الرئيسية / مقالات / كارمين أُولَى القَمَرَيْن

كارمين أُولَى القَمَرَيْن

السيمر / فيينا / الاربعاء 30 . 10 . 2019

مصطفى منيغ / المغرب

الاحتقان امتد لكل مكان ، في قرى وأرياف المملكة المغربية مشيرا لما لا يُرْضِي الحكومة سماعه أو قابلة لتخيله حتى تصطدم كالعادة عند فوات الأوان ، القرويون تمكنوا من اجتياز خط الخوف بأمان ، فلم يعد لا “المقدم”ولا “الشيخ”ولا “القائد”ولا “رئيس الدائرة” قادرا على إيقاف مطالبهم العادلة كحمَلَة نفس البطاقة الوطنية الحاملين إياها مواطني المدن الكبرى وأولها العاصمة الرباط ، وقت الالتفات إليهم حان ، دون تأخير أو تملُّص أو ابتداع علل أو التلويح بعضلات رجال التدخل السريع أو البطيء ما دامت الأعصاب على حافة بركان ، إذ لم يعد أخر قروي موصوفا عند العبث بحقوقه ذاك الجبان ، بل ليثاً في صورة إنسان، متى غاب الإنصاف هذه المرة أيضا عن النظر إليه كواحد من أركان هذا الوطن .  

… مدينة القصر الكبير مستقبلها في ماضيها أما حاضرها فمرحلة منزوعة من التوقيت الطبيعي للزمن ، ربما تغيَّر المآل بتَكْنِيسِ مُسَبِّبِي لها الوَهَن ، وتَبَخُّرِ انعِدامِ الوَعْيِ لدى المشحونة جماجمهم بالتِّبْن ، القابلين بفُتاتِ المتطفلين على خزَّان ، مهما تسلقوا للتربع فوقه قهرهم عُلُوّ عمودِ ميزان ، كفتيه بين يدي أبسط قَصْرِيٍّ له في صلاحية الدفاع على حقوق المدينة المناضلة أرفع مكان ، متحدياً مَن سَعوا منذ سنوات اغتصاب خيراتها تقليدا لكل إبليس أو شيطان ، شأنهم في ذلك شأن من دخلوا في خبر كان ، اعتقدوا أن الفساد مطية تقحمهم مشيا بما غَنِمُوا لعالم النسيان ، فرفض الأخير توسيخ مقامه  باستقبالهم في السر أو العلن، فأصبحوا كمصير الحاليين مسخرة على كل لسان.

———————-

وصلنا وسلَّمنا الحصانين للمكلف بالإسطبل . بمدخل البيت قدَّمَت لي الخادمة رسالة قالت أنها من طرف ازابيل ، تركتني السيدة لأقرأ فحواها وسبقتني إلى الداخل . كتبت ازابيل قائلة : أستاذي الغالي ، تأخرتما في العودة ، فلحقتكما بالسيارة لأضبطكما معاً في جلسة غارقان لا شك في بحر الغرام كأنكما في قمة نشوة تؤرخان بها بداية حبكما وتدشنان عهداً تحيينه في انسجام وتناغم لا تفارقانهما إلاَّ وخلفكما  من البنين والبنات ما يملأ هذه الضيعة بضجيج افتقدته من زمان . لا ألومكَ أستاذي الغالي بقدر ما ألومُ نفسي حينما أتيتُ بك لمكان تستقر أنت فيه وأبتعد أنا عنه نهائيا حتى لا أواجه تلك اللقيطة التي أحضرها عَمِّي الهالك من ملجئ خيري  لتستحوذ على عقله في آخر أيام حياته ويكتب لها في وصيته ما أصبحت تتمتع به دون منازع . أنتَ مُدْرِكٌ لمعزَّتِكَ عندي ، كنتُ أصارعُ واحدة من أجلكَ فأَضَفْتَ للقائمة أخْرَى لتبعدني عنك ، أو هكذا تهيَّأ لي ، صراحة مجرد التفكير في البعد عنك أُصابُ بنوبة من القلق والحيرة ، لذا أطلبُ منكَ الالتحاقَ بي غداً لأطلعكَ على مشروع رحلة نتجوَّل فيها عبر العالم أنا وأنت فقط  نبدؤها من لحظة موافقتكَ ، لا تفكر في المصاريف لي ما يكفينا ويزيد . اترك لك غلافا تحت مخدة فراش نفس الغرفة يتضمن عنوان البيت ورقم الهاتف ، انتظرك لغاية ثلاثة أيام بعدها سَأْعْتَبِرُ نفسي فقدتُكَ وإلى الأبد.

… التحقت بي السيدة بعدما أحسَّت أنني أنهيتُ قراءة الخطاب لتدعوني للداخل حيث الغذاء جاهز، علما أن بالبيت طباخة أمينة لا تترك أحداً يقتربُ إليها أو يمس ما تقدمه مطهواً تحت مسؤولياتها التامة كما فهمت لاحقاً ، بداية سلمتها الرسالة لتقرأها كي تتيقَّن أنني لا ولن أخفي عليها شيئا يخصُّها في الدرجة الأولى ، سَرَّهَا ما فعلتُ ، وما أن قرأت فحواها حتى رمتها جانبا دون اكتراث . كلفت الخادمة بتقديم القهوى في صالون مُعِدٍّ خصيصا للسهرات العائلية تعلو جنباته أبواق مدفونة يشع منها ضوء أحمر خافت تنبع منها أنغام ألحان كلاسيكية هادئة، مصبوغة جدرانه بأزرق غَلَبَ عليه البياض، وبأرضيته سجاد إيراني الصنع في قطعة واحدة تغطي المساحة برمتها، ذو نافذة زجاجية كبيرة موشحة بأجزاء هندسية صغيرة من نفس المادة في ألوان عديدة  تجعل الإطار لوحة تشكيلية لا تُقدر بثمن ، ستارتها من قماش هندي إن فُتحت منحت للعين إطلالة عما يتمايل من نبات باندفاع عبير نبيل   شَكَّلَ حديقة جمعت من الورود المستوردة مشاتلها من بقاع شتى عبر القارات .

… جلست مقابلة لي فنفذ عقلي لما فتحته عيناها خِطَابَ تَوَسُّلٍ نابعٍ من رغبة خِصبة مسؤولة مُقَدِّرَة لما يحصل ومستعدة بما يلزم من قبوله بانضباط متحكم في وجدان مفعم بالطيبوبة والخير والشفافية واقتسام لحظات الحياة حلوها ومُرُّها دون تدمُّر أو ندم. فخاطبتها رجلا لا يهمه ما تملكه من ماديات لعزوفه المطلق عن امتلاك ما لم يعرق من أجله : “اقبلُ البقاءَ معكِ ما استطعتُ مساعدتك للخروج ممَّا أنت فيه بغير مقابل ، إن وفَّرتِ لي شرطاً وحيداً لا ثاني له ، أن تسمعي كلامي الذي يصبُّ في مصلحتك أنت لا غير ، فما ردُّك ؟؟؟.

“اخترتُكَ لنفسي حينما أطلعتُكَ على سِرِّي . تعلَّمتُ من الملجأ أن أفرِّق بين خفقان قلبي حينما يشعر بشيء يرضيه، ووقتما يحس بما لا يطيقه ، حَالما أراك سيدي أرتاح بارتياح ما في صدري يتحرك كأنه استرجع عافيته ، وكلما داهمني وهم ابتعادك عني يعاودني العلياء من جديد ، لذا خذ ما شئتَ مني وارحل بعيداً إن شئتَ ببطء قتلي ، أو كن انساني الطبع واعتبرني خادمة أستبدل أجرتي منك ببقائك معي ، وهذا يكفي لتختار” . “سأكون معك لا عطفا عليك بل محروما مثلك لنسعد معا أو نشقى، المهم أن نحيا في أمان ، وهذا عهد بيننا يوثق للبنود الثلاث : لا خيانة ، لا غدر، لا كذب”. ضحكت ضحكة فرح افتقدتها من سنوات ، منتقلة في جلستها للأرض لتُسمعني أوامرها التالية: بعد غدٍ سيصحبك السائق لمقر عملك لتقدم استقالتك وتتوصل بمستحقاتك جميعها ، ثم سيتوجه بك للفندق كي تحضرَ جميع متاعك وتؤدي ما عليك من كراء الغرفة التي كنت مقيماً فيها وختاما ستجدني في انتظارك بمكان يقودك إليه نفس السائق. “حاضر سيدتي العزيزة ، هل من أوامر أخري” ، أجبتها ضاحكاً ، فهمست في أذني : “أعتقد أنك لن تمانع في تنفيذها معي الليلة” .

 برشاقة تلقائية استأذنتني لحظةً لتعودَ طالبةً مني الخروج مع “أنْطُونْيُو” المشرف على كروم العنب المُوجّه للتصدير وفق العقدة المُبرمة معها ومصانع منتجة للخمور على مختلف ألوانها وأذواقها المغطاة أسواق مناطق لا يُستهان بمساحتها داخل إقليم كتالونيا ، أن أتفرَّج على جزء من أراضي الضيعة وفي ذات الوقت عدم الإحساس بمَلَلِ انتظار اجتماعها بي مُجدداً ، انطونيو قدم لي نفسه كخبير في زراعة الكروم ومتابعة معالجتها بما يلزم حتى وصولها مرحلة الإنتاج ثم المحافظة على دورة الأخير المُتكرِّرة لأطول مدة ممكنة ، وفق عقدة أبرمها مع صاحب الضيعة المتوفَّى الذي كان فلاحاً بطبعه شغوفاً بكل أنواع المزروعات عامة وبالعنب خاصة الذي وفَّر لميدانه كل الإمكانات من آليات وعَمَالَةٍ مُدَرَّبَة . بقى الحال على أصله (يستطرد الرجل قائلا بلغة اسبانية منطوقة بنكهة كتلونية) مع المالكة الجديدة المرأة الفاضلة التي تستحق منا نحن سكان المكان وعماله  كل الاحترام والتقدير . بالمناسبة واجب عليّ سيدي باسم الجميع أن أشكرك جزيل الشكر عن إخراجها من شيئين سيئين العزلة والحزن ، لذا نحن رهن إشارتك وطوع أوامرك .

مع بزوغ أولى خيوط الليل وانسلاخ النهار لحكمة مسخَّرة للمتحركين على الأرض لا يعرف عدد أصنافهم بدقة إلاَّ  خالقهم سبحانه وتعالى الحي القيوم ذو الجلال والإكرام . أعادني أنطونيو من تلك الرحلة ، المُساهمة حقيقة في استرجاع صَفْوَ ذهني لأفكرَ مع نفسي بنفسي للاستشارة قبل التقدم خطوة إلى الأمام داخل وضعية حمَّلتني الأقدار مسؤولية مسايرتها بالتي هي أحسن للخروج بنتيجة مقبولة من طرف المعنيين كيفما كانوا وأينما كانوا.

… من بعيد نسبياً تراءت لي أضواء تتلألأ في مكان وسط حديقة يلامس شريط نباتها الخلفي جدار الصالون الذي سبق الحديث عنه، وكلما اقتربتُ صدَمَ كياني شعاع من جمال أُنْثَى جاذباً توجُّهي صوبه فاغراً فمي من وقعِ المفاجأة ، انها ملامح السيدة ، هل في مقدور المساحيق  ونوع ثمين من الثياب أن تجمّل امرأة في الثالثة والثلاثين من عمرها إلى حد يصعب مقارنتها بما كانت تحدثني من ساعات ؟؟؟، أهو خيال ما اعتراني أم واقع عليَّ الاحتياط من سياق مجرياته . الأمر ليس عادياً ومع ذلك تجلّدت ، إذ في مثل المواقف تتجلى قوة الصمود المعزز بإرادة رجل لا تخيفه المظاهر الخارجية ولا ينخدع بسهولة ، يفكر بهدوء ، يحلِّل بعمق، يختار الأفيد ، يقرر دون تراجع وأخيرا ينفذ . أقبلت لتعانقني  فأبعدتها برفق معللا احتياج يداي للنظافة ممَّا عَلِقَ بهما من أتربة وغبار ، حرَّكت ناقوساً صغيرا وُجِذَ فوق طاولة  لتحضر على رنينه الخادمة كي تقودني لغرفة قي الطابق الثالث الذي نقلنا إليه مصعد كهربائي في ثواني ، الغرفة جدرانها الثلاث مغلفة بالفلين المُضغطة قطعه بفنية تنوه بمبتكرها ، أما الجدار الرابع المواجه الفضاء الخارجي للبيت تتقاسمه مرآة تلمع ونافذة بستائر تسطع ، في الوسط بركة  مشيدة على شكل دائري وفق علو يصل بضع سنتمترات بها كرسي مغلف بإسفنج مغطى بجلد ناعم خاص يستحمل البلل ، بينما رشاشات الماء الدافئ تتدلى من السقف في تنسيق وتناغم لا يتذوقهما الا العالم بمؤثرات ما يتضمنه المكان من كماليات على نفسية مستعملها، خاصة إن كان مثلي لم يشاهد ما يتنعم به الآن ولو في المنام ، لم تستغرب الخادمة ذهولي  وهي تستفسرني عن درجة حرارة الماء إن كانت تناسبني على ما هي عليه أو تزيد أو تنقص ، لانتبه لوجودها معي وحينما طلبتُ منها المغادرة ألحَّت عليَّ البقاء عملاً بأوامر سيدتها إتباعا لما يتطلب مثل الاستحمام من عناية تجعل منه مريحا للأعصاب منشطا للذهن مراعيا لما تختزنه الذات من رغبات . قبلتُ حضورها من باب الفضول لاطَّلع على نوعية الحياة وما يميزها من تصرفات لدى الطبقة الغنية المحتاجة لصرف أموال خيالية تمتعاً وابتهاجاً بكل يوم يمر من حياة أصحابها . الخادمة أحست بما يراودني من تفكير ظنَّت أنه غير متناسق مع إرادة السيدة التي خطَّطت لاحظَي بأمسية تظل محفورة في ذهني ما عشتُ ، لذا كسّرَت صمتي بحديث مهم أحاطتني من خلاله بسلسة من الحقائق أفادتني كثيراً حينما صارحتني القول : “أنا والسيدة من ملجئ خيري واحد حينما توفى زوجها ألحقتني بخدمتها لأكون العين التي تبصر مصالحها ، والأذن التي تسمع من اجلها، والحارسة القوية المحافظة على ظهرها من الأذى، ممَّا أهَّلني لأكون صندوق أسرارها، وما يخالج صدرها لحظة بلحظة ، انطلاقاً من هذا أؤكد لك سيدي أنها متعلقة بك لدرجة أبكتني وهي تعبِّر عن رجائها أن تكون أنت آخر من تراه عند مغادرتها الدنيا المغادرة الأبدية ، فأرجوك سيدي أن لا تكسر قلبها ، بل أن تحافظ عليها حفاظك على كنز إن خسرته خسرت أنسانة مستعدة لتفديك بروحها ، حكت لي السيدة عن كارمين إن كان الأمر يؤرقك  اجعل نفسك بين القمرين تمتع بما يشع منهما واترك الحياة تتدبر الباقي . لأمنحك الدليل أنني ثقتُ بك ثقة لا تشوبها شائبة ، أخبرك انها استدعت كل العاملين معها وعلى رأسهم مديرها المالي لتصرف لهم كهدية مرتب شهر كامل بمناسبة إقامتك معها أنيساً صديقاً خليلاً حليلاً أخاً رفيقاً عاشقاً زوجاً لا يهم ، المهم والأهم وأهم الأهم  أنك متواجد معها عملة واحدة بوجهين ، وإن كان للحب وصفاً أصدق لكان ما لقبتك به “حَقَّ عمري”. زد على ذلك أننا كعمال هذه الضيعة بما لنا وما علينا قرَّرنا الاحتفال بكما في قاعة متخصصة لمثل الأحداث السعيدة الكائنة بالطابق الثاني .

… أخذتي لغرفة نوم لتساعدني على ارتداء بذلة مبتاعة خصيصاً لي ما لبستُ مثلها أبدا ، وأخيرا وصلت اللحظة الحاسمة لأتجه حيت تنتظرني لؤلؤة رخَّصَ لها المرض لتبدو مشرقة الوجه ، طيبة الرائحة، أنثى بمعنى الكلمة، وكم كنت رائع الإحساس وأنا أُدْخِلُ السعادة على قلب مهدَّدٍ بالتوقف في صدر إنسانة فضلت ساعة الخروج من حياة الفانية وهي بين ذراعي .(يتبع) 

اترك تعليقاً