السيمر / فيينا / الأثنين 10 . 07 . 2023
د. مصطفى يوسف اللداوي /فلسطين
ليست المرة الأولى التي ينظم فيها بعض سفراء الدول الأوروبية وغيرها جولةً على المناطق الفلسطينية المنكوبة جراء العدوان الإسرائيلي عليها، الذي يخلف وراءه دماراً واسعاً وخراباً كبيراً، فقد اعتادوا بعد كل اجتياحٍ أو قصفٍ على تنظيم جولاتٍ ميدانية، يطوفون فيها على المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية المتضررة، ويصطحبون معهم وسائل إعلامية محلية وعالمية، ومندوبين عن مؤسساتٍ دولية وهيئات رقابةٍ أممية، إلا أنهم لا يصدرون مواقف إعلامية، ولا ينددون بالممارسات الإسرائيلية، ولا يستنكرون عدوانهم، ولا يحملون سلطات الاحتلال المسؤولية عما أصاب المناطق الفلسطينية وأهلها، ويكتفون –كما يقولون- برفع تقارير خاصة إلى مرجعياتهم في بلادهم، التي تقوم بتقدير الموقف واتخاذ القرارات المناسبة.
وقد سبق لهم القيام بجولةٍ واسعة على بلدة حواره في نابلس، بعد قيام قطعان المستوطنين باجتياحها وإشعال النار في بيوتها وسيارات أهلها، وحرق أشجار البلدة وإتلاف حقولها ومحاصيلها، وإحداث دمار مهولٍ فيها، وقد قدرت الخسائر المادية في حينها بأكثر من مائة مليون دولار، وأعلن السفراء خلال جولتهم أن ما رأوه جريمةً ضد الإنسانية، ودعوا حكومات بلادهم إلى اتخاذ مواقف صارمة، وتوجيه تحذيرات وإنذارات مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية، التي تسمح للمستوطنين بالعبث والتخريب، وتقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، ولا تحاول منعهم أو صدهم ومواجهتهم كما تفعل مع الفلسطينيين، الذين تستخدم ضدهم القوة المفرطة وتتعامل معهم بخشونةٍ كبيرة، بينما تكون لطيفة مع المستوطنين وتسكت عن جرائمهم وتقوم بحمايتهم.
كانت زيارة مخيم جنين بعد العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، هي آخر الجولات التي قام بها سفراء بعض الدول المعتمدين لدى الكيان الصهيوني، وكان قد سبق لهم زيارة المخيم نفسه أكثر من مرةٍ، كما زاروا مخيم بلاطة ومدينة نابلس، وهما إلى جانب مخيم جنين من أكثر المناطق الفلسطينية تضرراً، التي تتعرض دائماً لعمليات اجتياح ومداهمة، وقد رأوا عياناً حجم الدمار الذي خلفته قوات الاحتلال في المخيم، الذي تعرض للقصف من الجو بواسطة الطائرات الطوافة والمسيرة، واستمعوا إلى شهادات السكان وشكوى المواطنين الفلسطينيين وجلهم من اللاجئين، الذين أجبر عددٌ كبير منهم على مغادرة المخيم، ولمس السفراء حجم المعاناة الإنسانية التي يكابدها ويعاني منها سكان المخيم.
من المؤكد أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي غير راضيةٍ عن جولة السفراء، ولا تريد أي تعاطفٍ منهم مع الفلسطينيين، ولا تتمنى أن تصدر منهم مواقف تدينها وتحملها المسؤولية عما يتعرض له الفلسطينيون، أو تستنكر عمليات الجيش والأجهزة الأمنية في المناطق الفلسطينية، وهي تحاول دائماً عرقلة جولاتهم، ولا تمنحهم الإذن بالقيام بها بسهولة، وتتذرع دائماً بخطورة الأوضاع الأمنية، وأنها تخشى على حياتهم وسلامتهم الشخصية، إلا أنها تخضع غالباً لرغبة السفراء الذين يتمتعون بالحصانة ولديهم بعض السيادة التي توفرها لهم القوانين الدبلوماسية المعمول بها والمتعارف عليها.
بالمقابل تلجأ قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى القيام بجولاتٍ معاكسة، تقوم بتنظيمها وزارة خارجية الكيان، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية، وتدعو إليها سفراء الدول الأجنبية لزيارة مستوطنات الغلاف والاستماع إلى شكاوى المستوطنين، والوقوف على ظروفهم الأمنية والتعرف على حالتهم النفسية، وتوظف مع الجولة فريقاً كبيراً من المرافقين الإعلاميين والأمنيين، الذين يوجهونهم ويسهلون تعميم ونشر مواقفهم، خاصةً تلك التي تبرز مواقفهم الإنسانية المؤيدة للمستوطنين، وتلك التي تتفهم السياسات والمخاوف الإسرائيلية بسبب التهديدات الفلسطينية لهم.
لا يبدو أن جولات السفراء المتعددة على المناطق الفلسطينية المنكوبة تجدي نفعاً، أو تثمر عن مواقف دولية صارمة ضد الحكومة الإسرائيلية، بدليل أن الجرائم الإسرائيلية تتكرر بصورة بشبه يومية، واعتداءات المستوطنين الإسرائيليين لا تنتهي ولا تتوقف، بل أصبحت تتزايد بصورةٍ لافتةٍ وتنتقل من منطقة إلى أخرى، كما أن حملات سلطات الاحتلال الأمنية والعسكرية لا تتوقف، بل تتواصل وتشتد، وتوغل أكثر في الدماء الفلسطينية، وتتمادى في سياسات الاعتقال والقتل والاغتيال والحصار والتضييق والهدم والمصادرة.
إلا أنه ينبغي عدم التقليل من هذه الجولات أو الاستخفاف بها، بل يجب العمل على تنظيم المزيد منها، وتفعليها واقتراح البرامج لها، وتسهيل جولاتها وتنظيم اللقاءات الشعبية لها، وتوفير الصور والوثائق الشواهد التي تؤيد الرواية الفلسطينية وتدعمها، فهذه الجولات وإن كانت تبدو منحازة وغير منصفة، وتوالي العدو وتحابيه، وتؤيده وتتفهم مخاوفه، وقد لا يكون جدوى منها ولا خطة عمل ترتجى منها، إلا أنها أحياناً إزاء حجم وفداحة العدوان الإسرائيلي، لا تملك إلا أن تقف مع الشعب الفلسطيني، وتتعاطف معه وتؤيده في مواقفه، وتحمل الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن سياساتها وسلوكيات مستوطنيها الموغلة في التطرف والعنصرية.
وهو ما يغيظ الإسرائيليين ويزعجهم، ويفضح سياساتهم ويحرجهم، وقد سبق لهم أن قاموا باستدعاء عددٍ من سفراء بعض الدول الأجنبية المعتمدين لديهم، وسلموهم مذكرات استنكار وشجب لمواقفهم وتصريحاتهم التي يرونها تسيء إليهم وتحملهم المسؤولية عما يلحق بالفلسطينيين من أذى، ولعلنا نستطيع البناء على مواقف بعض الدول الأوروبية التي يبدو أنها تستطيع الخروج ولو نسبياً عن النمط القديم والإطار الأمريكي الغاشم الظالم المنحاز ظلماً للكيان الصهيوني.
بيروت في 10/6/2023