالسادية والرحمة، بالحرية والانعتاق ضد العبودية والهمجية والتقييد وتكميم الأفواه وسلب الحريات. تم استدراك ذلك كله في صفحات تئن، تتألم، تتوجع، تكاد تسمع آهات وجعها، صرخاتها، شكواها، منذ فصلها الأول “الدخول الى الداخل”، حيث تتلمس تحدي الألم ومواطن الوجع:

“أنا وأنت وجعان فوق سفوح الألم.

أنت وأنا نافذتان نخرت ألواحهما ريح الغروب.

أنا وأنت دمعتان في مشابك الدمع تتأرجحان.

إرادة تشظت، ثم التمت، فتعلقت بأودية الحياة؛ إرادتان.

أنا وأنت مصير واحد مكبل بقيود لا نقوى على قد أغلالها (صفحة: 11)

حيث تستشف الوجع من خلال تلك الكلمات التي شكلت النص: وجعا.. الألم.. نخرت.. دمعتان.. مصير.. قيود.. أغلال.. مصير. وهي كلمات تدل على خيال مشبع بالوجع والآهة، ويسعى لأن يخرج كل ذلك الوجع ليتشاركه مع الآخرين عسى أن يشعر بالراحة التي كان ينشدها منذ أيام وعيه الأول، في ريعان شبابه، ولحين أن سلبه الزمان مكمن قوته، ولم يبقِ له سوى هيكلا يكابر باستحياء خوف أن يشمت به الأعداء.

وهو حتى في محاولة استرجاع الذكريات الجميلة كما في الفصل الثاني “امرأتان”

عجز عن مغادرة مفردات الوجع: “ببياض يدي، بحجم تواريخ الأسى، باحتشاد اسئلتي على أرصفة التشظي، ببقايا ارادتي، بأسمال الحروب، بقبعة الحضارات المثقوبة من الوسط، خارج أنا عن وطني، بل محرر من إسار تعلقي به، محمل بفيض انكساراتي، باشتعال سنواتي، برماد احتراقاتي، ذاهب بصمت ذهولي الى منفاي، بكل أعبائي وإسقاطاتي(ص: 10)

هكذا تكرر معزوفة الحزن: تواريخ الأسى.. أرصفة التشظي.. بقايا.. أسمال.. مثقوبة.. إسار.. فيض انكساراتي.. اشتعال سنواتي.. رماد احتراقاتي.. صمت ذهولي .. منفاي.. أعباء.. إسقاطات.

هكذا تحتشد كلمات الوجع لترسم فصول الرواية، فصلا بعد آخر، وتسير بك من محطة تسمع فيها صراخ الأجساد المعذبة إلى محطة تسمع فيها صراخ الضمائر المستلبة، حينما يتعامل عنصر الأمن المنزوع الضمير مع فتاة في مقتبل العمر، فيسرق منها عفتها وبرائتها باسم الدفاع عن النظام، والنظام نفسه يبارك له عمله الدنئ.

إن الغوص في فصول الرواية السبع في قسمها الأول، وفصلي ورسالتي القسم الثاني، يتنقل بك من المواجهة، إلى عجلات الموت، إلى عام المرارة، ليستقر في الخاتمة في حفرة السلمان، فمع كل الألم المحتشد في فصول الرواية بما يشعرك وكأن الهزيمة حلت بالخير والصلاح والوطنية والعفة ومحاسن الأخلاق، ستجد في خواتيمها ولادة جديدة لأمل دافق بالمتعة، يحفزك لأن تؤمن بأن الحياة سوف تنتصر على الموت، والخير سوف ينتصر على الشر مهما طال الصراع بينهما: “الله ما أجمل الحياة حين تجتمع تحت خيمتها جميع التناقضات” (ص:349) هكذا أراد صالح مطروح لروايته أن تعلن انتصار الحب والجمال وإرادة الحياة على دعوات الموت الصفراء: “ازحت الرمال بيدي وثمة ضوء شفيف يتدفق بعيني. عملت بجد ومثابرة، أزحت طبقة الأرض، حفرت حفرة تكفي خروج جسدي، واخيرا استطعت أن ألج في ذلك الشق واخرج غلى الحياة”(ص:350).

تقع الرواية في 353 صفحة نصف أي فور، تزين واجهة غلافها لوحة جميلة ومعبرة للمصممة أمينة صلاح الدين، وقد تولت دار تموز ديموزي السورية إصدارها ونشرها في عام 2019.

 

 

 

اترك تعليقاً