فيينا / الأثنين 13 . 01 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
عبدالرحيم الجرودي
تأتي هاته الشذرات على هامش سمر مع رفقة من الأصدقاء جمعتني بهم محطات نضالية وثقافية استذكرنا فيها جملة من المواضيع التي كانت في مرحلة عمرية تؤسس المشهد السياسي وطبيعة التعاطي معه من خلفيتنا الإسلامية بروح منفتحة على الآخر تسعى لرصد المشترك وتعضيده، ومن جملة هاته النقاشات مثلا: هل يمكن أن يكون اليسارمتدينا؟ وما موقع مقولة كارل ماركس، التي وردت في كتابه “مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل: الدين هو تنهد المخلوق المضطهد، وهو قلب عالم قاسٍ، وروح أوضاع لا روح فيها. إنه أفيون الشعوب
كتب ماركس هذه المقولة في سياق نقدي لفلسفة الحق عند الفيلسوف الألماني هيجل، حيث كان ماركس يحلل دور الدين في المجتمع. في ذلك الوقت، كانت أوروبا تشهد تحولات كبرى مع صعود الرأسمالية والثورة الصناعية، مما أدى إلى تفاقم الفوارق الطبقية وظهور طبقة عاملة تعاني من الاستغلال والفقر.
في هذا السياق يُعتبر الدين من أبرز المواضيع التي تناولها الفكر الماركسي منذ نشأته حيث يعرف ماركس الدين بأنه “أفيون الشعوب”، وهو تعبير عن التصور المستهلك بين نخب اليسار عندنا، بأن الدين يُستخدم كأداة تهدئة وتخفيف للآلام الناتجة عن القهر الاقتصادي والاجتماعي، حيث يصبح وسيلة من وسائل تبرير الهيمنة الطبقية والاستغلال، مما يُثني الجماهير عن النضال لتحررهم المادي. ومع ذلك، فإن هذا الطرح لا ينفي الدور الثقافي والروحي الذي قد يلعبه الدين في تشكيل الوعي الجمعي.
اليسار المتدين: هو تيار سياسي وأيديولوجي يجمع بين مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة التي ينادي بها اليسار الكلاسيكي وبين القيم الروحية والأخلاقية التي تنشدها الأديان. لقد ظهر هذا التيار كرد فعل على الهيمنة الرأسمالية التي استغلت الدين لتكريس وضع الإستلاب والإستغلال، وكذلك كرد فعل على التصور الماركسي التقليدي الرافض للدين. فهو يسعى إلى اعتماد الإيمان كخلفية تصورية وحافز للنضال الاجتماعي والتغيير الاقتصادي.
كانت أمريكا اللاتينية خلال منتصف القرن العشرين ساحة لبروز اليسار المتدين بشكل ملحوظ، حيث استوعبت تيارات يسارية حركات دينية ذات الطابع التحرري، فكان “لاهوت التحرير” أحد أبرز التعبيرات الفكرية لهذا التيار، وهو حركة لاهوتية تطورت في الكنيسة الكاثوليكية خلال الستينيات والسبعينيات.
دعا لاهوت التحرير إلى تحرير الفقراء من القهر الاقتصادي والاجتماعي والإستلاب السياسي، مُستندًا إلى قراءة تقدمية ناضجة للتعاليم المسيحية. هذه الحركة استفادت من الفكر الماركسي لتحليل العلاقات الاجتماعية، لكنها استخدمت الدين كمصدر قوة وحافز لاستنهاض الوعي الجماعي.
من بين الثورات والحركات الاجتماعية التي لعب فيها اليسار المتدين دورًا حاسما على سبيل المثال لا الحصر: ثورة نيكاراغوا حيث كان للكنيسة الكاثوليكية التحررية دور كبير في دعم ثورة الساندينيين ضد نظام سوموزا الديكتاتوري. حيث انخرط العديد من القساوسة والشخصيات الدينية في الحركة الساندينية[1]، مؤكدين أن النضال ضد الظلم والاستغلال يتماشى مع التعاليم المسيحية.
في السلفادورمثلا، خلال الحرب الأهلية بين 1980-1992، كان الأسقف أوسكار روميرو رمزًا بارزًا لليسار المتدين. انتقد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قِبل الحكومة، ودعا إلى العدالة الاجتماعية، مما جعله هدفًا للنظام، حيث تمت تصفيته أثناء قداس ديني.
رغم الاختلافات الجوهرية بين الماركسية والدين، إلا أن الحركات اليسارية المتدينة في أمريكا اللاتينية نجحت في التعاطي مع الاثنين. تمثل هذا التعاطي في استخدام المفاهيم الدينية لتحفيز العمل الثوري والتأكيد على الكرامة الإنسانية. بدلاً من رفض الدين واستبعاده، حيث سعت هذه الحركات إلى تحرير الدين من هيمنة الإستكبار ومؤسساته وإعادة دوره الرسالي في خدمة قضايا العدالة والتحرر والنجاة، فقد كان المسيح عليه السلام رمزا للمضطهدين في مرجعية لاهوت التحرير، وأن الكنيسة يجب أن تكون في صف المستضعفين ضد القهر الاقتصادي والنضال ضد الاستعمار والهيمنة الإمبريالية.
يمثل اليسار المتدين في أمريكا اللاتينية نموذجًا مميزًا لإمكانية التكيف بين الدين والأيديولوجيا الماركسية. من خلال إعادة تفسير القيم الدينية بما يخدم قضايا التحرر والعدالة، نجحت هذه الحركات إلى حد كبير في حشد الجماهير وتحقيق تقدم ملموس في النضال ضد القهر الاجتماعي. تبقى هذه التجربة درسًا هامًا حول كيفية الحفاظ على الهوية من خلال استحضار الرسالية في الأداء السياسي لتحقيق تغيير حقيقي.
في عالمنا العربي وفي لبنان خصوصا حيث التنوع الطائفي والإثني، كان السيد موسى الصدر رمزا للتحرر الاجتماعي والسياسي، حيث أسس حركة المحرومين[2] التي دعت إلى حقوق الطبقات المهمشة والفقراء، فقد كان السيد الصدر يجمع بين التعاليم الإسلامية والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، مشددًا على ضرورة مقاومة الظلم والاستغلال والإحتلال، فكان بذلك ينفض غبار الأفيون الذي خلفته موروثات الإنبطاح والجبرية عن معالم وأسس الرسالة المحمدية، فكانت حركة المحرومين جبهة لكل الأحرار على تنوع مشاربهم، ولانسجام مبادئها مع البيئة الحاضنة وتقاطع تطلعاتها مع عدد من القوى التحررية في مكافحة التهمسش ومحاربة الفقر وإرساء العدالة الإجتماعية، استطاعت أن تستقطب اليها عددا من رواد التيار الماركسي اللبناني الذين ساهموا في إعطاءها نفسا واسعا خرج بها من دائرة الطائفة الى رقعة الوطن.
ختاما وفي ظل ما تشهده الساحة العربية والإسلامية من تحولات في ظل الهيمنة الصهيوأمريكية، لا يمكن أن تظل المعارك الثقافية الفاشلة أساسا لرسم معاركنا النضالية والتحررية، بل على الجميع أن يتوحد في خندق واحد يسع الجميع: اسمه الوطن، فقد أوشك أن ينفرط عقده.
[1] لحركة الساندينية، المعروفة أيضًا باسم الجبهة الساندينية للتحرير الوطني (FSLN)، هي حركة سياسية وثورية نيكاراغوية تأسست في عام 1961. سميت الحركة على اسم أوغستو سيزار ساندينو، الذي قاوم الاحتلال الأمريكي لنيكاراغوا في الثلاثينيات من القرن العشرين. كانت الحركة تهدف إلى الإطاحة بالديكتاتورية العائلية لحكم آل سوموزا، التي كانت مدعومة من قبل الولايات المتحدة.
[2]حركة المحرومين هي حركة سياسية واجتماعية لبنانية تأسست في السبعينيات، وارتبطت بشكل وثيق بالطائفة الشيعية في لبنان. كانت الحركة بقيادة الإمام موسى الصدر، الذي لعب دورًا محوريًا في تعبئة الشيعة في لبنان للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. تُعتبر الحركة واحدة من أهم الحركات التي ساهمت في تغيير المشهد السياسي اللبناني، خاصة فيما يتعلق بتمثيل الطائفة الشيعية.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات