السيمر / الأربعاء 26 . 10 . 2016
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
سطع نجم محمد دحلان في الأيام القليلة الماضية، واحتل حيزاً كبيراً من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، وشغل الأوساط الشعبية والرسمية عامةً، لا من الناحية السياسية التي يشغل فيها حيزاً دائماً، إذ هو موجودٌ وحاضرٌ، وفاعلٌ ومشارك، ولا لجهة خلافاته مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي بات يجرم كل من انتسب إليه بصداقةٍ أو علاقةٍ، أو اجتمع معه في لقاءٍ أو بالمصادفة، أو نسق معه والتزم بأمره، أو اقتنع بأفكاره وشجع عليها، حتى بات دحلان بالنسبة للبعض وباءً خطيراً وطاعوناً قاتلاً، يصيب كل من اقترب منه أو لامسته كلماته، أو دغدغت عقله أفكاره ومشاريعه، وتصريحاته وأقواله، بالنظر إلى حجم العقوبة وطبيعة التهمة التي ستوجه إليه، إذ أن “الدحلانية” وفق قانون رئيس السلطة تهمةٌ وجريمةٌ، تستوجب الفصل والطرد والعقوبة والتعزير والحرمان.
لستُ معنياً بما سبق أعلاه، فقد تكون هذه معركة فتحاوية داخلية، يخوض غمارَها عناصرُها والمنتمون إليها، وهذا حقٌ لهم وحدهم دون غيرهم بحكم الانتماء والانتساب، ولست مدافعاً عن دحلان وظاهرته السياسية وأوضاعه الحزبية، فهو أقدر بنفسه وبمن معه على الدفاع عن قضيته وعرض أفكاره، والقتال من أجل استعادة رصيده في حركته التي انتسب إليها صغيراً، وقدم فيها شاباً، ويرى أن من حقه أن يعود إليها، وأن يحافظ على أرصدته الوطنية فيها، وأن يناضل في صفوفها، وأن يكون قريباً من قواعدها التنظيمية، كما أنني لست مؤيداً له في معركته أو معارضاً، وإن كنت أتمنى أن تعود حركة فتح حركةً موحدةً قويةً أصيلةً كما كانت قديماً ملء سمع الدنيا وبصرها، إذ أن قوتها قوة للشعب وصيانة للقضية، ما حافظت على أصول انطلاقتها وميثاق ديمومتها.
إنما الذي يعنيني كفلسطيني من قطاع غزة، هو البعد الإنساني في خطاب محمد دحلان في الفترة الماضية، فقد شنف آذان الفلسطينيين في غزة، وأولئك الذين يرنون بعيونهم إليها من بعيد، إذ أن قلوبهم معلقة بالقطاع وتسكنه، ويؤلمهم حاله ويحزنهم ما آلت إليه أوضاعه، فأهلهم هناك يعانون ويقاسون، ويتألمون ويعذبون، نتيجة الأوضاع القاسية التي يشهدها القطاع، والحصار المشدد المفروض عليه من قبل مصر، والذي أدى إلى تحول القطاع الصغير مساحةً إلى سجنٍ كبيرٍ يضم بين لابتيه الضاريتين مليوني فلسطيني، وقد انشغل عنه العرب، وتركوه للعدو نهباً وللجار وحيداً، فبات مسحوقاً وكأنه بين المطرقة والسنديان.
بدا واضحاً أن لمحمد دحلان يدٌ وإن كانت خفية، ودورٌ وإن بدا غير مباشرٍ في فتح معبر رفح لأيامٍ نعدها بالمقارنة مع الإغلاق التام للمعبر على مدى العام طويلةً جداً، حيث تمكن آلاف الفلسطينيين من اجتياز المعبر من الجانبين، وعاد العالقون، والتحق الطلاب بجامعاتهم، والموظفون بوظائفهم، وأدرك المرضى أنفسهم وأجسادهم التي أضناها المرض، وأنهكها السقم، فوصلوا إلى المستشفيات المختلفة، واستعادوا آمالهم في الحياة، ولحق الأزواج بزوجاتهم، والأطفال بأهلهم، والمشتتون هنا وهناك ببعضهم، فالتأم شمل الأسر، واجتمعت العائلات التي مزقتها الظروف والسياسات، وارتسمت رغم الألم بسمةٌ على الشفاه، وعلت الضحكة رغم المعاناة، وتزينت البيوت رغم فقرها، وطابت الليالي والأيام رغم مرها.
رسالتنا الإنسانية إلى محمد دحلان بكل الحب والتقدير والاحترام، أنك قادرٌ على إسعاد أهلك، ومساعدة شعبك، ورفع الحصار عن إخوانك، والتخفيف من آلامهم، وتحسين بعض ظروفهم، والنهوض بأوضاعهم، فإنك في مقامٍ قادرٌ على أن ترسم البسمة على الشفاه المعذبة، التي يبست من طول الأمل، وقادرٌ على أن تعيد الأمل إلى المرضى والمصابين الذين رضوا بالقدر واستسلموا للوجع، وإلى الطلاب الذين يكادون يفقدون فرصهم في الدراسة، أو الموظفين الذين قد يطردون بسبب غيابهم من وظائفهم.
أنت غزيٌّ يا محمد، وابن خانيونس ومخيمها، وقد عشت في دروبهما وكبرت في شوارعهما، وكلاهما في الأتون الملتهب يتضوران، وتحت الحصار يعانيان، ومن العدو والجار يقاسيان، فانظر إلى أهلك بعينك البصيرة ويدك القادرة الطويلة ولا تقصر، وامدد إليهم بسببٍ تستطيعه، وقدرةٍ تملكها، وسعةٍ تستطيعها، ولا تبخل بجهدٍ أنت عليه قادر، وفرجٍ أنت به زعيم، ومساعدةٍ أنت تملكها، واعلم أن شعبك لن ينسَ جهودك، ولن يترك عملك، ولن ينكر دورك، ولن يجحد ما تقوم به اليوم وما قامت به من قبل زوجك، فقد فتحت بيوتاً مغلقة، وعمرت أخرى جديدة، وزوجت شباناً وكست عرساناً وما زالت تعمل، والناس بذكرها تلهج، تنتظر قدومها، وتتهيأ لاستقبالها، وتسعد بما تقدم وتمنح، ولو كان قليلاً يخفف، أو بسيطاً يفرح.
لا يخفى عليك محمد أن في مصر معتقلين فلسطينيين لأكثر من سببٍ، وهم في سجونها يعذبون ويضطهدون، وقد مضى على اعتقال بعضهم أشهراً وعلى غير سنواتٍ، ولا يعرف عنهم أهلهم شيئاً سوى أنهم في السجون المصرية مغيبون، فهلا سعيت للإفراج عنهم، وعودتهم إلى بيوتهم وأسرهم، وجمعهم مع ذويهم وعائلاتهم، فليس أعظم عملاً وأرجأ فعلاً من تحرير الأسير وفك العاني، وإطلاق سراح السجناء، فكيف إذا كان المعتقلون هم إخوانك وجيرانك وأبناء حيك وأهل بدك، فعجل بالسعي من أجلهم، وبالوساطة لتحريرهم، أياً كانت انتماءاتهم التنظيمية أو ولاءاتهم الحزبية، طالما أنهم فلسطينيون فقط.
هنا يا محمد تظهر المروءة وتسمو الشهامة، ويتقدم أصحاب النخوة، وترتفع أعناق الكرام، وتبين معادن الرجال، ويعرف الناس إن كان ما يبرق ذهباً، وأن ما تحتهم جواداً، فّكِرْ أمام قومك كعنترة وذُد عنهم، وكن فارسهم الذي يأملون، ودافع بما تستطيع عن حقوقهم، وانقذ من هم في حاجةٍ منهم بعلاقاتك وقدراتك وإمكانياتك، وابذل ما استطعت من جهدٍ لرفع الحصار عن أهلك، واعلم أن أهلك باتوا ينظرون إليك بأملٍ ورجاء فلا تخيب رجاءهم، ولا تزيد في معاناتهم، ولا تتأخر عن رفع الضيم عنهم، وطوبى لك إن كنت فارسهم، وهنيئاً لك إن كنت أنت رجاءهم، وإن كانت لك يوماً زلة فاليوم تجتازها، وإن يوماً كبوت فاليوم تنهض، ولكن فليكن عينك على شعبك، وقلبك على أهلك، تشعر بهم وتعمل لأجلهم، وتضحي في سبيلهم، وتتنازل من أجلهم، وتقاتل نصرةً لهم وفي سبيل تحصيل وتحصين حقوقهم.
هي رسالةٌ إنسانيةٌ لك محمد من أهلك في غزة، أضعها بين يديك بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن أهلنا، ممن لا يتعاطون السياسة، ولا يتدخلون في شؤونها، ولا يعنيهم أمرها، ولكنهم ممن ذاقوا مرها واكتووا بآلامها، ودفعوا من صحتهم وحياتهم ثمناً لها، هؤلاء يرون أن عندك القدرة على فعل الكثير لهم، وصنع العزيز من أجلهم، فلا تتأخر عنهم، ولا تألُ جهداً ينفعهم، وكن لهم عوناً ونصيراً، وأخاً ورفيقاً، وانهض نبيلاً وقم شريفاً، واعلم أن الكبير هو من كان بين أهله كبيراً، وبهم عظيماً، وعندهم مبجلاً وأمامهم مقدماً.