روزانا رمّال
خاضت المملكة العربية السعودية، طيلة سنوات خمس، سياسة خارجية جديدة اتبعتها في الشرق الأوسط بنيت على رهانات بنجاح وضع اعتمادات في أيدي حلفاء قادرين على تنفيذ مشاريع تحدث فرقاً في عائد النفوذ المحسوب عليها وهي التي كانت تحتاج هذا النفوذ، لعلمها المسبق بأنّ إيران، جارتها في الخليج، خطت خطوات امتلاك المادة النووية القادرة على إدخالها نادي الكبار خلال السنوات الآتية وبالتالي فإنّ الرجوع إلى الوراء لم يكن وارداً عند إيران، برغم العقوبات والعزلة التي عاشتها.
عرف السعوديون، ومن ورائهم الأميركيون أنّ هذا التقدم سينعكس على المنطقة برمّتها، وبقيت واشنطن قلقة من دخول «إسرائيل» المشهد مرات عدة، كان أبرزها عدوان تموز، حيث تعالت أصوات حينها تتهم حزب الله بدفع ثمن حرب الضغط على الملف النووي، بالإضافة إلى ما توالى من حروب استهدفت المقاومة الفلسطينية، حليفة إيران، في ذلك الوقت من أجل إضعافها، حتى أيقنت «إسرائيل» ومعها أميركا أنّ هذا الحلف لا يزال متماسكاً، فاتخذت قرارات الفصل الكبرى.
كانت للسعودية المصلحة الأساسية في أي استهداف لإيران وحلفائها، لأنّ من شأن ذلك طمأنتها لجهة نفوذها في المنطقة أولاً وحماية وحدتها الداخلية ثانياً وضمانة الحفاظ على سطوتها على مجلس التعاون الخليجي ثالثاً، كأكبر وأغنى دولة قادرة على حماية مصير دول الخليج. تمّ طرح مشروع «الربيع العربي»، كحلّ ناجع قادر على إحداث فرق على الأرض يؤدي إلى إعادة تموضع الرؤساء والحكّام في دول عدة، بعد موجة تغيير أنظمة ستجلب، من دون شك، رؤساء ذوي خبرة أقل، مقبلون على مواجهة مرحلة حساسة وأمامهم استحقاق كبير للنجاح أمام شعوبهم المنتفضة فتمدّ السعودية يد العون لهم وتأخذ بذلك جزءاً لا يتجزّأ من النفوذ في البلد المعني.
وضعت السعودية أكبر جزء من رهاناتها على سورية ودمرت أهم رصيد ومعادلة سياسية تاريخية بنتها مع النظام السوري منذ عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وهي معادلة السين ـ سين على الطريقة اللبنانية والتي عكست انسجاماً عالي المستوى بين الدولتين السعودية والسورية أثرت على أكثر من ملف بينها اللبناني والفلسطيني والعراقي وغيرها من الملفات العربية، وبالتالي كان رهان السعودية على أنّ إضعاف إيران هو من إضعاف سورية، أكثر من يقين وأبعد من مهمّة.
قدمت السعودية كلّ ما يمكن لدولة تقديمه من دعم مادي ومعنوي لـ«المعارضة» السياسية والمسلحة في سورية، فساهمت في تشكيل ألوية وكتائب عسكرية أشرف عليها بندر بن سلطان شخصياً، لفترة غير قليلة قبل سحبه من المشهد نتيجة تبدُّل ما جرى في السياسة العامة تجاه سورية، واستمر الدعم السياسي والعسكري واللوجستي للمعارضة المسلحة، وكان وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل رأس حربة النظام السعودي في كلّ المحافل الدولية الكبرى.
ولكن، وبرغم هذه السياسة والرهانات طرحت السعودية شكلاً جديداً من المناورة السياسية في الدول التي خاضت فيها تجربة المقامرة الكاملة وأبقت على خيوط رئيسية استطاعت من خلالها التراجع عن سياساتها من دون أن يشكل لها ذلك تراجعاً لدقة الحياكة والإحاطة بأهمية تمسُّكها بمواقفها المبدئية في العلن، عكس تركيا التي أسست للهدف نفسه تجاه سورية وغيرها في المنطقة، أي العزل الكامل والقطع، استطاعت السعودية أن ترمي خيوطها الرئيسية لتحفظ مكاناً لها في طريق العودة.
مصر أحد أهم الخيوط السعودية التي استرجعتها قبل فوات الأوان واحتفظ الأتراك بها، وأدارت من خلالها ملفات عدة في المنطقة أبرزها الملف السوري سياسياً، والملف اليمني عسكرياً، واليوم وفي هذا الإطار وبينما يتوجه العالم كله نحو استدارة تقبل بقاء الرئيس السوري بشار بعدما كانت الفكرة مرفوضة خلال السنوات الخمس الماضية، تثبت السعودية أنها كانت تتحضر لهذه الانعطافة منذ أكثر من سنة وذلك منذ أن تسلم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مسعى جمع المعارضة السورية، تحضيراً لأرضية حوار مع النظام وهذا ما عاد وأكده السيسي في خطابه في الأمم المتحدة، فسورية بالنسبة إلى مصر لا يمكن جمعها إلا بطرفي النزاع، أما بيت القصيد فهو أنّ الموقف المصري ليس سوى انعكاس لمرارة قرار سعودي نفذه المصري اليوم ولم يكن قادراً على تنفيذه في ظلّ الحكم الإخواني التابع لتركيا «هذا بالإضافة إلى زيارة اللواء علي مملوك للرياض في الأشهر السابقة.
لبنان أيضاً هو أحد أبرز الخيوط التي احتفظت بها الرياض من خلال حرصها على المحافظة المدهشة على حوار بين أشدّ الأطراف نزاعاً وهو حوار حزب الله وتيار المستقبل الذي لم يتوقف في أصعب الظروف وأشدّها حساسية، وخصوصاً لجهة قتال حزب الله في سورية وهو الخلاف الأساسي.
الخيوط السعودية هذه في لبنان ومصر هي انعكاس لسياسة الحذر والانعطافة المقبلة في مجمل الملفات، وهي تؤكد أن لا داعي للقلق من أي تمسُّك سعودي تجاهها، فالرياض أكدت أنها سبقت التحولات الدولية تجاه مفاوضات المنطقة بأسس مُحكمة.
البناء