السيمر / الاثنين 29 . 05 . 2017
*عبدالجبارنوري
مقداد مسعود/ 1954 شاعر وناقد عراقي معروف ومشهور يحمل رقماً ثراً متلئلئاً وساطعاً في أرشفة الذاكرة الوطنية الأدبية والثقافية العراقية في أصداراته لمجموعاته الشعرية – الزجاج وما يدور في فلكهِ 2009 ، المغيب المضيء2008 ، زهرة الرمان 2009 ، بساطيل عراقية 2016 ، ولهُ كتاب ” الأذن العصيّة واللسان المقطوع ” 2009 .
ربما يبدو أختيار الشاعر مسعود للعنوان غريباً لأول وهلة بيد أن خبرتهُ التقنية في نسج النص الأدبي في أرشفة مدونة المؤرخ شعراً وبهذا التسلسل التأريخي لعمري أنّها تجربة أقتحامية غير مسبوقة بل من النوع الصعب الممتنع ، فأختيار الشاعر للعنوان هو قمة الذكاء والفطنة الثرية في دراسة خلجات وأرهاصات أعماق الذات العراقية المكتوية والمستلبة منذ تأسيس هذا الوطن المبتلى ، وأنهُ وُفق تماماً في جعل البسطال بوجهيه الأحمر والأسود رمزا لتلك المعاناة الشظفية القاسية للطبقات المسحوقة من الفلاحين والعمال والشغيلة وهي من أدبيات الحزب الثمانيني الثورية ، حيث أن لغتهُ الشعرية مستمدتاً من أفكارهِ الثورية وتراكماتهِ المعرفية وفلسفتهِ السردية التي ترتكز على ( كل شيء أو العدم ) ولا تفارق أنفعالاتهِ وأحاسيسهِ المرهفة والأنيقة الشفافة المتلقي العراقي المستلب لتوقض فيه ذلك الجرح العميق الذي ربما هو بعمق تأريخ وجغرافية هذا الوطن المنكوب منذ 1921 ومروراً ببريمر اللص وحتى رجال معارضة المنافي الذين ضيّعوا العراق بعد 2003 ، وهذ التجربة العملاقة لهذا الشاعر العملاق في تلاقح والتوليف الماسي الرائع بين الحدث التأريخي وحديث الشعر بعد فلترتهِ بالمحرك الدراماتيكي لجني الشاعر السحري ليبث ذبذباتهِ إلى القاريء المتعطش إلى الصورة الحيّة الواقعية التي أنطقها مقداد مسعود برؤية فكرية وسيلتها سحر اللغة الشعرية .
فسيميائية العنوان في المجموعة الشعرية ” بساطيل عراقية ” للشاعر والناقد البصري المتألق ” مقداد مسعود ” تحمل كل مفردات السيمياء التي هي أداة لقراءة السلوك البشري في مظاهره المختلفة بدءاً من الأنفعالات ومروراً بالطقوس الأجتماعية والسياسية والثقافية والأنتهاء عند الآيديولوجيات المفروضة على الواقع ، وكونهُ العلم العام والنشاط المعرفي وعلاقته باللسانيات والفلسفة والمنطق وعلم النفس والأنثروبولوجيا ، ولأن العنوان هو هوية المتحدث الرسمي عن سردية النص والمدخل الذي يحتاجهُ القاريء ، فالأحساس الصادق عند ” مسعود ” وهو أستاذنا في أختيار مثل هذا العنوان الذي يعطي الحرية للمتلقي في التأمل والبحث والمحفزلأتمام القراءة وأستيعاب المضمون والهدف والمغزى ، ويكاد أن يقول لنا ( بأن العنوان يأخذ الصدارة والأولوية لدى المتلقي لذا تألق المبدع الأستاذ ” مسعود ” في أن يجعل لمجموعاته الشعرية رقماً متميّزاً والذي تمكن من أستيعاب معطياته السيميائية على نحوٍ متميّز في صياغة الأحداث وزمكنتها في الترتيب الشعري بدون أن يؤثر في المدونة التأريخية وواقعيتها ، فكانت مجموعته الشعرية ” بساطيل عراقية ” سرد نثري لأبياتٍ من الشعر صاغها الشاعر بدقةٍ وشفافية ليعبرعن الواقع بمرارته وحلاوتهِ البخيلة
قراءة لسردية النص في المجموعة الشعرية ” بساطيل عراقية ” للشاعر والناقد مقداد مسعود :
-أن التأريخ مشحون في أعماق مقداد مسعود ، وكانت المجموعة الشعرية سرداً قصائدياً في زمكنة مفاصل تأريخ العراق السياسي المعاصر ، وجعل للبسطال رمزاً أسطورياً لما يتميّز بهِ في فضاءات القيم السوسيولوجية والتي ميّزتهُ عن السدارة التي هي تاج الرأس .
– لم يرضخ للخيال الشعري بيد أنهُ وظّف الخيال مع الصورة الواقعية ليقدم للمتلقي نصاً واقعياً ينفثْ ألماً للمواطن المغترب تحت خيمة الوطن ، وهي توليفة حداثوية في أفصاح الشاعرالمناضل اليساري مسعود عن المشهد العراقي المأزوم بجغرافيتهِ عبرقرنٍ من الزمن ، فكل مقاطع القصيدة الشعرية ونصوصها السردية تبرز ( التعرية ) لذلك العراقي المستلب والمغيّبْ جسداً وروحاً وفكراً وثقافة ، ويبرز الكاتب العبقري توأم الفقر والفلتان الأمني مع مسيرة الوطن المذبوح .
– وتبدو لهيمنة التأريخ على كتابة نصوص المجموعة الشعرية بصياغة حداثوية معاصرة حيث أبدع هذا الشاعر والناقد المتألق في أخضاع القيود النصيّة وترويضها عبر أستخدام لغة شفافة مؤثرة لأيصال المعلومة المعرفية للمتلقي بطريقة سحرية نادرة الطرق وقد تكون غير مسبوقة .
– يلمس القاريء في كتابات مقداد مسعود مخاطبة مباشرة للذات البشرية في توظيف درامي للنصوص الشعرية يمكن رؤيتها من خلال ذاكرة هذا الشاعر المرهف في تدجين سرديات الأحداث وتوظيفها داخل نص مؤطر بالأنسنة والأنسنة فقط ، فمفردات اللغة السحرية التي صاغ بنيانها الأدبي في مجموعته ” بساطيل عراقية ” لتحويل آهات المتلقي في خزين الذاكرة العراقية والتي تزدحم فضاءاتها بالسالب والمستلب بين الضحية والجلاد .
– وأبدع في أنطاق ( النص ) السردي إلى أشكال وصور حيّة تمثلت بصور حياتية واقعية كان للبسطال العراقي دوراً بارزاً في تجسيد مدونة التأريخ شعراً منذُ تأسيس الدولة العراقية وحتى 2017 ، أنشد في أحداث 1936 لحركة بسطال بكر صدقي الأنقلابية ، جسّد في البسطال وجهين وجه الرحمة في الوقوف ضد سياسة التتريك للمستبد كمال اتاتورك والوجه الثاني وجه التعرية والأستلاب، يفرز الشاعر ببراعة وأناقة بين شهوة العسكرة والسيطرة في بساطيل بكر صدقي وبين أفواه وأرانب تبحث عن رغيف خبز وبيت حتى من صفيح للمأوى .
بعض نماذج للمجموعة الشعرية “بساطيل عراقية “: المؤرشفة للمدونة التأريخية
-{ 1936— تظاهرات / لا بساطيل فيها / تظاهرات شغيله ،طلاب ، عمال عاطلون عن الخبز / جياع لا أحذية ولا بساطيل يريدون / جاست بساطيل العسكر — بلاد آشور أباد الجيش بأمرة سدارة ونطاق وبسطال بكر صدقي 1500 آشوري / تأمل بسطالهُ وتقدم بقدمين عسكريتين نحو الفرات الأوسط / وداس البسطال أصوات الفلاحين الثوار }.
– وفي وثبة كانون 1948 ذكرنا مقداد مسعود ببطولات الشعب العراقي في أجهاض المعاهدة الأنكليزية الجائرة وأنتفاضة 18 حزيران 1953 وصاغ أبياتها بيسارية ثورية نابعة من مدرسة الحزب الشيوعي العتيدة — وينشد : { تحتل بساطيل الشرطة سطوح السجن / ترجم السجناء العزّلْ بالحجر / بالقنابل المسيّلة للدموع / تفتح خراطيم الماء / تفتح النار / ويتضرج ثمانية سجناء بزهرة الرمان / وينزف ثمانون سجيناً }.
– ومرة ثانية وثالثة يوضّحْ مقداد وببراعته الشعرية اللون الثاني للبسطال ذلك اللون الأحمر الدموي الذي ترك جرحاً عميقاً في الروح العراقية عند سحق البسطال البعثي لثورة أبي الفقراء عبد الكريم قاسم ، هنا يتألق الشاعر مسعود بأنشاد ترنيمة موجعة لا تزال جروحها العميقة الموجعة في الروح العراقية ، وبأستمرارية شاعر متمكن أن يضعنا والمتلقي في خضم ملهاة ترتجيدية مأساوية بكل شفافية ودقّةٍ وعنايةٍ أن ينسج شكلاً غنائياً حزيناً موجعاً وهو يمشي في سردهِ ثابت الخطوة يمشي ملكاً : { في 1963 بساطيل — بساطيل — جنود وضباط صف / تنهال بالصفعات والشتائم / على الزعيم الركن عبدالكريم قاسم / ممداً على شاشة تلفزيون بغداد / بملابسهِ العسكرية —- بجسدهِ الصائم — المضرج — المقوّس .
– وهل رأى الزعيم رعاة يرجمون العراق بالبساطيل بالبساطيل بالبساطيل}.ويشير (برمزية) بارعة لبساطيل الشوفينيين العملاء وهي تعدم وبدمٍ بارد جنود قاعدة سبايكر{ هل رأى الزعيم المئات المئات المئات من أولادهِ تسوقهم / بضعة بساطيل من معسكر / ليتكدسوا مقيّدين للخلف / في نهار حزيراني ضرير 2014 } .
– ويستمر الشاعر العملاق في أرشفة مدونة التأريخ العراقي شعراً ببراعتهِ المرهفة كيف لعبت بساطيل العراقي الفريق الركن هاشم سلطان في سحق آمال وتطلعات وكرامة العراقي في خيمة الذل ( خيمة سفوان ) 1991 والبسطال الأجنبي الجنرال شوارزكوف قائد قوات التحالف الدولي { ستتوجه بساطيل الحرس الجمهوري / بساطيل الحرس الخاص / بساطيل بلا أسماء / وتحقق أنتصاراتها على الثورة المغدورة } . ويذهب الشاعر الأنيق وببراعة سياسي يساري لبرالي وهو يقلب الأمور ويفند ذلك الصراع الطبقي وبأيمانهِ بحتمية التأريخ في التغيير يقف عند بوابة 2003 ليفضح آثار بساطيل شوارتزكوف واللص بريمر الذي مهّد لأحتلال أجزاء من الوطن الحبيب بعصابات خارجة عن المألوف والتغطية وعابرة للحدود ذات عقول ملوثة بالجهل وغيبيات خلافوية وهمية —-
* كاتب وباحث عراقي مغترب