فيينا / الأحد 16 . 06 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
خارج قطاع غزة المحاصر المخنوق، المشتعل الملتهب، الجائع العَطِش، الجريح النازف، الشهيد المفقود، الأسير المعتقل، الملاحق بالقصف والمطارد بالغارات، الممزق الأطراف والمدمر العمق، الذي سويت مبانيه بالأرض، ودمرت بيوته ومنازله، وقصفت أبراجه ونسفت مجمعاته، وجرفت شوراعه وتاهت طرقه، وصارت أرضه حفراً عميقة وأخاديدَ كثيرة، وتلال ركامٍ ومجمعات أنقاض.
خارج قطاع غزة الذي غابت معالمه وتغيرت ملامحه، فلا بيوت عامرة، ولا علامات بارزة، ولا طرقات معروفة، ولا محال مفتوحة، ولا أسماء مرفوعة، ولا مآذن تكبر، ولا مساجد يرفع فيها اسم الله، ولا مدارس تعلم ولا جامعات تدرس، ولا أسواق تبيع ولا محال تعرض بضاعتها، ولا دكاكين تزين للأطفال ما عندها، وتعرض جديدها، ولا ألعاب أطفال ولا مراجيح عيد، ولا حدائق ولا منتزهات، ولا سيارات ولا عربات، ولا شيء مما كان يميز قطاع غزة الذي كان يضج بالحياة، ويموج بالحركة، ويغلي بأهله ويزدان بسكانه، ويحتفل في الأعياد بفرح، ويخرج إلى الشوارع بزهوٍ، ويقاوم العدو بأفراحه واحتفالاته، وسعادته رغم ألمه وجراحه.
بعيداً عن قطاع غزة الحبيب، وسكانه الغُر المحجلين، وأهله الصابرين المحتسبين، وأبنائه الجرحى المصابين، والحزنى المكلومين، وأمهاته الثكالى وأطفاله اليتامى المحزونين، الحفاة العراة إلا من بسيطٍ تحت الركام وجدوه، ومن بين الأنقاض استخرجوه، وعلى أجسادهم التي أعياها الجوع وأطناها الوهن لبسوه، ورجاله الذين ما كسر القتل ظهورهم، ولا طأطأ العدوان رؤوسهم، ولا غَيَّرَت الحرب قناعاتهم أو بدلت مفاهيمهم، وإن وهنت قواهم، وشاب شعرهم، وتغضن جلدهم، ونحلت أجسادهم، وفقدوا الكثير من صحتهم، حتى تبدلت أشكالهم وتغيرت معالمهم، واستغربوا صورهم التي يروها في وجوه بعضهم، إذ لم تبق مرايا يرون فيها أنفسهم، ويزينون أمامها وجوههم، ويعدلون صورهم.
لكن في كل مكانٍ آخر يقيم فيه الفلسطينيون، في أقاصي الأرض وفي أطرافها، في الشتات القريب والانتشار البعيد، وفي المخيمات المحيطة بالوطن والتجمعات المتعلقة بالأرض، تغيب أجواء البهجة والفرح، وتزول من الشوراع والطرقات دعوات المباركة وعبارات التهنئة، ويخرج المصلون فرادى وزرافات إلى المساجد وساحات الصلاة العامة، بصمتٍ مهيبٍ، وخشوعٍ جليلٍ، وحزنٍ بليغٍ، وعيونٍ ذهب بريقها وانطفأ نورها، وأجسادٍ فقدت حيوتها، وهممٍ تراخت خطواتها، وقد تخلوا عن زينتهم، وامتنعوا عن لبس الجديد من ثيابهم، وفقدوا في كل مكان مظاهر الاحتفال بالعيد، الذي انتظروه طويلاً، وهيأوا أنفسهم للاحتفال به كثيراً.
لا يستطيع الفلسطينيون في كل مكانٍ بعيداً عن غزة، ولو أنهم اجتمعوا في مساجدهم، وأدوا صلاة العيد إحياءً لسنةِ نبيهم، وتمسكاً بدينهم وحرصاً على مضامين عبادتهم، واستمعوا إلى خطبة العيد التي كانت عن غزة وأهلها، وعن مقاومتها وتضحياتها، وصبرها واحتسابها، أن يظهروا فرحتهم، أو أن يتبادلوا التهاني بحلول عيدهم، فقد خلت رسائلهم المتبادلة فيما بينهم إلا من الدعاء، وغابت عنها كلمات المباركة، وحلت مكانها بشريات النصر وأمنيات العودة، وعزائم الثبات ووعود الصمود، ويقين البقاء وصدق الثبات.
يخجل الفلسطينيون عموماً وربما من لهم أهلٌ في غزة على وجه الخصوص، من التقاط الصور لأنفسهم، أو معايدة أطفالهم وشراء ثيابٍ جديدة لهم، والخروج معهم إلى الملاهي والملاعب، أو تنظيم رحلاتٍ عائليةٍ، وعقد حلقاتٍ للفرح والترفيه، أو الاستمتاع بشواء لحوم الأضاحي، إلا أن يروا غزة وقد توقفت الحرب عليها، وانتهى العدوان ضدها، وانسحب العدو منها، وخرج من كل محاورها، وعاد أهلها إلى مناطقهم، وسكنوا ما بقي من بيوتهم، وشعر أهلها بالأمن في مناطقهم، فلا عدو يهددهم، ولا حواجز تمنعهم، ولا طائرات مسيرة ترصدهم وتتجسس عليهم، أو تقنصهم وتقتلهم، ولا طائرات حربية تقصفهم وتغير عليهم، أو دباباتٍ ومدافع ميدان تطلق عليهم حمم قذائها ونيران أسلحتها.
يحزننا نحن الفلسطينيين في هذا اليوم ألا نحتفل ونفرح، وألا نشارك الآخرين ونتبادل معهم التهاني، لكننا نعد أمتنا التي تقف إلى جانبنا، وشعوبنا العربية والإسلامية التي تؤيدنا، وتتضامن معنا وتساندنا في مقاومتنا، وتدعم حقنا وتتمنى أن يكون لها دورٌ معنا، أننا سنحتفل معهم قريباً، وسنفرح معهم أكيداً، وسنحقق النصر على عدونا، ونرغمه ونجبره على وقف الحرب وإنهاء العدوان، والانسحاب من قطاعنا العزيز أولاً ومن أرضنا الطاهرة كلياً غداً، ولن تنفعه قوته ولن تحقق أهدافه عنجهيته، وكما أبكانا فإنه سيبكي، وكما آلمنا فإن وعد الله عز وجل الصادق لنا بأنه سيشكو وسيتألم، ولكنه لن يرجو من الله ما نرجوا.
فنحن بحمد الله وفضله بتنا اليوم أقوى وأقدر، وأصبر وأبصر، وأكثر ثباتاً وأعمق جذوراً، وأصبح يقيننا بعد الله عز وجل في غدناً أكبر، وفي مقاومتنا وقدرة أجيالنا أصدق، وجرحنا وإن غار فإنه سيبرأ، وعيوننا وإن بكت فإن دموعها ستجف وأحزانها ستنتهي، وسننسج بإذن الله في غزة ومعها، للعيد القادم أثواب العزة وملابس النصر، وسنجهز رايات العودة وأعلام الوطن، وسيكون أضحانا القادم أضحى عزة وعيد كرامة، نرفع به رؤوسنا، ونباهي به أمتنا، ونقول لشعبنا وكل أجيالنا القادمة، كل عامٍ وأنتم بخير، وكل عامٍ وأنتم بالنصر تحتفلون، وبالعزة ترفلون، وفي القدس تجتمعون وتلتقون، وفي رحاب المسجد الأقصى وباحاته تصلون وتهللون وتكبرون.
بيروت في 16/6/2024