أخبار عاجلة
الرئيسية / اصدارات جديدة / كاتب وكتاب / ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار

ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار

فيينا / الأحد 11 . 05 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية  

محمد علي محيي الدين

تأتي مذكرات مارغو كرتيكار، المعنونة في ترجمتها العربية بـ “ذات زمن في بغداد”، بوصفها شهادة حية على لحظة عراقية كانت تموج بالتحولات العاصفة. فهذه الصفحات ليست مجرد سيرة شخصية، بل سردية نابضة لجيل كامل عاش التعددية ثم شهد تصدعها، تنطلق من ذاكرة فتاة يهودية عراقية نشأت في قلب بغداد، قبل أن تبدأ المدينة – والوطن – في الانغلاق على ذاته، ويصبح الماضي عبئًا والهوية خطرًا.

ومارغو تكتب بأسلوب بسيط صافٍ، يخلو من التكلّف، لكنه مشبع بالوجع والتأمل. لا تتحدث عن ذاتها باعتبارها ضحية، بل باعتبارها جزءًا من عالم تمزق. تنقل يومياتها المدرسية، علاقاتها بأقرانها المسلمين والمسيحيين واليهود، لهجة أمها، وأحاديث أبيها عن الدولة، وهي تفعل ذلك دون استعلاء أو لوعة مفتعلة، بل بحنين خافت يحمل بين طياته نقدًا مريرًا لما آلت إليه الحال.

تقول عن تلك الطفولة البريئة التي لم تكن تعرف الفروق الدينية:

“في مدرستي، لم يكن أحد يسأل الآخر: هل أنت مسلم أم يهودي أم مسيحي؟ كنا نغني للنشيد ذاته ونقف إجلالًا للعلم نفسه. لم أشعر بأن هناك فرقًا بيني وبين صديقتي زينب حتى بدأ الكبار يهمسون بأشياء غريبة.”

في هذه المذكرات، تتحول بغداد من مدينة إلى كائن حي، أمّ حنون طُعنت في ظهرها. فحين تصف الأزقة، والمدارس، والكنس، والأسواق، فإنها لا تسترجع الأماكن فقط، بل ما كانت عليه الروح العراقية من فسحة وتداخل وطمأنينة، قبل أن تعصف بها التحولات السياسية التي لم تميز بين الهوية والانتماء، فجعلت من كل اختلاف شبهة.

 ولفهم خلفية هذه المذكرات، لا بد من استحضار تاريخ اليهود العراقيين، الذين يعدّون من أقدم الجماعات اليهودية في العالم، جذورهم ضاربة في أرض الرافدين منذ أكثر من ألفي عام. وفي القرن العشرين، خصوصًا في عهد الملكية، لم يكونوا أقلية مهمشة، بل شريحة فاعلة في الاقتصاد، والثقافة، والتعليم، بل حتى في السياسة.

لكن هذا الحضور بدأ في الانحسار بعد نكبة فلسطين عام 1948، حين صارت القومية الصاعدة تنظر إلى اليهود بوصفهم “قنابل موقوتة”، لا مواطنين. فُرضت القيود، وبدأت الاعتقالات، واشتدت وتيرة التضييق، إلى أن جاء التهجير الجماعي بين عامي 1950 و1952، والذي اقتلع أكثر من مئة ألف يهودي عراقي من جذورهم، في واحدة من أوسع عمليات الإفراغ السكاني في الشرق الأوسط الحديث.

تصف مارغو تلك اللحظة المروعة، لا من زاوية سياسية، بل من شقوق الذاكرة اليومية، فتروي: “أصعب ما مرّ عليّ لم يكن يوم مغادرتي بغداد، بل اليوم الذي سمعت فيه جارنا المسلم يقول لأبي: ‘أنتو مو منّا… أنت يهودي’. عندها فقط عرفت أن الوطن يمكن أن يصبح سكينًا.”

لم يكتفِ العراق الرسمي بهذا النزف، بل واصل حملات التشكيك والملاحقة لما تبقى من اليهود بعد ذلك، لا سيما في عهد البعث الثاني، حين غابت الثقة وتحولت الهويات الدينية إلى أدوات قمع. في هذا المناخ الملوث بالخوف، تشكّلت مذكرات مارغو كرتيكار، كوثيقة تحكي عن الإنسان حين يشعر أن تاريخه صار تهمة، وأن المكان الذي أحبه قد تخلّى عنه.

وما يمنح هذا العمل خصوصيته هو قدرته على التقاط التمزق الداخلي دون الوقوع في خطاب الضحية أو المظلومية. مارغو لا تهاجم العراق، بل تحبه رغم خذلانه. لا تتنكر لماضيها، لكنها تعريه من الأوهام، وتقدمه في هشاشته الإنسانية، حيث لا توجد إجابات سهلة، ولا أشرار مطلقون. بل هناك أفراد، ومؤسسات، وأحلام، انهارت بفعل الخوف وسوء التقدير السياسي، وغياب ثقافة التعددية الحقيقية.

ولعل من أكثر المشاهد تأثيرًا ما كتبته عن مغادرتهم البلاد: “غادرنا في الليل، بلا ضجيج. حملتُ صورتين، ودفتر مذكراتي، وقليلًا من التراب في كيس قماش صغير. لم أبكِ، كنت خائفة من أن يُسمع صوتي في الظلمة.”

  كأنها كانت تُدرك أن الرحيل لن يكون مؤقتًا، وأن الجرح لن يكون سطحيًا. هذا الصمت، وهذه الرمزية في التراب، تقول أكثر مما تقوله المقالات السياسية والخطب الصاخبة.

 في خاتمة هذه القراءة، تبرز رؤية وجودية حادة: الهوية ليست بطاقة ولا شجرة نسب، بل هي شعور بالأمان والانتماء إلى مكان لا يتبرأ منك عند أول عاصفة. ومتى ما خذلك وطنك – أو جعلك تشك في حقك في العيش فيه – فإنك لا تفقد “هويتك” بقدر ما تفقد إيمانك بالعالم.

تكتب مارغو، وقد مضت عقود على مغادرتها العراق، في لحظة تأمل مؤلمة: “بعد سنوات في لندن، لم أسأل نفسي لماذا لا أشعر بالانتماء. كنت أعرف الجواب: لأن الوطن الحقيقي لا يُخلق من جنسية، بل من نظرة جار، ودفء شارع، ورائحة طعام أمك.”

مارغو، التي بقيت لغتها عربية، ومطبخها بغداديًا، وأغانيها عراقية، لم تغادر العراق فعليًا، بل غادرها العراق. وهذا هو جوهر المأساة.

بقي أن نقول شيئًا عن الترجمة التي اعتمدها المترجم الرائع صلاح مهدي السعيد. لقد بذل جهدًا ملحوظًا في نقل النص إلى العربية، ليس فقط بدقة لغوية، بل بحسٍّ إنساني وفني عالٍ. جاءت لغته سلسة، عذبة، تنساب بهدوء، حتى ليخال القارئ أنه يقرأ العمل بلغته الأصلية. بل يمكن القول، من فرط التماهي بين النص والترجمة، إنه لو شاءت مارغو كرتيكار أن تكتب مذكراتها بالعربية، لما خرجت إلا على هذا النحو.

لقد حافظ المترجم على روح المذكرات، وعلى بنيتها العاطفية والزمنية، وعلى صوت الكاتبة الداخلي. سعى لأن يتلبّس شخصيتها، وأن يبرز معاناتها وأفكارها كما أرادتها أن تُروى، دون أن يتورط في تزيين أو تطويع النص وفق مزاج القارئ العربي. كانت الترجمة جسدًا جديدًا للروح ذاتها، حيث ظل الجو العام للمذكرات – بشخوصها، وأحداثها، وأمكنتها – حيًا ومتنفسًا في العربية كما في الأصل.

وهكذا، تصبح هذه الترجمة ليس فقط وسيطًا بين لغتين، بل بين زمنين، وذاكرتين، وقلبين: قلب الكاتبة، وقلب القارئ العربي.

 والكتاب من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين،  وصدر في أواخر سنة 2024 ب 400 صفحة من القطع الوسط.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً