السيمر / الأربعاء 30 . 12 . 2015
ملهم الملائكة
رابعة العدوية شهيدة العشق الالهي، بدأت حياتها مغنية في سوق العبيد بالبصرة، وتدرجت من قينة يمر بها الرجال لبضع دراهم حتى تفرغت للعشق الالهي واعتزلت عالم الرجال لدرجة انها رفضت الزواج حتى مماتها، لكنها احتمت بعالم النساء ووجدت في عشرة المسترجلات منهن ملاذا. لست باحثا في تاريخ التصوف والعشق الإلهي، لكن الصدفة ساقت لي بضع وريقات من مخطوطة باريس فكتبت هذا الكشف.
لماذا رفضت رابعة ( أم الخير) اسماعيل العدوية الزواج وهي الجميلة الساحرة؟ لمن غنت رابعة ومن سرقها وكيف بيعت في سوق النخاسين؟ ما علاقتها بعبيد أل معتوق ” آل عيتك او عتيك كما تختلف الانساب لهم” بالبصرة؟ ومن انفق عليها في ربيع عمرها، ولمن غنت بصوتها الشجي ولمن رقصت بجسدها المثير المغناج؟
ولدت في السيبة بالبصرة اولا وانتقلت مضطرة بعد وفاة ابيها وامها الى حي عُرف فيما بعد بحي بشار بالبصرة القديمة، وسميت رابعة لأنها البنت الرابعة لأب يعمل صيادا في شط العرب ( نهر العرب كما كان يسمى) ، وأم كانت تحيك الحصران كما هو شائع في قرى البصرة.
وكما تنقل الموسوعة الشعبية ويكيبيديا فقد كانت رابعة تخرج لتعمل مكان أبيها المريض بقاربه عبر نهر أبو فلوس جنوب البصرة ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء ، وبعد وفاة والديها غادرت رابعة مع أخواتها ( الاربع) البيت بعد أن دب في البصرة جفاف وقحط أو وباء وصل إلى حد المجاعة ثم فرّق الزمن بينها وبين أخواتها، وبذلك أصبحت رابعة وحيدة مشردة، وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وقُطَّاع الطرق، فخُطفت رابعة من قبل أحد اللصوص وباعها بستة دراهم لأحد التجار القساة من قبيلة آل عتيق البصرية، وأذاقها التاجر سوء العذاب، ولم تتفق آراء الباحثين على تحديد هوية رابعة فالبعض يرون أن آل عتيق هم بني عدوة ولذا تسمى العدوية.
فصول غريبة في حياة أم الخير
في تاريخ حياتها غموض كبير. كتاب “الصبابة والأغاني بحياة الغلمان و الغواني ” للإمام أحمد بن سليمان بن كمال باشا والذي قام بتأليفه بتكليف من السلطان سليم الأول فرغ من كتابته في عام 905 للهجرة، لم يُنشر بل بقي مخطوطة انفردت بنشر فصول غير معروفة عن حياتها. والمخطوطة يعرضها متحف صغير في باريس وتوجد نسخ مصورة منها للباحثين، وقد نقل عنها محقق الكتاب نجيب نجيب الله الافغاني المستعرب الذي رافق الشيخ محمد عبده حله وترحاله الفصول الاغرب عن حياة أم الخير، ولمن يرغب في متابعة شأن رابعة يمكن العودة الى المخطوطة في متحف الرسائل والمخطوطات بباريس Museum of Letters and Manuscripts.
الجأها الفقر بعد وفاة والديها الى امتهان الغناء، وكان فنا شائعا في احياء البصرة القديمة التي عرفت كمناطق للهو والطرب وممارسة الدعارة، وكانت البصرة تنأى بنفسها عن احياء “العبيد” فيها، والتي انتشرت في مناطق السيبة، وما عرف ببشار واطراف ما عرف فيما بعد بالزبير.
كانت تغني وهي جالسة خلف خمار يخفي عن الاعين سحرها الأخاذ، واحيانا كانت تغني من غرفة قريبة اسدل على مدخلها ستار كثيف يمنع الجُلاس من رؤية وجه المغنية. رابعة العدوية كان يمكن ان تصبح غانية لو شاءت، الا أن ظروفها منعتها، وربما كان لبيئة البصرة الظالمة دور في اخفائها.
وما كان لمسلمة في القرن الثاني للهجرة ان تغني، وما كان لامرأة ان تظهر بين الرجال وتجالسهم، ولكن رابعة حسب مخطوطة “الصبابة والأغاني بحياة الغلمان و الغواني ” فعلت ذلك معتمدة على رغبة جامحة في التحرر انتابتها بعد وفاة اهلها. رابعة كانت تكره الرجال، وينقل الإمام أحمد بن سليمان بن كمال باشا انها كانت تعاشر نسوة بعينهن معاشرة الانثى حين تهب نفسها للذكر، أي انها كانت تساحق المستفحلات من النساء و يالكثرتهن في البصرة القديمة آنذاك.
عاشقة الله ، عشيقة المحاربة ام عمير !
ولعل في هذا الخبر تفسير لعزوفها المستمر عن الزواج، وفي نفس الوقت هو يسلط الضوء على مساحة الحرية التي استطاعت ان تنفذ اليها رابعة العدوية من خلال النسوة المستفحلات، وينقل نفس المصدر أن أم عمير البصرية التي شاركت في معارك وغزوات عدة وغنمت دروعا وسيوفا وخيلا من رجال قتلتهم، هذه السيدة المقاتلة هي التي كانت عشيق(ة) رابعة وحاميتها، فقد اوقفت جاريتين لمساعدتها في مهنة الغناء، وكان الغناء صوفيا في عصر لم يفهم الناس فيه الصوفية بعد ، ففسروا – خلال سنوات القرن الثاني للهجرة – عبارات العشق والغرام والهيام التي فيه على انها معالم ابتذال دنيوي وبات الرجال ينفقون دراهمهم في بيت رابعة طمعا في سماع الكلمات الساحرة ولاستراق نظرة من سيدة الحسن السمراء المفعمة بالحيوية والاثارة.
عشقت رابعة حبيبا خياليا، وبهذا كان تحقق العشق محالا، فوجدت في عشق النساء بديلا قد يشبع الروح والجسد، عشق النساء يستلزم المصاحبة، وتلامس الاجساد وانسحاق الشفاه تحت الشفاه، ومرور الاصابع فوق الاكام وتحسس الهضاب وانسياق الانامل في سياحة مسام الجسد دون سراع ودون عجالة بل حسب ما يشتهي العصب الموجوع بحثا عن تكامل اللذة .
ما الذي جاء بقبرها الى بيت المقدس ؟
وبقيت رابعة في كنف أم عمير، معشوقة مكرّمة تخدمها الوصائف والجواري، ويغسلن كل ليلة جسدها الخمري اللون بماء الورد لتكون حاضرة لبعلتها أم عمير فتقضي الليل معها دون إثم ودون فضيحة، فالمجتمع لا يلتفت الى عشرة النساء ببعضهن ، كما لا يلفت الى عشرة الرجال ببعضهم– كما نقل عن صبيان البطحة بعدها ، وعن غلمان أم الزبير أو الزبير في بصرة العراق حاليا الذين عشقوا بعضهم فتلوّن حبهم ، وخافوا حدود الاسلام الصعبة، فاعلنوا زهدهم وتمشيخهم ودروشتهم ملتصقين غالبا بمن هاجروا من آسيا الوسطى من الدراويش. ولكن لم يكن لأحد ان يُعلن حقيقة الامر، فالدراويش آنذاك باحثون عن لذة خارقة مع الله، وهي لذة لا تتحقق ، فيحيدون عنها الى ما يشبهها في التلذذ بعالم الذكور الذي لا خطر من انكشافه ولا خطر في ملاحظته ولا تجلب عشرته العيون والرقباء كما تفعل عشرة الرجال بالنساء.
مثل هذا شائع في الكنائس والأديرة، فالمثلية ( بلغة يومنا هذا) شائعة بين الراهبات كما انها شائعة بين القساوسة والرهبان.
ماتت رابعة في بيت المقدس بعد ان سافرت اليها مع زرافات المتصوفة الذين قدموا الى المدينة المقدسة منذ مطلع القرن الثاني للهجرة مبتعدين عن بيئة مكة والمدينة الصحراوية المحافظة. ونقلا عن صحيفة القبس الكويتية “في القرن الثاني للهجرة قدم عدد كبير من الصوفية إلى الديار المقدسة، وفي مقدمة هؤلاء أم الخير رابعة بنت اسماعيل العدوية ، وبشر الحافي ، وذو النون الحصري ، وإبراهيم بن أدهم ، والسري بن المفلس السقطي”.
وذهب المؤرخ العراقي رشيد الخيون في مقال نُشر في صحيفة الاتحاد الاماراتية بتاريخ (31.08.2013) الى أن المؤرخين اختلفوا حول شخصية رابعة مؤكدا أنّ ” اخبار العدوية البصرية تداخلت مع رابعة الشَّامية ابنة إسماعيل وزوجة ابن أبي الحواري الكاتب (ت 230 هـ). ورد التداخل في أهم مصدر عن رابعة «صفوة الصَّفوة» لابن الجوزي (ت 597 هـ)، الذي جعل قبر الشَّامية قبراً للبصرية بالقدس، يقول الحموي (ت 626 هـ): قد اشتبه على الناس فقبر البصرية بالبصرة وهذا قبر الشَّامية (معجم البلدان). ولكم القياس كم ضريحاً صار ضريحاً لغير صاحبه المشهور به، بل كم ضريحاً لا وجود لرفات فيه إلا في المخيلة! وكم دماء سفكت حوله. وأقول: أيتهما صاحبة المسجد الذي صار مكاناً للاحتجاج: الشَّامية أم البصرية؟ وهذا الذهبي (ت 748 هـ) في «تاريخ الإسلام» يذكر توهم ابن الجوزي، في حياة الرابعتين، وكذلك توهم ابن خلكان (ت 681 هـ) بين الرابعتين (وفيات الأعيان).
وجد المقدسي (ت 380 هـ) قبرها بالبصرة (أحسن التقاسيم)، أما الجاحظ (ت 255 هـ) فيذكرها في «الحيوان» و«البيان والتَّبيين» برابعة القيسية، ولا يأتي بخوارق لها، فعلى ما يبدو أن ما نُسب إليها وضعه المتأخرون. ولوفاة العدوية تاريخان (135 هـ) و(185 هـ).
عُرفت رابعة بالعشق الإلهي، ولا نعلم أيهما الشَّامية أم البصرية، ما سماه ابن عربي (ت 638 هـ) بـ«الحب المعلول»: «قول المرأة المُحبة، يُقال إن هذا القول لرابعة العدوية المشهورة» (الفتوحات المكية)، ومِن هذا صاغوا عبارة العشق الإلهي.” انتهى ما ذهب اليه رشيد الخيون بشأن ام الخير آل معتوق التي نجهل عنها كل شيء تقريبا.