فيينا / الأحد 20. 04 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
رسل جمال
سالفتتا لليوم من قلب بغداد وناسها
“من البغددة إلى السوقية فاصلة زمنية وفجوة اجتماعية وفارق زمني ومكاني وتغيير في السمة الاجتماعية للمجتمع البغدادي
بين عبارة “مرحبا أغاتي” التي كانت تعكس الدفء والتهذيب البغدادي الأصيل، و”هلا بالعزيز” التي تُقال( بكسر العين ) بروح أقل دفئًا وربما أكثر تصنعًا، وبنبرة اعلى فجوة تمثّل انعكاسًا لتحوّل كبير في النسيج المجتمعي البغدادي، من الطابع المعروف بالبغددة، إذ غابت طقوس جاي العصر والكعك ابو السمسم (العصرونية) ورائحة التراب وهو يرش ويغسل بصوندة الطرمة للشارع، وريحة الشبوي والكاردنيا والياس، بيوت باتت مهجورة في بغداد غادرها ابناءها وهم يقولون يابه صارت زحمة عليك، من فضلك ، العفو، كلمات تدل على رُقي التعامل بين الناس، وعبارات مثل “شِلونك عيني“، “تفضل يابه“، “تدلل“، كانت تُقال بنغمة صادقة تنم عن طيبة قلب واحترام متبادل، حتى وإن كانت الحياة صعبة، فالكرامة كانت فوق كل شيء.
لذلك اختفت سمة البغددة وهي سمة الأصالة والرقي من بغداد نفسها لان البغددة لا تعني فقط اللهجة أو المظهر، بل هي فلسفة حياة، البغدادي الأصيل عُرف بذوقه الرفيع، وتعامله الراقي، وتهذيبه العالي، اذ كانت المجالس عامرة بالأدب والطرفة، والجيرة لها قدسيتها، والشارع كأنّه امتداد لبيت كل شخص.
في المقابل، “السوقية” أصبحت اليوم توصيفًا للحالة السائدة من قسوة في التعامل، و جفاف في التعبير، وتغليب المصلحة على الروح الجماعية، وتراجع واضح في مظاهر الذوق العام والتكافل الاجتماعي، اذ صارت المجاملات ثقيلة، والابتسامة عملة نادرة، والمصلحة هي المحرك الأول للعلاقات.
اما اللغة فقد تغيّرت، أصبحت هجينة، وطغى عليها ما يُعرف بـ”الالفاظ السوقية“، والتعامل اليومي فقد الكثير من لياقته وسحره، والسبب ليس فقط الظروف الاقتصادية والسياسية، بل أيضًا التحولات القيمية وضعف مؤسسات التربية الاجتماعية، من الأسرة إلى المدرسة.
ان التحول من البغددة إلى السوقية لم يكن فجائيًا، بل جاء تدريجيًا، بفعل الحروب والحصار والهجرة والانفتاح التكنلوجي السلبي. هذا كله ولّد شعورًا عامًّا بعدم الأمان، مما دفع الأفراد إلى الانغلاق على أنفسهم والبحث عن النجاة الفردية بدلًا من التعاون المجتمعي.
وقبل الختام وبعد السلام وللانصاف الصورة ليست غامقة جدا فرغم هذا التغيير، ما زالت بعض من ملامح “البغددة” حيّة في بعض البيوت، وفي بعض النواصي القديمة، وفي حكايات الجدات ورائحة فوطتهم البريسم والجنكال الذهب وهي الهوية البغدادية التي عصت على الزمن ان يمحي شكلها تمامًا، لكنها بحاجة إلى وعي مجتمعي يعيد لها مكانتها، عبر الإعلام، والتربية، وإعادة الاعتبار للذوق العام والقيم المشتركة.
ان البغددة ليست مجرد لهجة، بل هي حالة خاصة تعيشها مدينة بغداد وهي منظومة من القيم الراقية التي تميز المجتمع البغدادي، بوعيه وثقافته، ولابد ان يستعيد شيئًا من جماله المفقود، ليعود “مرحبا أغاتي” هو العنوان، لا مجرد ذكرى من الماضي..
*سكرتير التحرير
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات