السيمر / الأربعاء 16 . 11 . 2016
صالح الطائي
كانت داعش الإرهابية ولا زالت، تتمسك بحججها الواهية، مدعية أنها تسير على نهج الشريعة المحمدية من خلال القوانين والأحكام التي تطبقها على سكان المدن التي احتلتها، بل إن الجرأة وصلت بها لتدعي بأن ما تسميه حكومتها، إنما هي وريثة عصر الخلافة الراشدة، وأنها تحكم بمنهج النبوة.
إن من يتابع أحكام الدواعش المنحرفة، يتأكد أنهم اختاروا عادة الرأي الذي يوافقهم من بين مجموعة الآراء المتعارضة في الحكم الواحد، ليتخذوه قاعدة فقهية، وهو عادة الرأي السقيم المتشدد من بينها، وضربوا الأحكام الناهضة عرض الحائط، ولم يعترفوا بها.
إن مسألة اختلاف الآراء في الحكم الواحد حالة طالما تكررت حتى داخل المذهب الواحد، حيث يذهب كل مفت إلى الرأي الذي يراه صوابا، وبالتالي تكون هناك مجموعة آراء، ومجموعة قواعد وأحكام، تصل أحيانا إلى حد التعارض، كلها مبنية على أصل واحد من أصول النصوص المقدسة، ويمتد الخلاف ليصل أحيانا إلى الاختلاف حتى في كون النص المقصود منسوخا أم غير منسوخ، فمن يراه منسوخا يبني قاعدته الفقهية وفق النسخ اعتمادا على الناسخ، ومن يراه ثابتا يبني حكمه عليه، فيخالف الحكم الذي بني على المنسوخ.
من ذلك على سبيل المثال، وأنا هنا سأوقف الحديث على الطبري دون سواه منعا للإطالة، فيما قاله عن التعامل مع الأسرى، إذ نقل الطبري عن قتادة: “قوله (فإذا لقيتم الذين كفروا) إلى قوله (وإما فداء) كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم، فإذا أسروا منهم أسيرا فليس لهم إلا أن يفادوه، أو يمنوا عليه، ثم يرسلوه. فنسخ ذلك بعد قوله (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذكرون”. كما نقل عن ابن جريج أنه كان يقول، في قوله (فإما منا بعد وإما فداء) نسخها قوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). ونقل عن السدي (فإما منا بعد وإما فداء) قال: نسخها (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1)
حيث يتضح من هذه النصوص أن آية (فإذا لقيتم الذين كفروا) إلى قوله (وإما فداء) قد نسخها قوله تعالى: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، هذا حسب رأي قتادة. لأن الآية التي نسختها هي قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وليس (فإما تثقفنهم) حسب رأي السدي.
لكم الطبري، عاد، فأخرج روايات أخرى يتبين منها أن آية (فإما منا بعد وإما فداء) لم تنسخ بهاتين الآيتين، وإنما نسختها آية ثالة، فأخرج عن ابن عباس قوله (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) . . . إلى آخر الآية، قال: الفداء منسوخ، نسختها: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم). ولمثل ذلك ذهب الضحاك في قوله: (فإما منا بعد وإما فداء) هذا منسوخ، نسخه قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(2). وهنا تم بناء الحكم استنادا إلى اعتماد قول من قال إن الآية منسوخة!
ولو وقف الأمر عند هذه الحدود ولم يتجاوزها من خلال وجود من يعترض عليه لهان الأمر، لكن أن يأتي عدد من الإفتائيين الكبار من يتجاوز موضوع النسخ، ويحكم بعدم نسخ الآية يقينا، وببطلان حكم قتل الأسير، فذلك يدل على وجود تهافت كبير جدا، لا يُعرف معه ولا يُشخص الحكم الصحيح، مع أن هناك جريمة ممكن أن ترتكب بقتل من لم يجز الله ورسوله قتله، ومن أورد هذه الاعتراضات هو الطبري نفسه، بقوله عن الآية: “وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقالوا: لا يجوز قتل الأسير، وإنما يجوز المن عليه والفداء”(3).
ثم أورد الطبري أسماء بعض من ذهب إلى هذا الرأي ومنه: عن خالد بن جعفر، عن الحسن (البصري)، قال: أتي الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا، قال الله – عز وجل – (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء)(4). وأخرج عن ابن جريج، عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا، قال: ويتلو هذه الآية (فإما منا بعد وإما فداء)(5).
وقد ختم الطبري الرأي في هذا الخلاف بقوله: “الصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بينا في غير موضع في كتابنا أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول (ص) وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية؛ لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) . . . الآية ، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله (ص) كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمن على بعض”(6).
المهم أن الدواعش يختارون عادة من بين مثل هذه فوضى ما يناسب توجهاتهم، ويضربون الآراء الأخرى عرض الحائط، ومن ذلك موضوع قتل الأسير؛ الذي طال وعرض حديث الفقهاء حوله، مع أنهم اتفقوا جميعا على عدم جواز قتل الأسير باستثناء الإمام أحمد بن حنبل وأغلب علماء الفقه الحنبلي الذين تعارضت أقوالهم فيما بينهم، فمع أن فيهم من ذهب إلى عدم جواز قتل الأسير، ومن ذلك قولهم: “ومن أسر أسيرا، حرم على الأصح قتله إن أمكنه أن يأتي به الإمام بضربه أو غيره، ويحرم عليه قتل أسير غيره”(7). فالدواعش بموجب هذا النص، يبيحون قتل الأسير بأمر من (الأمير) إذا ما استسهلوا نقله، إما إذا تعذر عليهم ذلك لأي سبب مهما كان بسيطا فيقتلوه بأنفسهم دون حاجة إلى إذن!.
أما في حال كان الأسير مريضا فالفقه الحنبلي، أجاز قتله إذا عجز عن المسير حتى من دون موافقة (الأمير) وقد جاء في الفقه الحنبلي في هذا المعنى قولهم: “اعلم أن الأسير إذا عجز عن الذهاب لمرض ونحوه، فالصحيح من المذهب أنه يقتله، اختاره الشيخ في المغني، والشارح وابن رزين وغيرهم، وصححه في الخلاصة وغيره، وهو ظاهر ما قطع به في المقنع والوجيز وغيرهما، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاويين وغيرهم، وعنه التوقف فيه، واقتصر عليها في الفصول، وأطلقهما في المذهب ومسبوك الذهب(8).
هذا عن الحنابلة القدماء، أما الحنابلة المعاصرون فقد عمموا موضوعة قتل الأسير في جميع الحالات سواء كان الأسير صحيحا أم مريضا، ولذا تراهم في جوابهم على سؤال: هل يجوز قتل الأسير؟ قالوا: “اتفق الفقهاء على جواز قتل الأسير. حتى قال: الجصاص لا نعلم في ذلك خلافا فيه. وقد تواترت الأخبار عن النبي (ص) في قتله لبعض الأسرى”(9).
تذكرت هذا التناقض في الأحكام وأنا أستمع مساء يوم 26/10/ 2016 إلى أخبار الساعة الثامنة من تلفزيون العراقية؛ الذي أورد خبرا مفاده أن تنظيم داعش الإجرامي، هرب من منطقة (رفيلة) في ضواحي الموصل مصطحبا معه الأهالي لاتخاذهم أسرى، واستخدامهم دروعا بشرية، وكانت بين الأسرى طفلة معوقة، عجزت عن مسايرتهم، فأصدر (الأمير الشرعي) فتوى بقتلها استنادا إلى قاعدة جواز قتل الأسير المريض، وهكذا نفذوا حكم الإعدام بهذه الطفلة العراقية المعوقة البريئة، مدعين أن تلك هي شريعة محمد، ومحمد(صلى الله عليه وآله) بريء منهم ومن شريعتهم الحمقاء!
إن هذا العمل الخسيس لا يدعونا إلى رفض منهج الدواعش فحسب وإنما يحثنا أيضا على ضرورة ووجوب إعادة بناء القاعدة الفقهية في جميع المذاهب الإسلامية، لوضع قواعد أحكام مأخوذة من الفهم الصحيح والنقي للنص المقدس، ولاسيما وأن الكثير من الأحكام حتى وإن سميت بالشرعية إلا أنها دخيلة على الإسلام.
الهوامش
(1) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج22/ص154
(2) المصدر نفسه، الطبري، ج22/ص155.
(3) المصدر نفسه، ج22/ص155.
(4) المصدر نفسه، ج22/ص 155.
(5) المصدر نفسه، ج22/ص 155ـ156.
(6) المصدر نفسه، ج22/ ص 156ـ 157.
(7) المقدسي، محمد بن مفلح بن محمد(763هـ)، الفروع، ج6/ ص 212ـ213.
(8) المصدر نفسه، المقدسي، ج6/ ص 212ـ213.
(9) موقع نداء الإيمان، الرابط