د . صادق اطيمش
القسم الأول
موجات الآلاف من البشر يغادرون اوطانهم واهلهم متجهين نحو المجهول الذي يربطونه بامل واحد بين كثير من من علامات الإستفهام حول هذا الأمل بالوصول إلى دولة اوربية، بل بعض الدول الأوربية بالذات والتي تتردد اسماءها بين هؤلاء اللاجئين. لماذا يحدث ذلك ، ولماذا بهذا الزخم الذي لا مثيل له عبر التاريخ ، ولماذا ينزح اهل دول بالذات دون غيرها؟ والكثير الكثير من هذه الأسئلة التي تلوح في الأذهان وكثيراً ما تفتقر إلى الجواب عليها. لا اريد في هذا المجال ان اكون منظراً بقدر ما انا ناظر لما جرى بالأمس حول الهجرة إلى اوربا بالذات وما يجري اليوم حول الهجرة إلى اوربا. وتنطلق هذه النظرة ليس من المعايشة النظرية عبر الأخبار وبعض ما يُكتب حول ذلك، بل من خلال بعض الممارسات العملية التي يمكن ان تكون لها صبغة عامة، وذلك بالنظر لما تكتسبه من مجريات تكاد تكون متشابهة في كل بلدان اوربا الغربية، وخاصة في المانيا.
من الطبيعي ان تقتصر الهجرة من بلدان تشترك جميعها في ميزة تشجع على هذه الهجرة والتي تتلخص بفقدان الشعور بالمواطنة الحقة في دول الهجرة هذه. فالحكومات الدكتاتورية او المتخلفة عن ركب المدنية العالمية، او تلك التي تدار من قبل سياسيين عجزوا عن ترسيخ شعور المواطنة هذا بين المواطنين بما يمارسونه من سياسات طائفية او عرقية، او تأثير المعاناة الإقتصادية وما ينتج عن ذلك من التعلق بالمغامرة التي قد يجد فيها مَن يركبها الأمل الوحيد بالخلاص مما هو وعائلته فيه . هذه الأسباب واسباب كثيرة اخرى قد تهيئ الأجواء الفكرية لخوض تجربة الهجرة هذه التي اصبحت تدر على البعض من المهربين مبالغ ضخمة قد تشترك فيها بعض مؤسسات هذه الدولة او تلك ، او بعض سياسي هذه الدولة او تلك. وهذا الأمر الذي يتعلق بوجود المهربين ونشاطهم المحموم في هذا المجال وحصولهم على المليارات من هذه التجارة بالإنسان ومصيره وحتى بحياته في كثير من الأحيان، يعتبر من اهم الأمور التي تساعد على هذه الهجرة وتؤجج لها بمختلف وسائل الدعاية التي يشكل الكذب والدجل لحمتها وسداها. والإنسان الذي يفكر بالهجرة تحت هذه الظروف يستمع برغبة إلى دعايات المهربين ليصيغها في مختبر خياله إلى حقائق يسعى لإقناع مَن حوله بها، إما لجمع المال اللازم لدفعه لهؤلاء المهربين، او لحث الآخرين على سلوك نفس الطريق والإكثار من المستعدين للشروع بالمهمة. وهذا الجهل بحقائق الأمور ينساه البعض الذي يرى نفسه في وضع لا يمكن ان يتعرض إلى اسوأ منه، حتى يعيش حقيقة الواقع الذي يجعل الكثيرين يندمون على ما قاموا به ولكن في الوقت الذي لم يعد ينفع فيه الندم.
الواقع المأساوي الذي يعيشه الإنسان في وطنه قد يصل حد اليأس في تحمله وتحمل عواقبه، خاصة إذا ما تعلق الأمر بمن يشعر بمسؤوليته تجاه عائلته واطفاله وأهله الآخرين. والحكومات التي تسمح ببلورة هذا الواقع في فكر المواطن مما يدعوه إلى ركوب موجة المجهول مفضلاً الموت في الغربة على الحياة في وطنه، لم تعد تحمل تلك الصفة التي يمكن ان تطلقها على ما هو متعارف عليه سياسياً تحت مفردة الحكومة. إذ اصبحت مثل هذه الحكومات لا تجد صفة لها، سواءً بين حكومات العالم وشعوبها، او بين شعوب هذه الحكومات نفسها، غير صفة اللصوص الأوباش الذين لا يردهم ضمير عن الإثراء على حساب الفقراء ولا تردعهم اخلاق عن ممارسة ذلك ما داموا على قمة السلطة السياسية، لأنهم فاقدي الضمير والأخلاق في آن واحد. لذلك فإن مثل هذه الحكومات هي السبب المباشر في خلق هذا الوضع المأساوي الذي يحاول ان يعلقه البعض على شماعة الغير متناسياً ان هذا الغير لم يجرأ ان يوظف هؤلاء الساسة المتسلطون على قمة الهرم السياسي لتنفيذ اجندته في اوطانهم دون ان يجد الإستعداد الكامل لديهم لأن يكونوا لصوصاً ومنفذي اوامر فقط، ما دام طريق اللصوصية المرتبط بالقمع وكل وسائل العنف يظل مفتوحاً امامهم ليقتسموا غنائم لصوصيتهم مع هذا الغير الذي يوفر لهم كل ما يحتاجون إليه من خارج اوطانهم سلاحاً كان ذلك او دعماً سياسياً دولياً او اي مساعدة اخرى تجعل هؤلاء الساسة في مأمن حين ممارستهم لمهنتهم اللصوصية هذه وفي وضح النهار ايضاً.
ولكن مّن هو هذا الغير؟ هل هو نفسه الذي يهاجر له اليوم مئات الآلاف من دول الهجرة التي تسود فيها هذه الأجواء المأساوية التي تجعل المواطن يتخلى عن وطنه؟ وإن كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا تفسير دعم هذا الغير للصوص الذين يتسببون بهجرة مواطنيهم، ثم يستقبل هذا الغير هؤلاء اللاجئين لحمايتهم ممن تسببوا في هجرتهم، ولم يكن هؤلاء سوى اصدقاء هذا الغير المدعومين منه عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. تبدو هذه المعادلة معقدة نوعاًما، إلا انها سهلة الفهم حينما نتناول حدودها بشكل علمي متأني يحاكي الواقع الذي نعيشه اليوم.
قبل كل شيئ يجب التأكيد هنا المرة تلو المرة بان عِلتنا فينا اولاً، وما هذا الغير إلا مَن وجد فينا من العلل ما يكفي لجعلنا مرضاء امامه لا نستطيع ان نستغني عن علاجه الذي جاءنا عبر حدود هذه المعادلة.
إذا ما القينا نظرة فاحصة على موجات الهجرة اليوم المتوجهة إلى دول الإتحاد الأوربي بشكل خاص، فإننا نستطيع ان نؤكد على سببين رئيسيين يشكلان الأكثر شمولاً بين كل اللاجئين تقريباً. السبب الأول هو العامل الإقتصادي بشكل اساسي، والعامل الأمني بالدرجة الأخرى. وهذان العاملان مرتبطان ببعضهما البعض حيث يمكن القول بانه لولا وجود احدهما لما وُجِد الآخر.
يمكننا تقسيم دول الهجرة إلى ثلاث مجموعات رئيسية. المجموعة الأولى هي دول البلقان التي يحاول مواطنوها ايجاد سكن دائم لهم في دول الإتحاد الأوربي وذلك بسبب تردي الوضع الإقتصادي في هذه الدول. اي ان هجرتهم من بلدانهم وتقديمهم لطلبات اللجوء في دول اوربا الغربية له خلفيات اقتصادية وليست سياسية، التي تعتبر السبب الأساسي الأول الذي تعتبره كل دول الإتحاد الأوربي سبباً لمنح اللجوء على اراضيها. كما ان دول البلقان لا تتعرض في الوقت الحاضر إلى حروب محلية تعتبرها دول الإتحاد الأوربي سبباً لمنح حق البقاء الإنساني المؤقت للاجئين اليها بسبب هذه الحروب ، وليس اللجوء السياسي، لحين استقرار الأوضاع في هذه البلدان التي تسودها الحروب الأهلية. لذلك وعلى هذا الأساس فإن المهاجرين من دول البلقان لا فرصة لهم بقبولهم كلاجئين في دول الإتحاد الأوربي وان تسفيرهم إلى دولهم جار على قدم وساق وبشكل سريع ايضاً. اما المجموعة الثانية فهي دول افريقيا السوداء والتي يهاجر مواطنوها لأسباب اقتصادية في معظم الحالات، وبسبب الحروب الأهلية وما تجره من سوء في الأوضاع الأمنية والإقتصادية في حالات اخرى. ويشكل المهاجرون من هذه المجموعة نسبة عالية جداً من مجموع المهاجرين إلى دول الإتحاد الأوربي. اما المجموعة الثالثة والتي شكلت في موجات الهجرة الأخيرة النسبة الكبرى من المهاجرين فهي مجموعة الدول العربية والإسلامية.
قد يتشابه الوضع القائم في الدول العربية والإسلامية مع الوضع في دول افريقيا السوداء إذا ما اخذنا بنظر الإعتبار الأسباب التي تدعو إلى هجرة مواطني هذه الدول في الوقت الحاضر. ويمكننا القول ان العامل السياسي لا يلعب في الوقت الحاضر ، كما كان سابقاً، دوراً اساسياً كالعامل الإقتصادي والأمني. وهنا لابد لنا من الدخول في تفاصيل حدود المعادلة التي تطرقنا لها اعلاه لنرى كيفية نشوء هذا الوضع الشائك الذي ارتبطت به هذه الهجرات الكثيفة.
يكاد يكون مرض الإسلام السياسي الذي انتشرت جراثيمه في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية، والذي تعاملت به ومعه حكومات المجتمعات العربية الإسلامية كل على شاكلته ، العامل الاساسي الذي بدأت به جريمة تهجير المواطنين من ديارهم. وحينما نتتبع مصدر هذه الجراثيم تاريخياً فسوف نصطدم بالحقائق التاريخية التي تؤكد لنا بما لا يقبل الشك، وخاصة بعد الكشف عن كل الملفات القديمة، ماهية الجهود المستميتة التي قامت بها المخابرات البريطانية بالإتفاق مع الحركة الوهابية وآل سعود على تشكيل منظمات الأخوان المسلمين التي سعت المخابرات البريطانية من خلالها إظهار حرصها على الإسلام من خلال دعوة الأخوان المسلمين إلى إعادة الخلافة الإسلامية التي اسقطتها الحرب العالمية الأولى وانهاها كمال اتاتورك بعدئذ رسمياً عام 1924. وحينما نجحت المخابرات البريطانية من تشكيل الحلقات الأولى للأخوان المسلمين في مصر على يد حسن البنا عام 1928 ومن ثم تاسيس الدولة الوهابية عام 1932. وبعد ان اشتد ساعد هذا المرض الخبيث لينال من المجتمعات العربية والإسلامية تحت مختلف الذرائع الدينية والتجارة بالشعارات الزائفة التي كانت تمليها المخابرات البريطانية على قادة الإسلام السياسي والدولة الوهابية المرتبطة به، اصبح هذا التوجه الجديد يمثل رأس الحربة في مواجهة قوى التحرر الوطني في هذه المجتمعات. فاصبح العمل الوطني الرافض لأي توجه استغلالي للمجتمعات العربية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، يوصف مباشرة بالعداء للدين المغموس بالافكار الشيوعية التي اطلق عليها الإسلام السياسي مختلف نعوت الإلحاد والكفر وما شابه. وبعد ان بدأ نجم الإمبراطورية الشمطاء بالأفول بعد الحرب العالمية الثانية وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كصانعة للنصر على النازية، لم تتخل القوة الإستعمارية الجديدة عن الموروث البريطاني بالإستمرار في تربية الإسلام السياسي لمواصلة إظهار حرصها هي ايضاً على الإسلام وبالتالي تسخير رجال هذا الإسلام لمآربها في مجتمعاتهم. فكانت الإطاحة بمحمد مصدق في ايران ومحاولات الإجهاض على الثورة المصرية من قِبل اخوان المسلمين، او تشكيل حلف بغداد لحماية الإسلام من الشيوعية، او الإجهاض على ثورة الرابع عشر من تموز بالحلف الأسود بين المخابرات المركزية الأمريكية وزمر البعث والإسلام السياسي، بعد ان سبقت ذلك فتاوى تكفير الشيوعيين وإباحة دماءهم، وغير ذلك الكثير من مخططات المخابرات المركزية الأمريكية التي جرى تنفيذها او محاولة تنفيذها بالتعاون مع حركة الإخوان المسلمين وما انشطر عنها من احزاب سياسية وتجمعات دينية، إضافة إلى الحكومات التي كانت تسير في خدمة هذه المؤسسات المخابراتية وفي مقدمتها حكام آل سعود وحكومة الشاه في ايران. وهكذا واستناداً إلى هذا السياق ايضاً جرى تنظيم وتسليح وتمويل حركة الطالبان في افغانستان. فبالأموال السعودية وبالخبرة ” الجهادية ” لوكالة المخابرات الأمريكية جرى تشكيل الوحدات العسكرية الإسلامية الطالبانية للقتال ضد السوفيت في افغانستان مع رفع الشعار لحماية الإسلام من الكفر والإلحاد !!! عالياً. وبعد ان اشتد ازر هذه المنظمة الإرهابية وإفلاتها من قبضة سادتها باستيلاءها على الحكم في افغانستان وقيام دولتهم الإسلامية فيه، برزت اولى موجات الهجرة من افغانستان والتي كانت دول اوربا الغربية هدفها الأساسي. وحينما توالت الهجرات من بعض الدول الأفريقية ومن المجتمعات العربية الإسلامية كانت حركات الإسلام السياسي والحكومات التي قامت على اساسها كما في ايران او العراق مثلاً تشكل احدى المصادر الهامة للاجئين والهاربين من هذه الحكومات. أما في سوريا التي تتحكم فيها دكتاتورية البعث منذ عشرات السنين، اصبحت محط انظار قوى الإسلام السياسي الإرهابية بمختلف صنوفها مما احدث هذا الخراب الشامل لهذا البلد الجميل. وعلى هذا الأساس وانطلاقاً من مجمل العوامل اعلاه فإن موجات الهجرة التي تجتاح اوربا اليوم قادمة من دول المهجر يرافقها المصير المجهول عبر الجبال والبحار التي ابتلعت الآلاف من المهاجرين حتى الآن، وتصاحبها ويلات العوائل وصراخ الأطفال تقودنا جميعاً إلى التأمل في مثل هذه المأساة الإنسانية التي دشنت منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين والتي قد تستمر إلى زمن غير منظور إذا لم يجري تطويقها والحد من ويلاتها على مختلف الأصعدة التي لا تنال دول الهجرة فقط، بل والدول المضيفة لهؤلاء المهاجرين ايضاً. ولكن كيف يمكننا، كقوى ديمقراطية مؤمنة بحق الإنسان بحياة حرة كريمة على ارض وطنه بالدرجة الأولى، ان نواجه هذه الأزمة الناشئة عن تراكم الكثير من العوامل الذاتية والموضوعية والتي لا يمكن تجاهل اي منها إذا ما ابتغينا سلوك المنهج الواقعي العلمي في مثل هذا الأمر. وهذا ما سنحاول التطرق إليه في القسم القادم