فيينا / السبت 31 . 05 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
محمد علي محيي الدين
في الزمن الذي تتيبس فيه الكلمة تحت رماد الخوف، وفي الأرض التي تمطر دماً كلما أزهرت فكرة، ولد قاسم عبد الأمير عجام، لا كاتبًا فحسب، بل ضميرًا ثقافيًا يقظًا، يتنقل بين الحقول الزراعية التي أحبها علمًا ومهنة، والحقول الأدبية التي افتتن بها عقلًا ووجدانًا، فكان الحالم الذي اختار الكتابة طريقًا، والنقد سلاحًا، والحقيقة نداءً لا يهادن ولا يساوم.
ولد الشهيد قاسم عبد الأمير عجام في مدينة المسيب عام 1945، بين نخيل الفرات وهواء الحلة الذي يحمل عطر التراث وشجن الطموح. انتقل بين مدينتي المسيب والحلة، متشربًا من محيطه الاجتماعي والروحي سمات الإنسان الجنوبي: الطيبة، الصبر، والانتماء العميق للأرض. لم يكن غريبًا إذًا أن يدرس الزراعة، ويتفوق فيها، حتى حصل على الماجستير من جامعة بغداد سنة 1977، لكن حبه للأدب كان يشق طريقه في داخله كجذر سريّ لا يُرى، لكنه كان الأعمق أثرًا.
مارس عجام مهامه في ميادين زراعية وإدارية لعقود، من الباحث العلمي إلى مهندس في مشروع المسيب، حتى مدير عام. وكان دائمًا يقف في النقطة التي يتقاطع فيها الفعل المهني مع الحلم الثقافي، حتى بعد سقوط النظام، حين اختير مديرًا عامًا لدار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة، فأراد أن تكون الدار خيمة يتفيأ تحتها الكتاب والفنانون، ونافذة تنفتح منها الثقافة العراقية على العالم.
لكن اليد الآثمة لم تمهله طويلًا. ففي 18 أيار 2004، وبينما كان متجهًا إلى بغداد، خطفته رصاصات الغدر. لم يكن ذلك اغتيالًا لرجل، بل محاولة لإسكات مشروع نقدي وفكري كان يمكن أن يضيء دهاليز الفوضى الثقافية التي غرقت فيها البلاد بعد التغيير.
قاسم عجام لم يكن ناقدًا تقليديًا يكتفي بتوصيف النصوص، بل كان قارئًا استقصائيًا يمتلك حسًا تاريخيًا وجماليًا. آمن بأن النص لا يُفهم خارج زمنه وسياقه، وأن الناقد لا يمكن أن يكون محايدًا في زمن الخداع. كتب عن القصة والرواية، وارتاد فضاءات السينما والدراما والمسرح، فكان يرى الفن كيانًا موحدًا، لا تحكمه الحدود الشكلية، بل وحدة الرؤية والتعبير.
في كتابه الضوء الكاذب في السينما الأمريكية، لم يتناول السينما بوصفها فنًا بصريًا فحسب، بل كأداة أيديولوجية تحكمها سرديات الهيمنة والتضليل، محاولًا أن يفضح ما يُخفيه “البريق” من خطاب استعماري وثقافي مموّه. أما دراسته المخطوطة علي جواد الطاهر مقاليًا، فكانت بمثابة إعادة قراءة لأبجدية النقد العراقي الحديث، يسترجع فيها دور الطاهر بوصفه مدرسة في التلقي والتأمل.
وكتب أكثر من 300 مقالة عن المسرح والدراما التلفزيونية والأفلام، لم يكن هدفه فيها المديح أو الاستعراض، بل نقد الذوق العام، وتشخيص تحولات الذهنية الجمعية، وفضح الرداءة حين تتزيّا بلبوس الفن.
لقد عاش قاسم عجام مهمومًا بالحقيقة، يرى في الثقافة سلطة مضادة، لا تحابي ولا تهادن، بل تفضح القبح باسم الجمال، وتعيد ترتيب الوعي على نحو يسمح للناس بأن يروا ما وراء الستار، ويشككوا بما يُراد لهم أن يصدّقوه.
لم تمت أفكاره برحيله، بل تحولت إلى أيقونة في ذاكرة المثقفين العراقيين. فقد أقيمت له مهرجانات تأبينية وملتقيات في بغداد وبابل، وصدرت كتب تؤبّن روحه الحاضرة، مثل النور المذبوح والقابض على الجمر للدكتورة نادية العزاوي، وقتل الملاك في بابل الذي كتب فيه شقيقه الشاعر والصحفي علي عبد الأمير مرثية سياسية وثقافية مفعمة بالألم والفقد.
وكانت مسرحيته الأبدية “زمن الأسئلة” التي قُدمت في إحدى استذكاراته، عنوانًا دقيقًا لما مثّله قاسم: رجل الأسئلة الكبيرة، في زمن الإجابات الجاهزة.
لم يكن قاسم عبد الأمير عجام ناقدًا يكتب على هامش الأحداث، بل كان صوتًا من داخل الجمر، ينطق بالحقيقة وسط الركام، ويؤمن أن المثقف ليس مَنْ يُصفّق للواقع، بل من يعريه ويُعرّف به، حتى لو كلفه ذلك حياته. وهكذا كان، قُتل لأنه أراد أن يزرع العقل في أرض الخراب، ويضيء بالنقد دروبًا أغرقتها الأدلجة والرداءة. سلامًا لروحه… وسلامًا لكل ناقد حمل قلمه بصدق في زمن البنادق.
لقد كان عجام مدار اهتمام الكتاب والناقدين وهناك شهادات وكلمات من أصدقاء الدرب ومحبي القلم قيلت في ذكراه، فقد كتب الناقد فاضل ثامر – في استذكار نُشر في جريدة “الصباح”: “كان قاسم عبد الأمير عجام من أولئك النقاد الذين يحملون رؤيا مثقفٍ عضويّ، ناقد لا يقرأ النص بعين مجرّدة، بل يربطه بتحولات المجتمع وتقاطعاته. كانت لغته نقدية متماسكة، بلا حذلقة، وكتاباته عن الدراما خصوصًا تمثل أرشيفًا حيًّا لعقل متوقد ومثقف واسع الأفق.”
وكتب شقيقه الشاعر والصحفي علي عبد الأمير –في كتاب قتل الملاك في بابل: “كان قاسم مشروع ثقافة ووطن، رجل لم يسعَ للمنصب، بل جاءه المنصب مَدينًا له، فأراد تحويل دار الشؤون الثقافية إلى مكان يُدار بالعقل الثقافي لا بالعقل الوظيفي. لكنّ من أرادوا إغراق العراق بالفراغ، لم يحتملوا نغمة مثقفة وسط جوقة الضجيج، فأسكتوه جسدًا، لكنه ظل حيًّا فينا روحًا ونصًا.”
أما القاص سلام إبراهيم – فقد قال في ندوة استذكارية نظّمها اتحاد أدباء بابل: “أتذكر حين التقيته في مهرجان القصة ببغداد في الثمانينات، كان لا يضيع فرصة لنقد الركاكة والتمجيد المجاني في بعض النصوص، دون أن يُحرج أحدًا. كان هادئًا في صوته، لكنه صارم في فكرته. كان يرى النقد أداة تحريض على الوعي، لا أداة تجميل للنصوص.”
وأشاد الفنان المسرحي كاظم نصار – عند عرض مسرحية “زمن الأسئلة”: “كتب عجام أكثر من مقال عن أعمالنا المسرحية، وكان قارئًا دقيقًا للتفاصيل، لا يكتفي بالنص بل يذهب إلى حركة الممثل، إضاءة الخشبة، وانفعالات الجمهور. لذلك حين كتبنا مسرحية زمن الأسئلة عنه، شعرنا كأننا نكتب عن الضمير المغدور فينا.”
فيما تقول الدكتورة نادية العزاوي – في تقديمها لكتاب القابض على الجمر: “الكتابة عن قاسم ليست رثاءً، بل محاولة لفهم معنى أن يكون الإنسان مثقفًا في بلدٍ يطارد فيه القتلة الحبر والنبض. كتابي هذا شهادة على أن عجام كان يُمسك جمرة النقد بيديه العاريتين، دون تراجع، ودون رغبة في النجاة.”
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات