السيمر / السبت 06 . 08 . 2016
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
لا يترك وزير المواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس فرصةً إلا ويدعو فيها رئيس حكومته للموافقة على مشروع بناء ميناء لقطاع غزة، وهو يجاهر بموقفه ويصرح به، ويحاول أن يجمع المؤيدين له والمشجعين عليه، ولا يفتأ يذكر بمميزات هذا المشروع، ويعدد منافعه على كيانه وشعبه، ويعلن أنه هو الذي صاغ هذا المشروع ووضع تصوره العام، ويرى أنه الأفضل لشعب “إسرائيل” ودولتهم، وأن موافقة حكومته على بنائه يعتبر نقطة تحول جذرية في العقلية الصهيونية، وبداية مرحلة جديدة ستكون مختلفة عما سبقها، وسيكون لها نتائج إيجابية على أمن الكيان أكثر مما تحققه الإجراءات الأمنية والعمليات العسكرية وجهود الحصار التي لا تفتأ تجر الويلات والانتقادات على الحكومة الإسرائيلية.
يرى كاتس وهو العضو في الكنيست عن حزب الليكود اليميني المتطرف، الذي يعارض المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، ويرفض قيام دولةٍ فلسطينيةٍ أياً كانت مواصفاتها وضماناتها، وشكلها وحدودها، ويدعو إلى ترحيل عائلات منفذي العمليات العسكرية وهدم بيوتهم، أنه لا يمكن للحكومات الإسرائيلية أن تستمر في سياسة الحصار التي تنتهجها، وأن تضمن نجاحها إلى الأبد، وإن ظنت أنها تحقق نجاحاتٍ نسبية.
إلا أنها تبقى سياسة غير ناجحة، وقد أدت إلى نتائج عكسية غير ما توخت الحكومة الإسرائيلية منها، إذ أنها تسببت في نشوء مقاومة عصية على الاقتلاع، وصعبة في المواجهة، وعندها تطلعات للهجوم أكثر من الدفاع، وكان من نتيجة الحصار أن اعتمدت المقاومة على نفسها وصنعت سلاحها وطورت ما عندها، فضلاً عن أن هذه السياسة تجلب للكيان الصهيوني الانتقادات الدولية، وتسببت في خلق مقاطعة دولية واسعة ألحقت خسائر حقيقية ببنية الكيان الاقتصادية.
لا يتوقف كاتس عن الترويج لفكرته، ولا ييأس من انتقاد البعض لها واستخفاف المسؤولين بها، ولا يمتنع عن تكرار إدراج المشروع على جدول أعمال مجلس الوزراء العادي والأمني المصغر، وقد نجح نسبياً في إقناع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي بات يرى وجاهةً حقيقية في هذا المشروع، وكاد أن يتبناه ويدعو إليه لولا اعتراض السلطة الفلسطينية والحكومة المصرية عليه، لكنه يرى أن هذا المشروع يلق قبولاً أمريكياً ورعاية أوروبية، واستعداداً عربياً ودولياً واسعاً لتمويله وتشغيله، مع تعهدات أوروبية عديدة لضمان أمن كيانه وسلامة مواطنيه ومصالحه، وضمان عدم استخدام الميناء في توريد أو تهريب ما يستخدم في صناعة المتفجرات أو في تطوير القدرات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية.
لكن يسرائيل كاتس وكل المؤيدين له، وهم أغلبية أمنية وعسكرية، ممن يمثلون النخبة الإسرائيلية، لا يتطلعون إلى المصالح الفلسطينية، ولا تقلقهم معاناة قطاع غزة، ولا يدفعون بهذا المشروع رغبةً منهم في تحقيق رفاهية في حياة الفلسطينيين المحاصرين، ولا رأفة قلبٍ فيهم، أو إحساسٍ منهم بالرحمة والشفقة، أو تأنيب ضميرٍ لهم عما اقترفوه بحق سكان القطاع من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، ولا يدفعهم شئ من المبادئ الإنسانية النبيلة للقيام بهذا المشروع، وقد لا تعنيهم صورتهم البشعة وعلاقاتهم الدبلوماسية المتعثرة مع المجتمع الدولي.
الحقيقة أن عيونهم قلقة على أمن ومستقبل كيانهم، فالمقاومة الفلسطينية تزداد قوةً وتتعمق جذورها في الأرض أكثر، وشوكتها تزداد مع الأيام قوةً وقساوةً، والحروب ضدها لا تضعفها بل تأتي بنتائج عكسية، وما عادت تخيف الفلسطينيين أو تقلقهم، والحصار يصنع منهم قوةً وصموداً وإرادةً يصعب كسرها.
كاتس وفريقه يرون أن زيادة رفاهية سكان قطاع غزة تحد من سلطة حركة حماس عليهم، وتقلل كثيراً من فرص المغامرة والمقامرة بالإنجازات الاقتصادية، وبمصالح السكان الكثيرة، الأمر الذي يجبرها على إعادة التفكير في مواقفها الإستراتيجية، ولا يستبعد كاتس وفريقه أن يقلب الميناء والتسهيلات المتحققة منه تفكير حركة حماس، وأن يحدث نقلة نوعية في منهجها، تماماً مثلما قد يحدث قلة نوعية في العقل الإسرائيلي الذي يتعامل مع قطاع غزة خصوصاً والمناطق الفلسطينية عموماً.
ويرون أن مشروع بناء الميناء العائم الذي تبلغ مساحته خمسة كيلو متراتٍ مربعةٍ، والذي يبعد عن شواطئ غزة قرابة خمسة كيلو متراتٍ، ويكلف بناؤه خمسة مليارات دولارٍ، يحتاج لخمسة سنواتٍ حتى يتم إنجازه كلياً ويبدأ تشعيله والعمل به، وهذا يعني أن فرص الهدنة ووقف العمليات القتالية والعدائية ستكون محكومة بالخمس سنوات الأولى وبمثلها وأكثر بعد ذلك، ومع مضي الزمن فإن قدرة المقاومة على استعادة دورها ستضعف، وقبضتها الأمنية القوية ستتراجع أمام إنجازات البناء والتعمير، والتجارة والصناعة وشبكات المواصلات ومحطات توليد الكهرباء والطاقة والغاز والأسواق النشطة وحركة التجارة الخارجية المثمرة.
علماً أن مقترح كاتس يتجاوز مشروع الميناء إلى بناء جزيرة اصطناعية متكاملة على بعد خمسة كيلو مترات قبالة قطاع غزة، وبمساحة قدرها ثمانية كيلو مترات، بحيث تضم إلى جانب الميناء مطاراً صغيراً، على أن تربط الجزيرة العائمة بقطاع غزة عن طريق جسر، تتوسطه عدة نقاط أمنية إسرائيلية، تقوم بمراقبة وتفتيش جميع البضائع التي يتم تفريغها من السفن، فضلاً عن البضائع التي تصل جواً عبر المطار، وستكون أعمال الرقابة والتفتيش حصرية بالسلطات الإسرائيلية، التي قد تستعين بأجهزة ومعداتٍ أوروبية وأمريكية، تساعد في سرعة إجراءات التفتيش والمراقبة ودقتها.
ويرى كاتس دوراً كبيراً للشركات الإسرائيلية والأجنبية الخاصة في نجاح المشروع وتشغيله، التي يمكن لحكومته التعاقد معها بموجب شروط جزائية قاسية في حال وقوع أي خلل أو تجاوز أمني يخالف شروط دفاتر التعاقد، وهذا الأمر ينطبق على الشركات الفلسطينية التي ستخاف على ودائعها وتجارتها مع الجانب الإسرائيلي.
كما يعتقد أن بناء الميناء وتشغيله سينعش الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، وسيدر على الأسواق الإسرائيلية الداخلية مليارات الدولارات، وسيخلق سوقاً تبادلية تقوم على المصالح المشتركة، التي من شأنها حماية الأمن وصيانة الهدنة ومنع انهيارها، فضلاً عن أن هذا المشروع سيجلب رؤوس أموالٍ عربيةٍ كبيرة، ستجد نفسها مرتبطة بالاقتصاد الإسرائيلي وتتعامل معه.
رغم ما سبق من سوء نيةٍ إسرائيليةٍ مبيتةً، ومخططاتٍ مدروسةٍ لمقاصدَ مشبوهةٍ، إلا أنني أرى أن قطاع غزة في حاجةٍ ماسةٍ لهذا المشروع، ولن يسقط أبداً في حبائل وشراك العدو، وسيكون أكثر وعياً وأبعد ما يكون عن الترويض والتخدير، علماً أن الميناء والمطار ليس منحةً إسرائيليةً، بل هما أحد إنجازات المقاومة وثمار صمودها.