السيمر / الاحد 03 . 03 . 2019
د . لبيب قمحاوي / الأردن
بغض النظر عن رأي البعض في ماهية حزب الله كإطار سياسي نضالي ذا صبغة دينية ، وبغض النظر أيضاً عن قبول البعض بمُسمَّى الحزب أو إعتراضهم عليه ، فإن محتوى وبرنامج الحزب ونهجه النضالي يبقى هو الأساس في تعريف الحزب وتصنيفه وتحديد هويته . وفي كل الأحوال فإن حزب الله قد نجح في ترجمة ما ينادي به وفي تحويله من أقوال إلى أفعال ، وهو بذلك قد إكتسب مصداقية عجز الآخرون عن مقاربتها أو حتى على الحصول على جزء منها خصوصاً في زمن لم يشهد فيه العرب سوى إنهياراً تلو إنهيار .
من الخطأ التعامل مع حزب الله أو ما يتعلق بحزب الله بإعتباره شأناً لبنانياً محلياً ، فالأمر أكبر من ذلك وأهم بكثير . وسياسات الحزب المحلية أصبحت مرتبطة في معظمها بحماية وجوده في هذه الحاضنة اللبنانية ، أكثر منها رغبة في اقتسام كعكة السياسية اللبنانية أو الإنغماس في صغائر أمور السياسة المحلية . برنامج حزب الله أكبر من لبنان ، وهو الوطن العربي العزيز والغالي ، ودور حزب الله الإقليمي في الظروف الحالية أكبر وأخطر وأكثر تأثيراً من دور الدولة اللبنانية التي تعاني من عوامل التفكيك الداخلي بما يكفي لإضعاف أي دولة وشَلّ مسارها .
لقد أصبح حزب الله جزأً من معادلة إقليمية مُعقَّدة تُشَكِّل في أبعادها السياسية نقطة وثوب إلى الأعلى عِوضاً عن الإنهيارات التي تعج بها أوساط وثنايا أنظمة الحكم والدول في الوطن العربي . فحزب الله يمتلك رؤيا سياسية تعكس ، كما هو واضح ، قناعات راسخة تكاد تقترب في قوة الإلتزام بها من الأيدويولوجيات المتشددة التي حكمت مسار العديد من الأحزاب والدول في القرن الماضي . وهذه الرؤيا ترتبط بشكل رئيسي بالقضية الفلسطينية والإحتلال الإسرائيلي وأطماعه الإقليمية .
يتعرض حزب الله منذ فترة طويلة لمسلسل من المؤامرات التي تستهدف القضاء عليه أو إضعافه إلى الحد الذي قد يُفقده التأثير على مجرى الأحداث المحلية والإقليمية . وهذه المؤامرات قد أخذت أشكالاً سياسية وعسكرية وإقتصادية مختلفة . ويبدو أن نجاح حزب الله في تجاوز كل أشكال التآمر تلك قد حصر الخيارات أمام إسرائيل ومِن خلفها أمريكا وبعض العرب بالخيار العسكري . وخطورة هذا الخيار تكمن في أبعاده الإقليمية كونه سوف يشمل في آثاره أكثر من دولة ، وسوف يؤثر بشكل مباشر على موازين القوى الإقليمية السائدة .
تزداد خطورة الخيار العسكري نتيجة لإفتقاد أي طرف للقدرة على السيطرة منفرداً على مسار ذلك الخيار أو نتائجه إذا ما إبتدأ فعلاً . ولكن من الواضح أن الخيارات المختلفة ضمن البعد العسكري سوف تكون خيارات صعبة ومُدمرة في نتائجها على كافة الأطراف . وهذا يعني وجود حالة من الردع النسبي المتَبادَل بين إسرائيل والسعودية وحلفاءهم من جهة وحزب الله وإيران وحلفائهم من جهة أخرى، خصوصا بعد فشل أمريكا والسعودية في حسم الوضع السوري لصالحهم .
حزب الله لا يسعى بالتأكيد إلى حرب إنتحارية بقدر ما يسعى إلى فرض ضوابط على جموح القوة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة وإلى الحد الذي يسمح لها بالعربدة العسكرية في أي سماء عربي تختاره دون أن تحسب حساب أحد . وحزب الله يسعى بذلك إلى تعبئة الفراغ الكبير الذي خلقه تدمير العراق وسوريا وعزوف الأنظمة العربية حتى عن التلويح بإمكانية الصدام مع إسرائيل فيما لو تجاوزت حدودها في انتهاك السيادة أو الحقوق العربية . وهذا المسار يسعى إلى فرض ما يسمى باللغة العسكرية ” ردعاً ” حتى ولو كان نسبياً ، للتفوق العسكري الإسرائيلي والضعف والإستسلام العربي الذي وصل إلى حد إستجداء القبول والرضا الإسرائيلي .
لقد إستجلب هذا الموقف عداء أمريكا المتزايد لحزب الله ومغالاتها في استعمال آليات الحصار الإقتصادي من جهة والتصنيف الإرهابي من جهة أخرى كوسائل لإنهاك الحزب لصالح إسرائيل . وتُشارك بعض الأنظمة العربية أمريكا وإسرائيل عداءَهما لحزب الله سواء بالسر أو بالعلن وتحت عناوين ويافطات مختلفة تسمح بإلتقاء مصالح تلك الأنظمة بمصالح أمريكا وإسرائيل في عدائهما لحزب الله وإيران .
ما نحن بصدده لا يهدف إلى إيلاء حزب الله دعماً لا يستحقه بقدر ما يهدف إلى الإقتراب من الحقيقة بأوضح ما يمكن خصوصاً وأن مسار الأمور يشير إلى قرب شن حرب إسرائيلية في الظاهر وإسرائيلية – أمريكية – عربية في الباطن لتدمير حزب الله ومن ورائِه فلسفة المقاومة للإحتلال الإسرائيلي لفلسطين العربية. فالعدوان على حزب الله يهدف من المنظور الإسرائيلي إلى القضاء على نهج المقاومة بغض النظر عن الملابسات التي تحيط بعلاقة حزب الله مع إيران، وإستعمال تلك العلاقة كعذر لبعض الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل بل والتحالف معها في حرب لا يؤمن أحداً بوجاهتها أو بمنطقيتها من منظور المصالح العربية .
لقد نَقلَ سلاح الصواريخ طبيعة الصراع العسكري القادم مع إسرائيل إلى مستويات وآفاق جديدة لم تعهدها المنطقة من قبل . والتفوق العسكري الإسرائيلي أصبح الآن على المحك بعد أن تمكن حزب الله من إمتلاك مخزون ضخم من الصواريخ المختلفة في مداها وقوتها تجاوز في مجموعه 130 ألف صاروخ، والأهم أنه تمكن من الإحتفاظ بهذا المخزون سالماً معافاً . ولكن ما الذي تغير وجعل خطر الحرب يلوح الآن في الأفق مع أن إمتلاك حزب الله للصواريخ ليس بأمر جديد؟
لقد فشلت كافة المساعي والضغوطات في إضعاف حزب الله أو كسر عقيدته السياسية وإرادة الصمود والتحدي لديه أو في تدمير مخزونه من العتاد العسكري والصواريخ . وفي هذه الأثناء تمكن حزب الله وبمساعدة ملحوظة من إيران من تطوير مخزونه الصاروخي من صواريخ تقليدية إلى صواريخ ذكية ( Smart ) مما يعني دقة أعلى في إصابة الهدف وقدرة تدمير أكثر كفاءة . وبالرغم من المحاولات الإسرائيلية المتعددة لضرب مواقع التعديل تلك في سوريا ، إلا أن حزب الله نجح في نقل تلك المواقع وإستمر في تعزيز قدرة صواريخه التقليدية وتحويلها إلى صواريخ ذكية ، الأمر الذي شَكَّل بالنسبة لإسرائيل تجاوزاً على الخط الأحمر كما تراه .
من أهم الأسباب وراء إحجام إسرائيل عن ضرب حزب الله حتى الآن هو قناعتها بأن مثل تلك العملية ستؤدي إلى خسائر بشرية إسرائيلية كبيرة ، وإلى تدمير أهدافٍ إستراتيجية ومدنية عديدة في الكيان الإسرائيلي . صحيح أن إسرائيل سوف تستعمل أقصى ما لديها من قوة عسكرية ودعم أمريكي لضرب حزب الله وتدمير قواعده في لبنان ، إلا أنها نفسها سوف تتعرض لحجم هائل من الدمار الصاروخي وربما إحتلال بعض المناطق المتاخمة للحدود في الجنوب اللبناني وهو أمر قد تكون له آثار ضخمة على الروح المعنوية الإسرائيلية بغض النظر عن طول فترة ذلك الإحتلال ، وهنا مربط الفرس . إسرائيل تبحث عن طرق ووسائل مضمونة لتخفيف آثار الدمار المتوقع عليها من صواريخ حزب الله ، وإلى أن تصل إلى نتيجة مرضية ومقبولة فإنها سوف تفكر ملياً قبل أن تُقْدِم على شن حربها على حزب الله .
الحرب الإسرائيلية المقبلة على حزب الله قد تكون المرة الأولى التي سيتعرض فيها جسم الدولة الإسرائيلية وسكانها إلى القصف المباشر والمؤثر ، وهو بالتالي سيكون قراراً خطيراً بالنسبة لأي حكومة إسرائيلية كونه قد يؤدي إلى إغضاب الرأي العام الإسرائيلي إذا كانت الخسائر المادية والبشرية كبيرة والأسباب لم تكن مقنعة والنتائج غير مرضية . الخيارات ستكون صعبة بالنسبة لكل الأطراف والنتائج قد تكون مُدَمِرَّة على الجميع وإن بدرجات متفاوته .
لقد أصبحت روسيا الآن لاعب أساسي ومباشر في الشرق الأوسط ، ولها مصالح في سوريا مُعتَرف بها من قبل أمريكا والعالم ولها حق الدفاع عنها . وفي ظل التواجد المادي لحزب الله وإيران على الأراضي السورية ، فإن إسرائيل تسعى الآن إلى التوصل إلى تفاهم أو صفقة مع روسيا تسمح لها بضرب قواعد ومخازن حزب الله وإيران في سوريا . وروسيا ، بالرغم من علاقاتها الخاصة مع إسرائيل ، إلا أنها لن تسمح بزعزة الإستقرار في سوريا خصوصاً إستقرار النظام . وهذا الموضوع خطير بالنسبة للمخططين العسكريين الإسرائيليين الذين لا يريدون أن يكون لدى حزب الله مَنفذ سوري للتخلص من الضغط العسكري الإسرائيلي على لبنان في حال شنت إسرائيل حربها المتوقعة ضد حزب الله ، ناهيك عن أن الروس لا يريدون إرتكاب الخطأ الأمريكي بالتورط في مستنقع نزاعات الشرق الأوسط خصوصاً العسكرية منها ، كما أن الإسرائيليين لا يريدون إستثارة الغضب الروسي لأن ذلك قد يُقَلِّص بالنتيجة خيارات إسرائيل العسكرية .
من الواضح أن الروس لا يوافقون على الإنتهاك الإسرائيلي الأهوج للأجواء السورية ، مما حصر بالتالي مصدر الضربات الإسرائيلية لقواعد حزب الله في سوريا إما بالبحر أو بالأجواء اللبنانية المجاورة . وهذا الوضع قد لا يُمكِّن إسرائيل من توجيه ضربات قاتلة لحزب الله مقارنة بحجم الدمار الذي يمكن لصواريخ ذلك الحزب أن تلحقه بالإسرائيليين في حال نشوب حرب .
الإقليم إذاً في طريقه إلى مواجهات عسكرية حيث لا يمكن حسم ما هو مُخطط له إسرائيلياً وأمريكياً ضد حزب الله إلا من خلال الحرب . وفشل مؤتمر وارسو قد أضعف خيار تدويل الحرب على حزب الله وإيران وأعاده إلى المربَّع الأول الإسرائيلي – الأمريكي – السعودي . وحزب الله ، وإن كان يُشكل خط الدفاع الأول ضد ذلك المخطط كونه هو المقصود أصلا ، إلا أنه وضمن المعطيات السائدة ، قد يكون أيضاً خط الدفاع الأخير خصوصاً في ظل غياب جبهة فلسطينية فاعلة ومؤثرة على مجرى الأمور .
ان الحفاظ على حزب الله وعافيته ، والتخلص من السلطة الفلسطينية ومسارها الانهزامي ، هما طرفي المعادلة اللازمة لإنجاح أي مسعى حقيقي للحفاظ على مصالح الأمة العربية وعلى قدرتها على مقاومة الوجود الصهيوني على أرض فلسطين .
03 . 03 . 2019