السيمر / فيينا / الجمعة 15 . 11 . 2019
د. لبيب قمحاوي / الاردن
قصة العرب مع أنفسهم – alsaymarnews@gmail.com – Gmail
هل العرب الآن في طريقهم لتغيير تاريخ المنطقة أم للخروج منه تماما و العودة الى ما كانوا عليه من قبل ، قبائل مبعثرة هنا و هناك يحكمها و يدير أمورها القاصي و الداني .لقد وصل اليأس بالعرب الى الحد الذي جعلهم يتعلقون بأي تطور مهما كان بسيطا باعتباره مدخلاً لتغيير الأمور نحو الأفضل . و هذا الاصرار على التعلق بالقشة كما يقول المثل يعكس حالة الهبوط المستمر و الاحباط المرافق لها والذي اخذ يكتسح العالم العربي في العقدين الاخيرين . فمحاولة التعلق بالقشة هي كمحاولة التعلق الساذج بالأمل في غياب العوامل الموجبة لذلك . ولكن هل يكمن الحل في الإنفجار من منطلق “علي و على اعدائي” كما يشير اليه الوضع في لبنان و العراق الآن خصوصا بعد نجاح التجربتين السودانية و التونسية في التغيير ، أم أن هنالك أسباباً حقيقية موجبة تستدعي قدرًا مشروعًا من التفاؤل ؟البحث في الرماد نادرا ما يكشف عن أية جواهر بل غالبا ما يكشف عن لا شئ سوى الرماد نفسه ، و هذا هو حال العرب الاّن . فساد كبير متغول و ظلام دامس لا يفسح المجال أمام النور ، الا القليل من الشعاع هنا و هناك و بين حينة و أخرى و بشكل متقطع مما يؤكد ان اصلاح الأمور لا يمكن ان يأتي من خلال الأنظمة السائدة ، والتي تحاول الآن جاهدة ان تطرح نفسها كإطار وحيد و أمثل للتغيير، محاولة بذلك التنصل من حقيقة كونها اساس المشكل كما هوعليه الحال في كل من لبنان و العراق و الجزائر .هنالك من يعتقد أن حكاية ما اصبح يدعى “الربيع العربي” قد ابتدأت بتصريح وزيرة خارجية أمريكا في عهد الرئيس بوش الإبن ( كوندوليسا رايس) عندما طرحت شعار “الفوضى الخلاقة” كوسيلة للتغيير؟هل هذا صحيح أم ان الامر يفوق ذلك وأن هنالك اكثر من طرف ربما يكون قد التقط تلك الفكرة أو الإشارة بما في ذلك بعض الاحزاب الاسلامية والعربية ، أم أن هنالك من إختار ، إما عن سذاجة أو لؤم ، أن يضفي على الحراك العفوي للجماهير العربية هذا اللقب أو العنوان مما فسح المجال واسعًا أمام نظرية المؤامرة . إن الدعوة الى التغيير من خلال تبني نهج ” الفوضى الخلاقة ” غالباً ما تفشل أوتؤدي إلى الفوضى والتسيب أو قد تفتح الباب أمام قوى أخرى للتحرك ومصادرة ذلك الحراك تماماً كما حصل في الأردن خلال العقد الماضي ومحاولات الإخوان المسلمين هناك ابتلاع الحراك الشبابي الأردني، أو في مصر حيث نجحت الدولة العميقة ممثلة بالقوات المسلحة في هضم الثورة وتحويل مسارها بما يتناسب ورؤيا تلك الدولة العميقة لكيفية وماهية التغيير . وبخلاف تونس التي تتمتع تاريخياً بدولة مدنية قوية وضعت أساساتها في عهد الحبيب بورقيبة ، فإن مسار ما أصبح يدعى “الربيع العربي” في دول أخرى مثل ليبيا واليمن قد اقتصر على التخلص من رئيس الدولة الحاكم المستبد الفاسد ولكنه أدى بالنتيجة الى تفكيك الدولة بحكم تدخلات ومؤامرات خارجية، وضعف البنية المؤسسية للدولة وافتقارها إلى الهيكلية اللازمة لإبقاء المجتمع مترابطاً ضمن إطار الدولة الوطنية .الربيع العربي بما له وما عليه أصبح جزاً من التاريخ السياسي للمنطقة ، وأصبح من الضروري علينا أن ندرس ما حدث بواقعية حتى نتعلم الدروس ونستخلص العبر ونستفيد منها ، أو بكلام أدق حتى نفهم ما الذي حصل فعلا وأوصلنا الى ما وصلنا إليه وما هي الأسباب الكامنة وراء عوامل الفشل عمومًا و النجاح احيانًا .التاريخ السياسي العربي مشكوك في أصالته ودقته وهو غالبا ما يعكس رواية الطرف المنتصر أو الحاكم . والظاهرة الاكثر بروزا في العقد الاخير وهي ظاهرة ما اصبح يدعى “بالربيع العربي” قد انطلقت من حالة اليأس و غياب قنوات التعبير أو التغيير السلمية والتي فاقمت من حالة الرفض و الغضب المرتبط بالقنوط لدى أجيال الشباب و دفعتهم الى الانفجار العشوائي المفتقر الى أي نوع من البرنامجية السياسية أو التنظيم المطلوب لإنجاح مسار مثل ذلك التحرك كما هوعليه الحال الآن في لبنان والعراق . ولكن ما هي الأسباب التي أدت الى الانهيار في العديد من دول “الربيع العربي” ؟قد تعود الأسباب الى ضعف هيكلية معظم الدول التي انبثقت عن اتفاقية سايكس- بيكو قبل مائة عام ، وعدم قدرة تلك الدول على التطور وتطوير نفسها، و وقوع معظمها تحت أنظمة مستبدة انقلابية لا تدين بالولاء لشعوبها ولا تشعر بأي التزام تجاهها كونها لا تستمد شرعيتها من شعوبها بل من آلة القوة التي مكنتها من الاستيلاء على الحكم .النظر خلفاً الى سايكس – بيكو لا يهدف الى تبرير ما حصل أو الى ايجاد حائط مبكى لما نحن فيه من مآسٍ ، بقدر ما يهدف الى ايضاح ضعف أساسات الدولة القطرية العربية الحديثة ، والمآل الذي وصلت اليه بحكم تآكل مؤسساتها الوليدة عوضاً عن تطويرها وذلك نتيجة لأنظمة الإستبداد . من المستحيل البحث عن حلول من خلال العودة الى الخلف ومحاولة إعادة كتابة التاريخ أو لوم الآخرين على ما نحن فيه . علينا أن ننطلق مما نحن فيه ونحاول البحث عن حلول لمشاكلنا وقضايانا. والأسلوب يجب أن يبتعد تماماً عن الانتهازية وجلد الذات بل يجب أن ينطلق بروح ايجابية تسعى الى التغيير وليس إلى التدمير .مفهوم التغيير السلمي هو في العادة تراكمي ويأتي عبر سنوات طويلة من الممارسة الديموقراطية ومن تجارب الخطأ والصواب . ولكن المشكلة تكمن في أن العرب وضعوا أنفسهم في مواقع أفقدتهم الكثير وجعلت من الوقت عملة نادرة لا يملكوها . وهذا يعني أن على العرب أن يقفزوا قفزاً نحو التغيير السلمي ولكن ضمن منظور البحث عن الحياة وليس السعي نحو الموت .التمسك بناصية العلم وبناء المؤسسية واحترامها هما أساس التغيير . والديموقراطية على أهميتها ليست بالضرورة المدخل الوحيد المفتوح أمام العرب للتغيير والتقدم وهنالك المثال الصيني القائم أمامنا الآن . فالصين الآن في طريقها لأن تصبح ثاني أقوى دولة في العالم دون أن يربط الصينيون تقدمهم ونجاحهم بالديموقراطية . فالدول مثل الأفراد تملك الخيارات الخاصة بها ، واذا ما سعت أي دولة نحو البناء الاقتصادي أوالتنموي أو العسكري فإن ذلك يتوقف على الادارة والتخطيط السليم المخلص القادم من القيادة. أما في حالة غياب النمط المنشود من القيادة القادرة على التخطيط والتنفيذ ، فإن بقاءها يصبح في هذه الحالة عقبة أمام التطور والتطوير ويصبح المسعى نحو تغييرها أمراً حتمياً لمنع الانهيار.التغيير السلمي هو إنعكاس لوعي الشعب وقدرته على احداث التغيير المنشود من أجل المصلحة العامة دون الولوج في عملية تدمير الذات أو تدمير ما تم إنجازه مهما كان ذلك الانجاز ضئيلاً . الوعي يجب أن يكون بالتالي وعياً عاماً وليس محصوراً بالنخب . فدور النخب في التوعية والقيادة يجب أن لا يكون بمعزل عن الشعب أو خارج اطار الشعب أو من فوقه والا عدنا الى المربع الأول .الوعي العام للشعب والوعي المبكر للنخبة هي عملية تكاملية احداهما مكمل للآخر والنخب الصحيحة والفاعلة تلعب دورها دائماً من خلال الشعب ومؤسسات المجتمع المدني .ان تكامل الأدوار في أي مجتمع ناهض هو أمر أساسي للنجاح . وأي تحرك يأتي منفرداً أو دون اعتبار لأهمية تكامل الرؤيا وتكامل الحلول هو الأساس لفشل مسار التغيير، وبغير ذلك يصبح ذلك المسار اما غير سلمي أو عنيف أو أحادي إنقلابي . وهنالك بعض الاستثناآت كما حصل في مصر مؤخراً عندما تكاتف الجهد الشعبي وجهد المؤسسة العسكرية ضمن رؤيا عامة متوافقة لتصنع مساراً شعبياً للتغيير علماً أن جوهر ذلك المسار أو أدواته الفاعلة كانت عسكرية شبه انقلابية ولكن بتغطية شعبية ملموسة في حينه.أدوات التغيير الشعبية الجماهيرية في المجتمعات النامية تجنح إذاً نحو الاعتماد إما على على دعم المؤسسة العسكرية كونها الأكثر تنظيما وامكانات ، أو تجنح الى خيار الفوضى من منطلق “علي وعلى أعدائي ” وذلك إذا ما افتقرت الى تنظيم جماهيري و برنامج عمل ، او اذا ما فشلت في استقطاب الدعم اللازم لإجماع جماهيري ملحوظ . و في أحيان أخرى و كما حصل في السودان جاء الحل من خلال معادلة /عسكرية ، و كذلك جاء الحل المدني في تونس بدعم غير مباشر من المؤسسة العسكرية ، علما أن كلا الدولتين تتمتعان بمجتمع مدني قوي ونخبة قيادية ناضجة نسبيأ بالرغم من الاختلافات في الرؤيا وهي ظاهرة صحية في معظم الاحوال . و هكذا يصبح دور المؤسسة العسكرية الواعية في دعم المسعى الجماهيري نحو التغيير ضروريًا لتعبئة الفراغ الناجم عن ضعف أو غياب مؤسسات المجتمع المدني القادرة على تنظيم و إنجاح الحراك الشعبي الجماهيري .السعي نحو التغييرهو وسيلة للوصول الى أهداف وليست هدفاً بحد ذاته ، والا أصبح الأمر جهداً عبثياً قد يحطم آمال التغيير أو يدفع المجتمع الى الفوضى أو الإقتتال . الفوضى غالبا ما تكون نتيجة لتدخل السلطات الحاكمة وجهودها السلبية الرامية الى منع التغيير بأي ثمن . وهذا الموقف قد يدفع بالعديد سواء من المواطنين أو من النخبة الى اتخاذ مواقف متشددة في عدائها أو في عدوانيتها إنطلاقاً من فقدان أي قناعة لديهم بجدوى التغيير السلمي من خلال الحفاظ على الوضع القائم أو بموافقته كونه المسؤول عن ما آلت إليه الأمور من خراب و إنهيار . وهكذا تتشابك الخيارات ضمن نفس المجتمع إما نظراً لغياب البرنامج أو التنظيم أو المؤسسية أو القدرة على الحوار السلمي بين أطياف المجتمع المختلفة ، أو بينها وبين السلطة الحاكمة صاحبة الرغبة الأكيدة في منع التغيير الحقيقي ، وهو ما يجري الآن في كل من لبنان و العراق والجزائر . * مفكر عربي 11. 11 . 2019 |